التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بل درسنا الاستشراق ونبدأ الآن في دراسة الغرب!!!

 

بسم الله الرحمن الرحيم


بقلم الدكتور مازن بن صلاح مطبقاني

رئيس وحدة دراسات العالم الغربي بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

        جميل أن يهتم باحث بالاستشراق في هذا الوقت بالذات الذي تتكالب الأعداء على أمتنا، وتحتل الجيوش الأجنبية أجزاء من عالمنا الإسلامي. وفي الوقت الذي يغيب عن الكثيرين مكانة الاستشراق وأثره في القرار السياسي الغربي، وتوجيه سياسات الدول الأوروبية وأمريكا تجاه العالم الإسلامي. فقد قرأت مقالة الأخ الدكتور علي بن عبد الرحمن الدعيج المعنونة: "الاستشراق ...نشأته وأهدافه(الاستغراب)..وإمكانية تدريسه في الجامعات السعودية. في الثقافية  العدد 117 الصادر يوم 26 جمادى الآخرة 1426هـ

        لقد تناول الكاتب الفاضل تعريف الاستشراق في بداية مقالته ثم تناول نشأة الاستشراق وأهدافه، وأشار في ثنايا مقالته إلى الدكتور عمر فروخ وجمال سلطان وغيرهما، وطالب في ختام مقالته بأن تهتم جامعة الإمام وجامعة الأزهر بإنشاء أقسام للدراسات الغربية. ومن الطريف أن الكاتب تناول الموضوع بطريقة توحي بأن الموضوع لم يطرق من قبل أو لم يُسبَق إليه، ومع ذكر فإن جهده مشكور في تناول هذا الموضوع.

        إن الاهتمام بالاستشراق والاستغراب لهما تاريخ طويل في المملكة العربية السعودية بصفة خاصة وفي العالم العربي والإسلامي بصفة عامة، وأبدأ أولاً بالدكتور مصطفى السباعي رحمه الله أستاذ الشريعة بجامعة دمشق حيث أصدر كتابه المهم السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ليرد على افتراءات جولدزيهر حول الحديث النبوي الشريف والسنّة النبوية المطهرة. ثم أتبع ذلك بكتابه الصغير حجماً الكبير قيمة الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم، وتوالت الكتابات حول الاستشراق فها هي رسالة الدكتوراه المقدمة من الدكتور أحمد سمايلوفيتش تقدم في جامعة الأزهر بمصر وتنشر عام 1974م. كما نشر نجيب العقيق عن دار المعارف بمصر موسوعة المستشرقين في أربع مجلدات، ونشر عبد الرحمن بدوي رحمه الله موسوعة المستشرقين" في مجلد واحد. ونشر ميشال جحا كتابه الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا".

        وفي عام 1978م ظهر كتاب إدوارد سعيد الاستشراق باللغة الإنجليزية ليحدث ضجة كبرى في الأوساط الفكرية الثقافية الغربية لجرأته في نقد الاستشراق، وربط دراسة الاستشراق بنظرية السيطرة والمعرفة لميشال فوكو، ويتناول في كتابه نماذج من الاستشراق الإنجليزية والفرنسي ويوضح خطورة الاستشراق في رسم صورة الإسلام والعالم الإسلامي في الغرب. ولم يكتف سعيد بهذا الكتاب، بل أصدر بعده كتابه القيم الثقافة والإمبريالية ليزيد الأمر وضوحاً في الصورة السيئة التي رسمتها أقلام مبدعي الغرب في مرحلة مهمة من تاريخ الثقافة الغربية.

        ولم يتوقف سعيد عن مبارزة الغرب فينشر كتاباً مهماً حول تغطية الإسلام في وسائل الإعلام الغربية، ويستمر في هذا النهج المتميز في فضح التحيز والظلم للإسلام والمسلمين في كتابات الغربيين أو حتى من ينالوا الانتشار في الغرب كالكاتب النيبالي نيبور.

        ومن الاهتمام بالاستشراق في أنحاء العالم الإسلامي فقد عقدت العديد من المؤتمرات الدولية في كل من المغرب والجزائر والأردن وتونس حول الاستشراق.

        ولم يتوقف الاهتمام بالاستشراق ففي عام 1987م أصدرت وزارة الثقافة العراقية سلسة كتب الثقافة المقارنة باسم "الاستشراق" (في ثلاثة أجزاء)، كما  أصدرت مجلة الفكري العربي المعاصر عددين خاصين بالاستشراق هما العدد الثاني والثلاثين، والثالث والثلاثين. وأصدرت مجلة عالم الكتب بالتعاون مع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عدداً خاصاً عن الاستشراق عام 1403هـ

        وازداد الاهتمام بالاستشراق فها هو مكتب التربية العربي لدول الخليج يصدر كتابه من مجلدين بعنوان: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية الإسلامية وتصدر دار عالم المعرفة في جدة كتاباً بعنوان المستشرقون والإسلام. وكلاهما صدر عام 1405هـ(1985م).

        وفي عام 1403هـ أنشأت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قسماً متخصصاً لدراسة الاستشراق، ودراسة الاستشراق ليست إلاّ جزءاً من دراسة الغرب، ذلك أن الباحثين في الاستشراق عليهم أن يطلعوا على الفكر الغربي وجذور الفكر الاستشراقي. وكانت الدراسة في القسم في مرحلتي الماجستير والدكتوراه؛ فأنجزت العديد من رسائل الماجستير تفوق الأربعين رسالة، كما أنجزت أكثر من عشر رسائل دكتوراه كان أولها حول المستشرق المشهور برنارد لويس ومنهجه في دراسة الجوانب الفكرية في التاريخ الإسلامي. ومن الرسائل التي تناولت الغرب بعمق من خلال دراسة مؤتمرات المستشرقين على مدى أكثر من مائة عام هي رسالة الدكتور عبد المحسن السويسي حول مؤتمرات المستشرقين الدولية.

        وأنشأ القسم مركزاً للبحوث الاستشراقية والحضارية ارتبطت به وحدة المعلومات التي أنجزت ببليوغرافيا للاستشراق والتنصير ضمت أكثر من ألف مادة علمية. كما نشر المركز أول كتاب سنوي له.

        ولا بد من التوقف عند مهرجان الجنادرية الوطني الذي جعل موضوع العلاقة بين الإسلام والغرب موضوع ندوته الكبرى لمدة عامين حيث استضاف عدداً من الباحثين الغربيين من أمثال جون اسبوزيتو وبول فندلي وفوكوياما، وخالد يحيى بلانكنشب وغيرهم، بالإضافة إلى عدد من المتخصصين العرب والمسلمين في هذا المجال.

        ومن المحطات البارزة في الاهتمام بالاستشراق في المملكة العربية السعودية وفي العالم الإسلامي أن دُشّنَ أولُ موقع على شبكة المعلومات الدولية باسم "مركز المدينة المنورة لدراسات وبحوث الاستشراق www.madinacenter.com "؛ ليقدم معلومات أساسية حول الاستشراق من حيث النشأة والأهداف والوسائل والمناهج والآثار، ويقدم بحوثاً ودراسات في مجال الاستشراق والقرآن الكريم، والاستشراق والسنّة، والاستشراق والقضايا المعاصرة، كما يضم قسماً للإجابة عن تساؤلات الزوار حول الاستشراق.

        وأصبح هذا الموقع مرجعاً لأساتذة الثقافة الإسلامية المكلفين بتدريس مادة الثقافة الإسلامية أو الاستشراق في الجامعات العربية والإسلامية من ماليزيا حتى المغرب العربي، كما أنه أصبح مرجعاً يبدأ به طلاب الدراسات العليا الراغبين في إعداد بحوثهم في مجال الاستشراق، وهناك باحث في جامعة الأزهر فرع المنصورة يعد فصلاً في رسالته للماجستير عن هذا المركز والموقع.

        كما أن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد دعت المشرف على المركز أن يعد جناحاً خاصاً بالاستشراق في معارض وسائل الدعوة في كل من جدة والرياض والقصيم.

        أما الاهتمام بالاستغراب وهو ما دعا إليه الدكتور الدعيج فلم يغب عن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فقد قدم الدكتور السيد محمد الشاهد أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالرياض خطة لإنشاء كلية للدراسات الأوروبية والأمريكية للجامعة عام 1410هـ، وظهر فيما بعد كتاب ضخم لحسن حنفي بعنوان: مقدمة في علم الاستغراب وكان من أبرز ما برر به أهمية دراسة الغرب أننا يجب أن نتحول من ذات موضع الدرس إلى ذات دارسة، وأن نتغلب على مركب النقص الذي طغى علينا سنين طويلة.

        أما مركز الملك فيصل فاهتمامه بالاستشراق ثم الاستغراب فقديم جداً، ففي عام 1407هـ أقيمت ندوة حول الدراسات العربية الإسلامية في فرنسا استمرت أسبوعاً تناولت العديد من جوانب هذه الدراسات، كما ألقى العديد من المتخصصين في الدراسات الإسلامية محاضرات حول قضايا الاستشراق وكان منها المحاضرة التي قدمها كاتب هذه السطور بعنوان (الاستشراق وصقور البيت الأبيض) وكذلك محاضرة الدكتور قاسم السامرائي بعنوان: "الأوراق التجسسية للمستشرق الهولندي سنوك هورخرونيه" في نهاية موسم العام الماضي، ولكن الأهم من ذلك أن دعت عدداً من المستشرقين الأكاديميين من أمثال جون اسبوزيتو والمستشرقين الدبلوماسيين أمثال سفير بولندا والمجر إلى إلقاء محاضرات في المركز.

        أما الاستغراب فإن مجلة الفيصل قد نشرت مقالة بعنوان - متى ينشأ علم الاستغراب؟ في العدد 271، محرم 1420هـ، أبريل/مايو 1999م تناول فيها الكاتب أهمية إنشاء مراكز بحوث وأقسام علمية لدراسة الغرب، وأكد على أهمية هذه الدراسات. كما أن كاتب المقالة قد نشر كتاباً بعنوان (الغرب من الداخل: دراسة للظواهر الاجتماعية) حاول أن يقدم أنموذجاً لدراسة الغرب من الداخل من خلال دراسة بعض الظواهر الاجتماعية في الغرب.

        أما وحدة دراسات العالم الغربي فقد أنشئت في مركز الملك فيصل هذا العام، وهي تعد الآن لعدد من النشاطات من أبرزها

1-   إصدار مجلة دورية بعنوان دراسات العالم الغربي

2-    الإعداد لندوة سنوية تتناول الغرب من الجوانب الاجتماعية، أو السياسية، أو الاقتصادية، أو الثقافية وهكذا.

3-    استضافة باحثين غربيين للحديث عن بلادهم

كما أن المركز قد بدأ الاهتمام بالغرب ودراسته حين أصدر كتابه الأول في هذا المجال "المعتقدات الدينية في الغرب" وهو الآن يعد لإصداره الثاني في هذا المجال.

شكراً مرة أخرى للدكتور الدعيج على إثارته هذا الموضوع، وإن كان مثل هذا الموضوع قد نال اهتمام العديد من الجهات في المملكة العربية السعودية وفي بلاد عربية إسلامية أخرى.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الطبعة: الرابعة. الناشر: دار المعارف بالقاهرة (تاريخ بدون). عدد صفحات الكتاب: 219 صفحة من القطع المتوسط. إعداد: مازن صلاح المطبقاني في 6 ذو القعدة 1407هـ 2 يوليه 1987م بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة : يتحدث فيها المؤلف عن معنى التاريخ، وهل هو علم أم فن، ثم يوضح أهمية دراسة التاريخ وبعض صفات المؤرخ وملامح منهج البحث التاريخي. معنى التاريخ: يرى بعض الكتاب أن التاريخ يشمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون بما يحويه من أجرام وكواكب ومنها الأرض، وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان. ومثال على هذا ما فعله ويلز في كتابه "موجز تاريخ العالم". وهناك رأي آخر وهو أن التاريخ يقتصر على بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض.       وكلمة تاريخ أو تأريخ وتوريخ تعنى في اللغة العربية الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ودقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمن من ناحية التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله الم...

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

                                      بسم الله الرحمن الرحيم                                  ما أصدق بعض الشعر الجاهلي فهذا الشاعر يصف حال بعض القبائل العربية في الغزو والكر والفر وعشقها للقتال حيث يقول البيت:   وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا. فهم سيقومون بالغزو لا محالة حتى لو كانت الغزوة ضد الأخ القريب. ومنذ أن نزل الاحتلال الأجنبي في ديار المسلمين حتى تحول البعض منّا إلى هذه الصورة البائسة. فتقسمت البلاد وتفسخت إلى أحزاب وفئات متناحرة فأصبح الأخ القريب أشد على أخيه من العدو. بل إن العدو كان يجلس أحياناً ويتفرج على القتال المستحر بين الاخوة وأبناء العمومة وهو في أمان مطمئن إلى أن الحرب التي كانت يجب أن توجه إليه أصبحت بين أبن...

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية

                             يردد الناس دائما الأثر المشهور :(من تعلّمَ لغةَ قوم أمن مكرهم أو أمن شرَّهُم) ويجعلونها مبرراً للدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية أو اللغة الإنجليزية بصفة خاصة. فهل هم على حق في هذه الدعوة؟ نبدأ أولاً بالحديث عن هذا الأثر هل هو حديث صحيح أو لا أصل له؟ فإن كان لا أصل له فهل يعني هذا أن الإسلام لا يشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟ وإن كان صحيحاً فهل الإسلام يحث ويشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟         لنعرف موقف الإسلام من اللغات الأخرى لا بد أن ندرك أن الإسلام دين عالمي جاء لهداية البشرية جمعاء وهذا ما نصت عليه الآيات الكريمة {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً } (سبأ آية 28) وقوله تعالى { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } (الأنبياء آية 107) وجاء في الحديث الشريف (أوتيت خمساً لم يؤتهن نبي من قبلي، وذكر منها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). فهل على العالم كـله أن يعرف اللغة العربية؟ وهل يمكن أن نطالب كلَّ...