التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تقديم الدكتور أبو القاسم سعد الله لكتابي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

 

ليس هناك منظمة جزائرية كثر حول دورها الاستفسار والتساؤل مثلما حدث مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. فمن سائل عن موقفها من السياسة وقضية الاستقلال الوطني، ومن سائل عن موقفها من الطرقية ومسألة الإصلاح، ومن سائل عن دورها في الثورة التحريرية، ومن مستفسر عن علاقاتها بالمنظمات والحركات الإسلامية الأخرى في العالم الإسلامي. وكان هذا بالخصوص دیدن الطلبة في المدرجات الجامعية، ومكرور المتسيسين من جمهور المحاضرات والندوات العامة .
ويرجع ذلك في نظري إلى تعدد جوانب النشاط الذي قامت به جمعية العلماء خلال ربع قرن (1931 – 1909). كما يرجع إلى خفاء مراميها أحيانا عمن يكتفي بالمنطوق عن المفهوم، أو من يكتفي بقراءة السطور.

والحق أنه لا تكاد توجد منظمة وطنية تركت بصماتها على الحياة الجزائرية وأثرت على عقلية أهلها تأثير واضحة مثلما فعلت جمعية العلماء . وإذا كانت المنظمات الأخرى (بما في ذلك الأحزاب السياسية) قد خاطبت فئة معينة فقط، أو انحصرت في أبرز المدن فحسب، فإن خطاب جمعية العلماء كان قد وصل، أفقية وعمودية، إلى مختلف الطبقات الاجتماعية، أينما كانت ريفية أو مدنية. ومن ثم فقد هزت المجتمع الجزائري هزة عنيفة، كما أنها لم تستعمل الخطاب السياسي الذي لا يفهمه كل الناس، ولا الخطاب المادي الذي لا يهم كل الفئات، وإنما استعملت الخطاب العقلي والروحي (الدين – اللغة – التاريخ – التعلم الذي لا يستغني عنه أحد في المجتمع.

وبهذه الطريقة استطاعت جمعية العلماء في ظرف قصير نسبيا أن تصبح منظمة جماهيرية ، لها أتباع وأنصار في كل جزء من الوطن، ولها شعب – جمع شعبة-، ومدارس، ومساجد حرة، ومعلمون في كل قرية ومدينة. كما استطاعت بتلك الطريقة أن توحد البلاد فكريا وروحيا بعد أن مزقها الاستعمار شر تمزيق . ولعل جمعية العلماء هي أول المنظمات التي كسرت الحدود الجهوية، فكان توزيع المعلمين عندها يخدم هذا الهدف، وذلك بتعيينهم خارج مناطقهم الأصلية وتوجيه من كان منهم من شرق البلاد إلى غربها والعكس، وهكذا. وهذا الإجراء لم يطبق عند المنظمات الأخرى إلا في مرحلة متأخرة، وبالخصوص عشية الثورة

.
ويطول بنا الحديث لو أخذنا في سرد أعمال جمعية العلماء في الجزائر خلال ربع قرن، وليس ذلك من غرضنا هنا، ما دامت تلك الأعمال مسجلة في كتابات رجالها وصحفها، كما تناولها بعض الباحثين المختصين في الموضوع، جزائريين وغير جزائريين. وحسبنا هنا أن ننبه إلى أن جمعية العلماء اهتمت بالإنسان، فجعلته هو الهدف في كل تحركاتها، خاطبت عقله بالعلم والإصلاح والوطنية.. وخاطبت عاطفته بالدين والخطابة والتاريخ، وأنشأت لذلك جمهرة من الدعاة والخطباء والمؤرخين والصحفيين والشعراء والمعلمين، ووفرت لهم مراكز تمثلت في المساجد والمدارس، والنوادي، والصحف، والكتب. فكانت جمعية العلماء، من الناحية الفكرية، على الأقل، عبارة عن دولة داخل دولة . وكان العاملون فيها يحسون، بكل صدق، أنهم ليسوا أناسا کالناس، ولكنهم كانوا جنود في معركة وراءها، إذا کسبوها، النصر، والعزة للوطن ،والإسلام، والعروبة. ولم تولد فكرة الإصلاح سنة 1931 فقط كما يحلو لبعض الجهال أن يقولوا، ولكنها انبثقت في شكل إرهاصات عبر مراحل عديدة منذ الاحتلال. فقد كانت دعوة حمدان خوجة وأعمال الأمير عبد القادر، وكتابات عبد القادر المجاوي وعبد الحليم بن سماية والمولود بن الموهوب، وحديث المكي ابن باديس عن إصلاح القضاء، وحديث سعيد بن زکري عن إصلاح الزوايا، وغيرها، كلها كانت في نطاق تلك الإرهاصات. ثم كان حدیث الشيوخ محمد البشير الإبراهيمي والطيب العقبي وعبد الحميد بن باديس عن الإصلاح في المشرق، وتبني الشيخ المولود الحافظي لفكرة الحزب الإصلاحي، وظهور هذه الفكرة على ألسنة الشعراء مثل محمد العيد، والخطباء مثل أبي يعلى الزواوي إلخ، إلى أن تهيأت الظروف والنفوس التي كان لحركة الأمير خالد دور كبير فيها، فكانت جمعية العلماء سنة 1931 ثمرة الكل ذلك

     وأمام المد الاستعماري العنيف في تلك السنة (الاحتفال المئوي)، وشراسة قانون الأهالي، وغياب الوعي الشعبي، كان على الجمعية أن تنص في قانونها الأساسي على عدم التدخل في الشؤون السياسية. فحركة الأمير خالد السياسية حاربتها القوى الاستعمارية حتى قضت عليها ونفت صاحبها (1923)، والنشاط الشيوعي الذي ظهر خلال العشرينات واجه موجة من الإرهاب الاستعماري جعلته يتراجع إلى حين، ونجم الشمال الإفريقي الذي أعلن سنة 1927 عن هدفه السياسي (الاستقلال) صدر قرار بحله سنة 1929، رغم أنه كان يتمتع بنوع من الحصانة لوجوده في فرنسا وبعده عن قانون الأهالي الجائر. أما اتحادية النواب فلا حديث عنها هنا لأنها كانت أساسا ضالعة في ركاب الإدارة الاستعمارية، ومع ذلك لم تسلم أيضا من المضايقات . فكيف يكون مصير جمعية العلماء عندئذ لو جعلت العمل السياسي من أهدافها المعلنة؟ إن الجاهل بالأمور أو المتحزب الأعمى هو الذي ينعي على الجمعية عدم إدراج العمل السياسي في قانونها الأساسي . ثم هل يحتاج العمل من أجل الوطن إلى الإعلان الصريح عن النضال السياسي؟ إن حزب الشعب الجزائري، الذي ورث مبدأ المطالبة بالاستقلال عن نجم الشمال الإفريقي، كاد يحذف عبارة (الاستقلال) من قاموسه الرسمي خلال بقية الثلاثينات، مكتفية بدلها بكلمة التحرير أو التحرر (emancipation)، حتى يتفادى التصادم المباشر مع الإدارة الاستعمارية

       ومع ذلك فإن المقارنة بين جمعية العلماء وبين غيرها من المنظمات والأحزاب في الجزائر خطأ في نظرنا. ذلك أن المقارنة تكون بين شيئين أو أشياء تتشابه أو تتقارب وليس ذلك صحيحا بالنسبة لقضيتنا. فيمكن أن نقارن جمعية العلماء مثلا بجمعية علماء الهند أو جمعية الإخوان المسلمين في مصر أو نحو ذلك . كما يمكن أن نقارن حزب الشعب الجزائري بالحزب الدستوري التونسي وحزب الاستقلال المغربي وحزب الوفد في مصر إلخ. ونفس الشيء يقال عن هيئة النواب والحزب الشيوعي إذ يجب مقارنتهما بنظرائهما في بلدان أخرى. ذلك أن جمعية العلماء لم تكن تتكلم باسم جماعة کالعمال المهاجرين، أو باسم فئة كالنخبة المستغربة، أو باسم نظام دیني كالطرق الصوفية … إنها لم تكن واحدة من ذلك، بل كانت تتكلم باسم الفلاحين والعمال والتجار والمثقفين والنواب والطرقيين جميعا… كانت تعتبر نفسها أمة قائمة بذاتها، يجد فيها كل فريق من أولئك الفرقاء نفسه، ولو كان له رأيه الخاص بالنظر إلى الفرقاء الآخرين.
وكلما ذكرت أنا دور جمعية العلماء في الحركة الوطنية ، ذكرت دور رجال الفكر والدين من بلاد الصرب واليونان في حركاتهم الوطنية. فالمؤرخون، الذين يفهمون حركة التاريخ حقا، يبدأون في ذلك بحركة کوراییس اليوناني، وحركة أوبرادوفيتش اليوغسلافي، وأضرابهما من الحركات الثقافية القومية. أما ما جاء بعد ذلك في اليونان وصربيا من ثورات وصدام مع الدولة العثمانية فلم يكن سوى نتيجة للحركتين الثقافيتين اللتين قادهما کورایس وأوبرادوفيتش. فهل يمكننا أن نقول إن ما قامت به جمعية العلماء من إحياء علمي وتاريخي وتراثي، ومن إصلاح اجتماعي وعقائدي هو الذي هيأ النفوس ووحد الشعب، وأيقظ الحس الوطني، وأن الثورة الجزائرية ما هي إلا نتيجة لهذا الغرس؟ أعرف أن هناك من لا يسلم بهذا، ولكن من الأكيد أن قادة الجمعية، وعلى رأسهم المرحوم عبد الحميد بن باديس، كانوا يخططون لذلك.

     ولم تكن جمعية العلماء هيأة محلية لا تهتم إلا بشؤون الجزائر. إن قضايا العالم العربي والإسلامي التي نجدها في صحف الجمعية وفي نشاطها تشكل أكثر من الثلث تقريبا. ويبدو أن قادتها كانوا يعلمون علم اليقين أنه لا نجاح للجزائر بدون نجاح العالم العربي والإسلامي. والتاريخ في ذلك إلى جانبهم. فالضر الذي يمس الشرق يسري إلى الجزائر لا محالة، والعكس صحيح. يضاف إلى ذلك أن ثقافة عدد من رجالها كانت مشرقية أيضا ابتداء من جامع الزيتونة فالأزهر فالحجاز، إلخ. وكان التفاعل الفكري بين أولئك الرجال ورجال المشرق طبيعية وضرورية. فعلماء تونس ومصر والهند –الباكستان- والشام كانوا على صلة برجال جمعية العلماء وكانوا يحسون أنهم يعملون لغاية واحدة وإن اختلفت المواقع والوسائل. كما أن الحركات الفكرية والأدبية، مثل حركة محمد بن عبد الوهاب، وحركة الأمير شكيب أرسلان، وحركة الإخوان المسلمين، وحركة التقليد والتجديد في الأدب، كانت كلها تتلاقى في كثير من الأمور مع حركة جمعية العلماء. ومن ثم يبرز دور هذه الجمعية أيضا في الفكر القومي والجامعة الإسلامية والإنعاش الأدبي.

            ولقد تعرض كتاب الأستاذ مازن صلاح مطبقاني إلى كثير من هذه الجوانب في حياة جمعية العلماء ، فأبرز دورها الوطني والعربي والإسلامي ودرس مبادئها وبرنامجها وأهدافها وحدد علاقاتها فجاء كتابه بالجديد الكثير حول هذه النقاط.

    كما أنه استعان لذلك بوسائل البحث المتوفرة وجمع له مادة غزيرة استقاها من مظان عديد وقد كلفته أسفاراً وأموالاً وحصل من ذلك على ما لم يحصل عليه أبناء الجزائر أنفسهم بفضل جده وكده وإمكاناته اللغوية واستعداداته الفطرية في التقصي والبحث ، ورغم قصر المدة التي يعالجها الكتاب (193101939) فإن الأستاذ مطبقاني استطاع أن يقدم لنا عمل الجمعية خلالها واضحاً عميقاً مستنتجاً من ذلك عدة أحكام هامة، ولا سيما ريادة الجمعية في الفكر الوطني ونشرها للتعليم والقيم لروحية الفاضلة، وتغيير وجهة الجزائر من التغرب والفرنسة إلى العروبة والإسلام. كما أنه لم يهمل العراقيل والصعوبات التي عرفتها الجمعية أثناء أدائها لرسالتها.

         ونحسب أن قيام أحد الأساتذة العرب بدراسة دور جمعية العلماء في الجزائر فيه أكثر من مزى، وفي مقدمة ذلك إحساس الكثير من العرب والمسلمين بأن ما قامت به الجمعية إنما كان يخدم الأهداف البعيدة للحضارة العربية الإسلامية التي يعملون من أجلها الآن وغداً، وأن أثرها لم يكن قاصراً على الجزائر وحدها . وها هي الدراسات حول الجمعية تتسع في المشرقين العربي والإسلامي ، وفي الجامعات الأوروبية والأمريكية وكل دراسة تسلط الضوء على جانب من دور الجمعية ، سواءً في الجزائر أو في غيرها.

       أعود من حيث بدأت فأقول إن هناك استفسارات وتساؤلات حول مواقف ودور الجمعية وهذا أمر طبيعي لمنظمة مثلت حركة عميقة الجذور باسقة الفروع يصدق عليها قول المتنبي في قصائده:

                  أنام ملء عيوني عن شواردها        ويسر الخلق جراها ويختصم

       ونعتقد أن الأبحاث الجادة هي التي تجيب عن مثل تلك الاستفسارات والتساؤلات ومنها هذا البحث الذي بذل فيه صاحبه الأستاذ مطبقاني الكثير من الجهد والوقت حتى جاء على هذا النحو الرفيع.

ابن عكنون (الجزائر) في 22 أبريل 1986

                                                                                   

أبو القاسم سعد الله

                                                                           معهد التاريخ – جامعة الجزائر

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الطبعة: الرابعة. الناشر: دار المعارف بالقاهرة (تاريخ بدون). عدد صفحات الكتاب: 219 صفحة من القطع المتوسط. إعداد: مازن صلاح المطبقاني في 6 ذو القعدة 1407هـ 2 يوليه 1987م بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة : يتحدث فيها المؤلف عن معنى التاريخ، وهل هو علم أم فن، ثم يوضح أهمية دراسة التاريخ وبعض صفات المؤرخ وملامح منهج البحث التاريخي. معنى التاريخ: يرى بعض الكتاب أن التاريخ يشمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون بما يحويه من أجرام وكواكب ومنها الأرض، وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان. ومثال على هذا ما فعله ويلز في كتابه "موجز تاريخ العالم". وهناك رأي آخر وهو أن التاريخ يقتصر على بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض.       وكلمة تاريخ أو تأريخ وتوريخ تعنى في اللغة العربية الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ودقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمن من ناحية التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله الم...

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

                                      بسم الله الرحمن الرحيم                                  ما أصدق بعض الشعر الجاهلي فهذا الشاعر يصف حال بعض القبائل العربية في الغزو والكر والفر وعشقها للقتال حيث يقول البيت:   وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا. فهم سيقومون بالغزو لا محالة حتى لو كانت الغزوة ضد الأخ القريب. ومنذ أن نزل الاحتلال الأجنبي في ديار المسلمين حتى تحول البعض منّا إلى هذه الصورة البائسة. فتقسمت البلاد وتفسخت إلى أحزاب وفئات متناحرة فأصبح الأخ القريب أشد على أخيه من العدو. بل إن العدو كان يجلس أحياناً ويتفرج على القتال المستحر بين الاخوة وأبناء العمومة وهو في أمان مطمئن إلى أن الحرب التي كانت يجب أن توجه إليه أصبحت بين أبن...

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية

                             يردد الناس دائما الأثر المشهور :(من تعلّمَ لغةَ قوم أمن مكرهم أو أمن شرَّهُم) ويجعلونها مبرراً للدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية أو اللغة الإنجليزية بصفة خاصة. فهل هم على حق في هذه الدعوة؟ نبدأ أولاً بالحديث عن هذا الأثر هل هو حديث صحيح أو لا أصل له؟ فإن كان لا أصل له فهل يعني هذا أن الإسلام لا يشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟ وإن كان صحيحاً فهل الإسلام يحث ويشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟         لنعرف موقف الإسلام من اللغات الأخرى لا بد أن ندرك أن الإسلام دين عالمي جاء لهداية البشرية جمعاء وهذا ما نصت عليه الآيات الكريمة {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً } (سبأ آية 28) وقوله تعالى { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } (الأنبياء آية 107) وجاء في الحديث الشريف (أوتيت خمساً لم يؤتهن نبي من قبلي، وذكر منها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). فهل على العالم كـله أن يعرف اللغة العربية؟ وهل يمكن أن نطالب كلَّ...