آيباك .. المنشأ والدور بقلم بول فندلي

 

المدينة المنورة العدد (٢٤٧٤)٤ صفر ١٤١٨ح (٩ يونيو ١٩٩٧م)

      هناك لعبة معروفة يلعبها الصبيان في أمريكا تتسم بالعنف وتعتمد على القدرات الجسدية، تدور حول مرتفع من الارض او تل على كل متبار الاحتفاظ بقمته ضد محاولات الآخرين تحقيق نفس الغاية، والفائز هو من يحتفظ بقمة التل الى النهاية. وربما كانت هذه اللعبة هي الاصل في رياضة كرة القدم الامريكية .. لعبة التل هذه يجرى شبيه لها في الكابيتول هيل مقر الفرع التشريعي للحكومة الامريكية بواشنطن، فمبنى الكابيتول هيل مبنى على مرتفع من الارض ومنه اشتق اسمه، إذ يعني الاسم (تل الكابيتول) .. وقد فازت لجنة العلاقات العامة الامريكية الاسرائيلية بالمباراة التي تجرى هناك وتربعت على قمة التل بلا منافس او مزاحم.

   هذه اللجنة تعرف اختصاراً باسم (آيباك) مسجلة رسمياً لرعاية المصالح الاسرائيلية في الكابيتول هيل، وصادفت من النجاح ما جعلها تسيطر عليه سيطرة مستمرة منذ عهد الرئيس دويت ايزنهاور، فلم تخسر طوال تلك الفترة سوى معركتين، الاولى بيع طائرات الاستطلاع (الأيواكس) للمملكة العربية السعودية، والثانية بيع طائرات مقاتلة للسعودية أيضاً .. وقد حاولت آيباك إعاقة الصفقتين بكل ما تستطيع ولم تفلح.

    القيادة الفريدة والحازمة لأيزنهاور هي ما نبهت العناصر للموالية لإسرائيل في الولايات المتحدة الى خطورة وجود رئيس قوي الارادة والشعبية وقادر على اتخاذ قرارات لا تتفق ومصالح اسرائيل، لذلك سعت هذه العناصر الى تكوين جماعة ضغط تكون قادرة على مواجهة رئاسة من هذا النوع ففي عام ١٩٥٣ جمد ايزنهاور المعونة الامريكية لإسرائيل التي لم تتجاوز حينها ٢٦ مليون دولار، كما هدد بحرمانها من المزايا التجارية ان لم تقلع عن مشروعها لبناء قناة لتحويل مياه نهر الاردن، وقد فعل ذلك في وجه معارضة حادة من الساسة والجماعات اليهودية الموالين لإسرائيل في الولايات المتحدة، ومع ذلك نجح، وتراجعت إسرائيل عن اقامة القناة.

وفي اكتوبر ١٩٥٦، وفي ذروة الانتخابات الرئاسية اقدم ايزنهاور على تحد اقوى من الاول، عندما وقف موقفاً صلباً في حرب السويس اغضب حتى حلفائه في بريطانيا وفرنسا .. فقد شرعت اسرائيل في ٢٩ اكتوبر بالعدوان على مصر، فأصدر ايزنهاور على الفور قراراً بقطع المعونات الأمريكية لإسرائيل، وأوقف حتى شحن السلع الاستهلاكية اليها. واعلن انه سيؤيد قراراً للأمم المتحدة بتطبيق حظر اقتصادي على اسرائيل ان لم تنسحب قواتها من سيناء وغزة، وهدد ايضا بإلغاء ما تتمتع به التبرعات لإسرائيل من اعفاء ضريبي .. فعل ذلك في وجه معارضة داخلية يهودية غير معقولة، حتى ان الاحتجاجات التي انهالت على البيت الابيض احتكرت الاتصال به طيلة ايام .. وبلغت ضراوة المعارضة ان وزير الخارجية ذلك الحين جون فوستر دالاس قال: (لقد ادركت كم هو صعب ان لم يكن مستحيلا تنفيذ سياسة خارجية في هذه البلاد لا يقبلها اليهود.

    ومع ذلك سأحاول، ليس لأني معاد للسامية، انما لأني اعتقد ان ما قاله جورج واشنطن (لا يجوز ان يحول الارتباط العاطفي بدولة ما عن اتباع سياسة خارجية صحيحة، سليم).لكن دالاس لم يستطع مواصلة هذه السياسة، وقد فسر اسباب ذلك فيما بعد قائلا: (لم نستطع مواصلتها لأنها لم تلق من الرأي العام غير اليهودي في هذه البلاد سوى التجاهل، بينما قاومها الرأي العام اليهودي بضراوة) .. على اية حال لم تمنع هذه المقاومة ايزنهاور من عمل ما يريد، وفي وقت موسم الانتخابات الرئاسية!، لأنه واثق من نفسه، ومن شعبيته داخل الولايات المتحدة وخارجها. فلم تكن تعنيه اصوات اليهود التي لم يحز الا على ١٠٪ منها عند انتخابه في فترة الولاية الاولى، كما لم يك لديه نقاط ضعف شخصية او وظيفية يخشى منها .. الاغرب ان في انتخابات فترة ولايته الثانية حاز على نسبة اكبر من اصوات اليهود بلغت ٤٠٪.

استوعبت القيادات اليهودية في الولايات المتحدة الدرس جيداً. وأحست بضرورة انشاء جهاز ضغط قادر وقوي بإمكانه مواجهة رئيس له مواصفات ايزنهاور ووفقت الى ذلك، عندما بنت منظمة حسنة التمويل عالية الكفاءة سيطرت في النهاية على كل ما يتعلق بالسياسة الامريكية في الشرق الاوسط بالكابيتول هيل،  وفي الفرع التنفيذي من الحكومة ايضا .. فطوال سنوات عملها تعاملت آيباك مع ميول النقد لإسرائيل في الكابيتول هيل بكفاءة، وكتبتها لدرجة اننا لم نسمع بأي مناقشة جادة لممارسات اسرائيل غير المشروعة تدور في الكونجرس. ربما تلفظ عضو او آخر بكلمات تشي بالنقد، لكنه يفعل ذلك في اضيق نطاق وعلى استيحاء. احكمت آيباك حلقات عملها .. فأوكلت كل دائرة من الدوائر الانتخابية في الولايات المتحدة الى عدد من الناشطين للوالين لإسرائيل والمتلقين للتعليمات من آيباك، بأعضائه .. وأسست برنامجاً لدعم حملات المرشحين للكونجرس بالمال .. وشكلت فريقا من المحترفين لرسم السياسات المناسبة لخدمة المصالح الإسرائيلية بالولايات المتحدة .. بهذه الامكانيات والكفاءات اصبحت آيباك مدرسة لتدريب وتخريج المرشحين للمراكز الهامة ذات العلاقة بصنع السياسة الأمريكية في الشرق الاوسط.

أحد النجوم الصاعدة بسرعة من خريجي مدرسة آيباك ليونارد ديفيز، الذي عينته الحكومة الاسرائيلية مؤخرا في سفارتها بواشنطن. فقد عمل لفترة طويلة في آيباك، وهو وثيق الصلة بالدوائر في واشنطن عارف بأساليب عملها، ثم اصبح فيما بعد من كبار معاوني رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، والاخير اختاره لمنصب نائب رئيس البعثة الدبلوماسية الاسرائيلية ففي واشنطن، لا يرأسه الا السفير الاسرائيلي الياهو بن اليسار .. آخر عمل التحق به ديفيز في آيباك كان الاشراف على مكتب القدس. وهو متخصص في علاج المشكلات الامريكية الاسرائيلية، وذو علاقة شخصية مع شخصيات هامة في وزارتي الخارجية والدفاع الى جانب كثيرين بالكونجرس.

وليس لديفيز خبرة مباشرة بالسلك الدبلوماسي الرسمي، لكنه يفوق من لديهم هذه الخبرة بماله من مهارة في معالجة القضايا الشائكة، وتكوين التحالفات المفيدة ..وكان نتانياهو يرغب في تعيينه سفيراً بالولايات المتحدة لعدم رضاه عن اداء السفير الاسرائيلي الحالي بن اليسار، اذ يحمل الاخير مسؤولية برود العلاقات مع واشنطن في الآونة الاخيرة .. لكن بن اليسار لم يستسلم لمحاولات ابعاده، فحمل حقائبه وتوجه الى القدس، وهناك قال لرئيس الوزراء بانه سيقاوم أي اجراء يتخذ لإبعاده من منصبه، ونتانياهو يعلم انه يستطيع، فابن اليسار شخصية سياسية هامة داخل تكتل الليكود، وله فيه انصار عديدون. لذلك توصل نتانياهو الى حل وسط يكون بموجبه ديفيز مرؤوسا لابن اليسار وعينا عليه في نفس الوقت يتابع اخطاءه الى جانب مهام وظيفته.

      ديفيز ليس السياسي الدبلوماسي الوحيد الذي تخرج من مدرسة آيباك .. مارتن انديك السفير الأمريكي لدى اسرائيل خريج آخر وعمل في آيباك لفترة، وهو الآن مرشح لمنصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وجنوب أسيا .. ودينيس روس حلال عقد الشرق الاوسط في الادارة الأمريكية خريج مدرسة آيباك ايضاً وغيرهم كثيرون، بعضهم اقل لمعاناً، ومن لا يلمع اليوم قد يكون في سبيله للمعان غداً

ترجمة: محمد علي باناجة