بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف
المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
إن التاريخ من العلوم الإِنسانية الهامة، لأنه
يقص عليك الماضي في صورة قصص تأخذ منه العبرة، ويلفت نظرك إلى مواطن الضعف في عبارات
تسمع بين حروفها نداء التحذير، ويضع بين يدك وسائل القوة، ويهتف بك لتـأخذ القدوة
.
والأمة التي لا تاريخ لها تعتز به، تحاول أن تلفَّق الأحداث لتصنع منها تاريخًا لها، لأنها تحس أن أمة بلا تاريخ ترجع إليه، أمة دفنت نفسها مع الأموات، وإن كانت في عداد الأحياء .
ونحن والحمد لله أمة لها تاريخ مجيد، شهد به العدو
قبل الصديق، وحسدها عليه الأصدقاء قبل الأعداء، فليست كل أمة تستطيع أن تجد لها تاريخًا
حافلاً بكل هذه المفاخر، زاخرًا بكل هذه الفضائل ، ذلك لأن تاريخنا مسطر بوحي صادق،
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنه ليس تاريخ جيل من الأجيال، ولا صناعة
شعب من الشعوب، ولكنه تاريخ الإِسلام، وصناعة النبوُّة المؤيدة بالوحي الإِلهي .
نعم إن الذين جرت أحداثه على أيديهم بشر، يجوز
عليهم الخطأ والصواب، ولا أبرئ تاريخ أمة من الأمم من وقوع بعض الأخطاء ، غير أن الأخطاء
تتفاوت في جسامتها ونحولها ، كما أن بعضها يمكن تبريره بما يستسيغه العقل، ويطمئن إليه
القلب، وينشرح له الصدر، وبعضها لا يمكن تبريره لوضوح العمد عند ارتكابه، وظهور القصد
في وقوعه، وتضافر الأدلة على إرادة الإفساد والتخريب من المخطئين.
إن تاريخ الأمة هو المرآة التي تعكس صورتها الحضارية
على أجيالها المتعاقبة، وتظهر في جلاء حقيقة المبادئ التي قامت على أساسها الأمة، وأنت
حين تنظر فيها تستطيع بغير عناء أن تحكم حكمًا صادقًا على هذه الأمة ، ومدى ما وصلت
إليه من التقدم الحضاري ، أو الانحطاط العقلي، والتأخر الفكري.
ولما كان التاريخ بهذه المثابة من أوضاع الأمم ، وهو الدلالة على وضعها الحضاري والفكري كان لا بدّ لمن يريد أن يظهر أمة ما في غير صورتها الحقيقية، أن ينفذ إلى مراده من خلال دراسة تاريخها ، وعليه أن يعتمد الكذب أسلوبًا يسرد به أحداث التاريخ، ويتحرى الافتئات مصدرًا من مصادره. وإني لا أعرف تاريخ أمة من الأمم افترى عليه أكثر من التاريخ الإِسلامي، ولم أر تزييفًا للحقائق مثل هذا التزييف الذي ابتلى به تاريخ المسلمين، ولست أدّعي أن هذا الافتراء، وذلك التزييف من صنع الأعداء وحدهم، ولكن ومع شديد الأسف لبعض الفرق الإِسلامية دخل كبير في احتراف الافتراء، وصناعة التزييف .
ومن أشهر من افترى وزيف التاريخ الإسلامي في العصر
الحديث الكاتب المسيحي جرجي زيدان، الذي استتر برداء العروبة، وتوارى خلف شعارات القومية،
ومهد له الإِعلام الغربي ليلعب دوره الطبيعي في كتابة التاريخ الإِسلامي مشوهًا مبتورًا،
يزينه بأسلوب رقيق ممتع، ويغلفه بعناوين زاهية براقة، ويقدمه في صورة قصة غرامية أخَّاذة
.
وكان الدوي الإعلامي المنظم، وكان الإِطراء
والثناء غير المحدود، الذي جعل جرجي زيدان في طليعة الكُتَّاب العرب، ورائدًا من رواد
كُتَّاب التاريخ، كان ذلك كله تمهيدًا لأن يلج جرجي هذا الباب واثق الخطى ، ثابت القدم،
وكان على القراء البسطاء أن يتلقفوا كتبه، وعليهم أن يقتنعوا بكل ما فيها من غير مناقشة
ولا حوار، كيف وهو من الطليعة النادرة، والأفذاذ العباقرة؟ هكذا كان الإعلام المبرمج
يملأ آذانهم، وبهذه الكلمات البراقة كان يغزو قلوبهم حتى أسرفوا في تصديقه، ولم يعد
لديهم القدرة على الاعتراض أو التغيير .
واستغل الرجل هذه الغفلة، وبقدر إسراف الناس
في تصديقه والثناء عليه ، بقدر ما (كان يكذب ويزيف التاريخ، وكم كذب جرجي زيدان على
التاريخ الإسلامي وكم افترى) على أحداثه ووقائعه، وقد قيّض الله من يدافع عن هذا التاريخ
المفترى عليه ، وكان من بينهم الشيخ حسن حلواني ، من أهل المدينة المنورة، وقد اطلع
على كتابه تاريخ مصر الحديث وهو في رحلة إلى بلاد الهند، وهاله ما في الكتاب
من الكذب والتزوير سواء منه المتعمد، أم المنقول كما هو بخطئه من كتب المستشرقين دون
أن يعرف حقيقته جرجي زیدان.
وكتب الشيخ حلواني هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وسماه [ نبش الهذيان من تاريخ جرجي زيدان] وبينَ فيه نحو مائة خطأ وقع فيه جرجي زيدان، والحق يقال إن بعض الأخطاء يمكن أن يسمى خطأً مطبعيًا، وهو في الواقع غير قليل، كما أنه كرر بعض الأخطاء لتكررها في الكتاب، وقد علّق المحقق الأخ مازن مطبقاني في بعض حواشي الكتاب مبينًا ذلك ، وكان تحقيقه من الدقة والوقوف عند الحقائق العلمية ، وبيان ما قد وقع فيه الشيخ الحلواني نفسه من الخطأ عند ذكر بعض الأحداث ، أو نسبة الشيء إلى بعض المصادر وغير ذلك من الأمور التي تعطي هذا التحقيق قدرًا فائقًا من التقدير. كذلك كان المحقق دقيقًا، يشعرك بكثرة اطلاعه عندما يقارن بين ما كتبه الشيخ الحلواني وبين ما كتبه المؤرخون الموثوقون، ثم يظهر براعة الشيخ في النقل برغم ما كان عليه من السفر وعدم توفر المراجع لديه، بين أن سبب هذا الجهل هو اعتماده على النقل من كتب أساتذته المستشرقين دون تبصُّر، فقد كانوا يكتبون بلغتهم، وكان جرجي مقلدًا لهم ينقل عنهم دون العودة إلى المراجع العربية التي هي المصدر الرئيسي لهذا التاريخ مما أدى إلى خطأ واضح في أسماء الأعلام والبلاد والأماكن التي ذكرها في تاريخه
وأستطيع
هنا أن أسجل بعض الأخطاء العلمية التي وقع فيها جرجي زيدان، وأخذها عليه الشيخ الحلواني
بإيجاز لا يخل - إن شاء الله -.ادّعى جرجي أن عمرو بن العاص بعد ما فتح مصر بنى مسجدًا
على غرار مسجد مكة طولاً وعرضًا، وتعقب ذلك الشيخ الحلواني، وأثبت أن الخلاف كبير بين
المسجدين في الشكل وفي الطول والعرض. وادّعى كذلك أن الصكوك (النقود) ضربت في عهد الخلفاء
الراشدين، وبيَّن الشيخ خطأ ذلك، وأثبت أن الصكوك الإِسلامية لم تضرب في عهد الراشدين
.
وينسب جرجي زيدان الجعد بن درهم إلى بني مروان
حين يقول إنه عمّ مروان بن محمد، والصحيح المعروف تاريخيًّا أن الجعد أستاذ مروان بن
محمد أو خاله على رواية ضعيفة، وليس عمًّا له، ولو كان عمًّا له لكان الجعد عبشميًّا
كما يقول الحلواني وهو ليس كذلك، واسم الجعْد من الأسماء التي أخطأ جورج في نقلها حيث
كتبه (الجاد) وهذا دليل على أنه نقل من المراجع الأعجمية دون وعي، فاللغة الأعجمية
ليس في أبجديتها حرف العين، ويكتبون بدلا عنه الألف وقد نقلها جرجي كما كتبها أساتذته
بأمانة لئلا يخالفهم حتى في الخطأ .
وعندما
تقرأ تحقيق الشيخ الحلواني لموضوع شائع ذائع نقله جرجي بدون تحقيق، تقليدًا للكتب التي
ذكرته، وهو موضوع إهداء هارون الرشيد ساعة دقاقة لشرلمان ملك فرنسا، تشعر بأن الشيخ
الحلواني ناقد بصير، ومحقق مدقق، وذلك حين يهدم هذه التعرية، ويطالب القائلين بها بإثباتها
علميًّا، ويتحدى أن يستطيع أحد إثباتها بطريق علمي صحيح، ويقول لعل الذي أهدى الساعة
لملك فرنسا هو هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون، لأنه الذي كانت له بفرنسا علاقة،
وظنّ الناس أنه هارون الرشيد .
ويزعم جرجي أن الخليفة الواثق أراد أن يعزل أشناس
والي مصر سنة ٢٨٨ هـ ويعلق الحلواني على ذلك بقوله: كيف يكون ذلك والخليفة الواثق توفى
سنة ٢٣٢ هـ، فهل أراد عزله وهو في قبره؟
ثم يذكر خطأ جرجي وخلطه بين الكعبة الشريفة والحجرة
النبوية المنيفة ، حيث يزعم جرجي أن الوهّابيين حين فتحوا الحجاز نهبوا الكعبة الشريفة،
والمعروف أنهم استولوا على ما كان في الحجرة النبوية من النفائس والأموال والجواهر،
وقد أحسن المحقق في توضيح هذا الموضوع في حاشية الكتاب.
وأختتم هذه المقدمة ببيان خطأ فاحش وقع فيه
جرجي وذلك حين يقول إن سنّار دخلت تحت حكم المصريين، ويزعم أن عاصمة سنّار هي كردفان،
ويقول الشيخ الحلواني إن عاصمة سنَّار في تلك الفترة هي دارفور وليس كردفان .
وهکذا يحتوي الكتاب على حوار علمي دقیق في
کثیر من الأحیان، یکون هادئًا حينًا، وثائرًا في أكثر الأحيان، وبهذا يستطيع القارئ
أن يراوح بين الأسلوبين، ويستمتع بما في الكتاب من ملاحظات دقيقة وجيدة .
هذا
وأسأل الله أن ينفع به، وأن يبصرنا بحقائق تاريخنا، وأن يوفقنا للاقتداء بما فيه من
أمجاد سلفنا إنه على كل شيء قدير .
وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
جدة في يوم
الأحد ٣ صفر ١٤١٠ هـ ٣ سبتمبر ١٩٨٩ م
دكتور محمد
السيد الوكيل
أستاذ التاريخ
الإسلامي
بالجامعة
الإسلامية سابقًا
تعليقات
إرسال تعليق