من
المهم عند الحديث عن علم من الأعلام أن نعرّج بالحديث عن البيئة التي عاش فيها. فقد
أوجزنا الحديث عن الجزائر وظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى حين ظهور الشيخ
عبد الحميد بن باديس، ولعل من المناسب أن نذكر كلمة عن مدينة قسنطينة.
تقع قسنطينة في الجزء الشرقي من الجزائر وتبعد
عن العاصمة بحوالي أربعمئة كيلومتر وهي قريبة من الحدود التونسية. وقسنطينة مدينة داخلية،
ويعود إنشاؤها إلى القرن الثالث قبل الميلاد وكان يطلق عليها سبرتا ثم أعاد بناءها
قسطنطين سنة ٣٠٦ م - ٣٣٧ م وأطلق عليها اسم قسطنطينة، ولكن الجزائريين ينطقونها قسنطينة
بحذف الطاء الأولى وعند النطق بها سريعاً تُقلب النون الأولى ميماً. وأصبحت قسنطينة
مدينة إسلامية منذ بداية القرن الثامن الميلادي وظهر فيها النشاط الإسلامي في عهد الزيريين
والحماديين وذلك بإنشاء المساجد، والجوامع، والزوايا، والتكايا. ومن هذه الجوامع الجامع
الكبير ومسجد سيدي الكتاني ومدرسة الكتانية وجامع سوق الغزل وجامع سیدي الأخضر وجامع
سيدي قموش.
وتمتاز قسنطينة بتضاريسها الطبيعية فهي ممتدة
فوق رؤوس عدد من الجبال. فأول ما يصادف القادم إليها صخور الوادي والغابات الموجودة
في أعالي الجبال وجسورها الممتدة فوق هذه الوديان لتربط أجزاء المدينة. أما أحياؤها
القديمة فهي: حي القصْبة وبه مسجد ومنازل وسوق وثكنة، وحي الطابية، وحي القنطرة، وحي
باب القنطرة، وحي باب الجابية. ويتوسط هاته الأحياء سوق العصر ورحبة الصوف. وكانت المدينة
محصّنة بسور منيع تتخلله ستة أبواب محروسة نذكر منها باب الحنانشة في شمال غرب المدينة
وباب الرواح وباب الجابية وغيرها ([1])
ومن المهم أن نذكر بعضاً من جسور قسنطينة؛ فهناك
جسر باب القنطرة وقد بناه الأتراك، وهناك جسر سیدي مسید وقد بناها الفرنسيون على ارتفاع
١٧٥ متر ويقدّر طوله بـ ١٦٨ متر وهو أعلى جسور المدينة، وجسر ملاح وهو ممر حديدي يبلغ
طوله ١٢٥ متر وعرضه مترين ونصفاً. ([2])
أما مجتمع المدينة بعد الاحتلال فقد تكوَّن
من المسلمين واليهود (كانوا قبل الاحتلال) والأوروبيين، والأوروبيون منهم خليط من جنسيات
مختلفة؛ فمنهم المالطي والكورسيكي والإِيطالي والإِسباني، (ولم يكن عند هؤلاء عداوة
مكينة ضد المسلمين وبخاصة الإِيطاليون منهم فهم أقرب إلى مخالطة الشعب، والمالطيون
كان منهم مسلمون. أما التعصب الأوروبي فقد كان واضحاً في الجزائر ووهران وعنابة). ([3])
وبالنسبة لوصف المدينة من الناحية العمرانية والاجتماعية
فقد ذكرت جريدة النجاح وصفاً للمدن الكبرى قسنطينة ووهران والعاصمة الجزائر
جاء فيه: (في قسنطينة والعاصمة ووهران وباقي أغلب المدن الكبرى تجد حومتين [حيَّين]
أحدهما للنزهة والخلاعة وهي المأهولة بذوي الرفاهية وذوي المساكن الشاهقة، والأخرى
مختصة بالأهالي تتراكم مساكنها على بعضها، ضيقة طرقاتها. وإذا أرخى الليل سدوله رأيت
منعطف أنهجنا [شوارعنا] ظلاماً يتصادم فيه المارّون فكم من صاباط [زقاق] سلبت فيه أموال
وأزهقت فيه أرواح كما يعلم القارئ مما ينشر من الوقائع. وكم رأيت أوساخاً تنبعث منها
الميكروبات التي كانت سبباً في نشوء أمراض كثيرة ذلك الأمر الذي نزل بتونس أخيراً،
ومع ذلك فإن الهِمَّة لم تكن متوجهة إلى مدافعة هذه الأخطار.
أما
من جهة الأمن فإن الحومات [الأحياء] العربية دائماً مستهدفة لأخطار السلب والنهب والجرح
والقتل لعدم كثرة الشرطة فقد تمشي بالليل نهجين [شارعين] أو ثلاثة ولم تعثر على شرطي
يحرس الأمن العام ([4])
وقد تحدث مؤلف کندي عن إحساس عبد الحمید بن بادیس
بالغربة في مدينته التي احتل الأوروبيون الجزء الأجمل والأرقى فبها، وکیف کان یمر بالمسجد
الجامع، وقد اصبح كاتدرائية،
وما
كان يولّد في نفسه هذا الإِحساس من التفكير في القيام بعملٍ ما. ومع أهمية الوجود المادي
للأوروبيين فإن هناك جانباً آخر هو الوجود المعنوي وما أحدثه من تأثير في حياة كل مسلم
في
المدينة. ويشير الكاتب أيضاً إلى القلعة التي بناها الحفصيون وكانت موقع إحدى المعارك
التي دارت بين الجزائريِّين والفرنسيين والتي دمرها القائد الفرنسي الكولونيل كومب
Combes سنة ١٨٣٨ م / ١٢٥٤ هـ. ويضيف المؤلف منظر الأوروبيين
في القطاع الجديد من المدينة حيث يملؤون الشوارع يتفرجون على الأهالي. ويرى الجزائريون
هؤلاء مختلطين نساءً ورجالاً وتسير نساؤهم متبرجات ويتعاطون الخمور التي تنبعث روائحها
منهم. وفي هذه المنطقة لم يكن
الجزائريون
يلقون الترحيب. ومع ذلك كان يدخلها عدد كبير منهم، ولكنهم يعودون في آخر النهار بعد
أن يكونوا قد قاموا بخدمة الأوروبیین ([5])
[1] -
ولاية قسنطينة، دليل قسنطينة السياحي، أُصدر بمناسبة ملتقى الفكر الإسلامي السابع
عشر في شوال 1403هـ (1983م) ويراجع كتاب محمد المهدي بن علي شعيب أم الحواضر في
الماضي والحاضر- تاريخ مدينة قسنطينة
[3] -أحمد بن دياب، مقابلة شخصية، مرجع سابق
[4] -عبد الحفيظ الهاشمي، النواب البلديون والحارات
العربية، النجاح، قسنطينة، عدد 836 في 1- شعبان 1348ه (10 يناير 1930م)
[5]- Andre Dirlik, Abdul Hamid Ben Badis (1889-1940) Ideologist of Islamic
Reformism and Leader of Algerian National Movement, (PH.D Theses) p.141
تعليقات
إرسال تعليق