التخطي إلى المحتوى الرئيسي

آراءُ لويس حول السيرة في العهد المدني:

 


أولًا: المواجهةُ مع قريش:

     لقد تناول لويس مرحلةَ الجهاد والمواجهة بين المسلمين وكفار قريش، فصوَّره كما يأتي: "إنّ المهاجرين فقدوا جذورهم اقتصاديًّا، ولم يكونوا يرغبون في الاعتماد كليًّا على أهل المدينة فتحوّلوا إلى المهنة الوحيدة الباقية، وهي السّلب والنهب". ويضيف لويس بأنّ "كتّابًا أوروبيّين عبّروا عن كثيرٍ من السخط والنقمة على منظر الرسول يقود أتباعه في غاراتٍ على القوافل التجارية للسّلب والنهب، ولكنّ ظروف ذلك الزمن والمبادئ الأخلاقية لدى العرب ترى أنّ الغارات مهنةٌ طبيعية ومشروعة، ولذلك لا يمكن أنْ ننسب للنبي ما يشوّه سمعته لتبنّيه هذه الممارسات"([1]). وقد تحدّث لويس عن عددٍ من الغزوات فذكر أنّ المسلمين باغتوا الكفار في بدر، وأخذوهم على حين غرّة، فكسبوا كثيرًا من الغنائم ([2]). وأمّا صلح الحديبية فيشير إلى أنّ المسلمين شعروا بقوّتهم فخرجوا لفتح مكة، ولكنّهم تأكّدوا أنّ الفكرة غير ناضجة فتحوّلت الحملةُ إلى الحجّ فقط ([3]). أمّا نقض الصلح فيُرْجِعه إلى خلافٍ شخصي بحتٍ بين أحد المسلمين وأحدِ الكفار في مكة([4]).

لقد اهتمّ مونتجمري وات في كتابه (محمد في المدينة) بهذه المسألة حين تحدّث عن الأوضاع المالية للمسلمين في المدينة، وتحدّث عن الصحابة الذين مارسوا التجارة، ومنهم عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان. وقد أشار وات إلى الغارات بعد أن تحدّث عن ضيافة الأنصار لإخوانهم المهاجرين ([5]). 

     ولنتعرّف على مدى دقّة لويس في الرجوع إلى المصادر التاريخية؛ لا بدّ من عرضٍ موجَز للعمليات الحربية. فقد بدأت العملياتُ العسكرية بغزوة الأبواء أو ودان، ولم يقع فيها قتال، ولكنْ تمّ التّوصل إلى اتفاق صلحٍ مع قبيلة بني ضمرة، ثمّ أرسل الرسول- صلى الله عليه وسلم- سريّتين للتعرّض لقافلة لقريش ولم يحدثْ قتال. وفي ربيع الآخر من السنة الثانية كانت غزوة بواط لاعتراض سيْر قافلةٍ لقريش، ولم يحدثْ قتال، بل حدث اتفاقٌ مع بني مدلج. وفي أواخر رجب أرسلت سريّة بقيادة عبد الله بن جحش في ثمانيةٍ من المهاجرين فتعرّضوا لقافلةٍ لقريش وظفروا بها، وقتلوا قائدَها، وأسَروا اثنين من رجالها ([6]). ولمّا وقعت هذه الحادثة في الأشهر الحرم أبى الرسولُ- صلى الله عليه وسلم- أنْ يقبل الغنائم حتى نزلت آياتٌ تبيّن للمسلمين أنْ لا ملامة عليهم فيما فعلوا {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل} ([7]).

      أمّا غزوة بدر، فقد كانت في رمضان من السنة الثانية من الهجرة، وقد خرج الرسول- صلى الله عليه وسلم- مع ثلاثمائة من أصحابه لملاقاة عيرٍ لقريش، لم يزدْ عدد المهاجرين منهم على مائة رجل، وكان عددُ الأنصار مائتين وأربعين رجلًا، وكانت قافلة عظيمة يحرسها ثلاثون أو أربعون رجلًا ([8]). وعلمَ أبو سفيان بالخبر فغيّر اتّجاه سير القافلة ونجا بها. ولكنّ قريش لمّا بلغها خروج المسلمين أعدّت العدّة للمعركة وخرجت في ألف رجلٍ تقريبًا، ورغم أنّ أبا سفيان طلب إليهم العودة إلّا أنّ أبا جهل أصرّ على القتال، وأقسم أنهم سيقيمون ثلاثًا "يشربون الخمر وينحرون الجزور، وتغني لهم القيان لتهابهم العرب"([9]). وحدثت المواجهة التي لا يمكن أن تعدّ مِن أعمال الغزو أو السلب والنهب وكسب العيش، بل كانت مواجهة بين الحقّ والباطل.. والحقّ في قلةٍ من العدد والعُدّة، ولكنْ بكثيرٍ من الإيمان واليقين، والكفر بعدده، وعدّته، وخيلائه. ولم يكنْ فيها مباغتة للكفار كما أحبّ لويس أن يصوّر المعركة ليؤيّد افتراضاته.

       فإذا رجعنا إلى الأحداث التي ذكرنا سابقًا نجد أنّ المهاجرين ما كان بإمكانهم أنْ ينتظروا من ربيع الأول (بل وقبل ذلك؛ حيث كانت هجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد هجرة أصحابه) حتى وجبَ؛ دون عمل ولا كسب. ولا يمكن أن تكون الغنيمة التي غنمها المسلمون في تلك السرية تكفي لإعاشتهم. ويتجاهل لويس أنّ التشريعات الإسلامية نظمت التجارة فحرّمت الغش والخداع، والاحتكار والربا، وأمرتْ بالسماحة والعدل في البيع والشّراء ([10]). وكان القرشيون تجّارًا بطبعهم. ولنذكر عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- حين قال لأخيه ومضيفِه من الأنصار: أرشدني إلى السوق لأبيع وأشتري.. بعد أن عرض عليه نصفَ ماله كما عرض عليه أن يطلّق له إحدى زوجتيه ليتزوجها، فما كان من ابن عوف- رضي الله عنه- إلّا أنْ قال له: بارك الله لك في مالك وفي زوجك.. وانطلق إلى السوق ([11]). ثمّ إنّ الأنصار الذين نزلت فيهم الآيات التي تؤكّد كرمهم وإيثارهم ما كانوا ليدعوا إخوانهم المهجرين ينتظرون أنْ تبدأ المواجهة العسكرية مع قريش لتكون لهم وسيلةً لكسب العيش.

أمّا أنْ يكون منظرُ الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقود أتباعه يعترض طرق القوافل مما لا يعجب بعضَ المستشرقين أو يبرر ذلك لويس بأنّ أخلاقيات العرب كانت تسمح بذلك، بل تراه أمرًا طبيعيًّا؛ فالحقيقةُ أنّ قريشًا كانت قوافلُها من أكثر قوافل العرب أمنًا واطمئنانًا لما كانت عليه من معاهدات سلامٍ مع القبائل التي تمرّ قوافلها في أراضيهم. ولقد كانت مكاسبُ المسلمين كبيرة في معركة بدر، وهي نتيجة طبيعية من نتائج الحرب، ولكنها ليست الغايةَ من الحرب، ولئن اعترض المسلمون قوافلَ قريش فإنهم "كانوا في حالة حربٍ مع قريش فإضعافهم اقتصاديًّا وبشريًّا يعدّ من مقتضيات حالةِ الحرب، هذا فضلًا عمّا قامت به قريش من مصادرة أموال المسلمين عند هجرتهم من مكّة، ولا زالت حالة الحرب حتى الوقت الحاضر تسمح بضرب الطاقات البشرية والاقتصادية للعدو"([12]). ويمكن لنا هنا أنْ يشير إلى أنّ الغنائم حتى غزوة بدر لم تكفِ لإعاشة المئات من المهاجرين.

أمّا قوله إنّ نقض المسلمين لصلح الحديبية كان نتيجةً لخلاف شخصي بحت، فهو افتراءٌ على الحقيقة وتجاهلٌ للأخلاق الإسلامية التي لا يجهلها لويس. فإنّ الإسلام يحثّ دائمًا على الوفاء بالعهد، والوفاء بالعقود، كما جاء في القرآن الكريم: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولًا} ([13]). وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} ([14]). وقد أوردت المصادر التاريخية الإسلامية تفاصيلَ نكثِ قريش للصلح بتأييدهم بني بكر على بني خزاعة حتى جاء رئيس بني خزاعة- وهُم الذين دخلوا في حلف المسلمين- يطلب النصرةَ من الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد أن غدرت بهم قريش، وارتجز أبياتًا، منها:

يا ربّ إني ناشدٌ محمدًا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

هُم بيّتونا بالوتيد هجدًا

وقتلونا ركعًا وسجّدا

كما أنّ أبا سفيان جاء إلى المدينة يعتذر عمّا بدر من قريش، ويطلب من الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يجدّد في أمدِ الصّلح، وفشل أبو سفيان في الحصول على موافقة المسلمين بتجديد المعاهدة ([15]). فيلاحظ ممّا سبق أنّ الأمر لم يكن كما صوّره لويس مطلقًا الذي عمدَ إلى تسجيل تاريخ هذه الفترة مشوّهًا لأحداثها ومفسرًا لها التفسير المادي الذي عادةً ما يلجأ إليه المستشرقون في فهم التاريخ الإسلامي.

ثانيًا: شبهةُ لويس حول الصحيفة والسلطة:

    تعدّ الصحيفة التي كتبها رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- بين مختلف القبائل في المدينة المنورة بمنزلة الدستور الذي حدّد ملامحَ الأمّة الإسلامية الجديدة؛ قدْ وضّحت القواعدَ التي يجب أنْ يسير عليها المجتمع. وكان لبرنارد لويس مقالةٌ حولها حيث قال بأنّ "شيخ الأمّة- وهو محمد- صلى الله عليه وسلم- نفسه كان القائد بالنسبة لأولئك الذين أسلموا حقًّا، ولم تكنْ سلطته مشروطة، أو من النوع الذي يرتضيه الطرفان دونَ كتابة كتلك السلطة التي تضمنها القبيلة بتذمّرٍ وحسد، ومن الممكن دائمًا إلغاؤها، ولكنها امتيازٌ ديني مطلق، فمصدرُ السلطة انتقل من العامّة إلى الله الذي أعطاه لمحمد- صلى الله عليه وسلم- بصفته الرسول المختار"([16]). وكتب لويس في موضعٍ آخر يصفُ الرسول- صلى الله عليه وسلم- بأنه كان شخصًا عاديًّا يدعو إلى الدين الجديد في مكّة إلّا أنه في المدينة بدأ شيخًا ثمّ حاكمًا يجمع السلطات السياسية والعسكرية والدينية"([17]).

     وقال لويس أيضًا: "هذه الصحيفة ليست معاهدةً بالمعنى الأوروبي لكلمة معاهدة، وإنما هي إعلانٌ من جانبٍ واحد، وأهدافها كانت عمليةً وإدارية، وتبرز المعاهدة صفاتِ الرسول- صلى الله عليه وسلم- الحذرة والحريصة ([18]). ويزعم لويس- بعد ذلك- أنّ المجتمع الذي وضعت الصحيفة أسسَه هو الأمّة التي كانت تطورًا لمدينةِ ما قبل الإسلام مع بعض التغييرات الحيوية، وكانت إشارةً للخطوة الأولى نحو الأوتوقراطية الإسلامية. ويضيف بأنّ الصحيفة أبقتْ على الممارسات الجاهلية في مسائل مثل الملكية والزواج والعلاقات بين أفراد القبيلة ([19]).

يرى ضياء الدين الريس أنّ الدولة الإسلامية قد نشأت إثرَ بيعتي العقبة اللتين كانتا إيذانًا بأنّ "المجتمع السياسي" أو "الدولة" قد بدأ حياته الفعلية، وأخذ يؤدي وظائفه، ويحول المبادئ النظرية إلى أعمال، بعد أنِ استكمل حريته وسيادته، وضمّ إليه عناصر جديدة، ووجدَ له موطنًا ([20]). هذا المجتمع والدولة كان على رأسه نبيّ مرسَل، وقد تهيأ لهذه الدولة أو النظام السياسي ثلاثةُ عوامل: نظام اجتماعي، وحرية التفكير المضمونة للفرد، وتفويض الأمر للأمة. وهذه الأمور وإن لم تجدْ مَن يدوّنها في صيغتها النظرية أو لم يبدأ "التفكير النظري" فيها لأنّ العصر كان عصرَ تأسيس ووحدة وعمل، ولم يكن هناك مِن حاجة إلى مثل هذا التدوين"([21]).

وكانت حكومةُ النبي- صلى الله عليه وسلم- دينية دنيوية أو مادية وروحية، وهذا ما يقوله أحدُ العلماء بأنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- "كان يشغل منصب النبوة الديني على قاعدةِ جمع دينه القويم بين سياسة الدين والدنيا، جمعًا مزجَ بين السلطتين، بحيث كادا أنْ يدخلا تحت مسمّى واحدٍ وهو الدين"([22]). وهذه الحكومة مقيدة بأوامر الله- عزّ وجل- وشريعته، فليس هناك "امتياز ديني مطلق" كما يدّعي لويس. ومن هذه القيود ما جاء في الآيات التالية: {إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} ([23]). وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} ([24]). وفي التشريع الاقتصادي جاء قوله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} ([25]). وقوله تعالى: {ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} ([26]). وقوله تعالى في التشريعات الاجتماعية: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة} ([27]). وقوله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} ([28]). وهذا غيضٌ من فيضٍ عن شمول التشريع والحكومة الإسلامية للدين والدنيا.

      أمّا مسألة المسئوليات والمهمّات التي مارسها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإننا نقدّم بعضَ آيات الكتاب الكريم، كما في قوله تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا} ([29]). وقوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} ([30]). كذلك قوله تعالى: {وأنِ احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرًا من الناس لفاسقون} ([31]). وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ([32]). وقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابًا رحيمًا} ([33]).

       ممّا سبق، نرى أنّه لا تشابه مطلقًا بين عمل شيخ القبيلة ورسالة النبي- صلى الله عليه وسلم- الذي اختاره الله لتبليغ الرسالة وتنفيذ الشريعة. فعمله ينقسم إلى قسمين متلازمين: التبليغ والتطبيق. وليس هناك امتيازٌ ديني مطلق كما يفهمه الغرب من عبارة حكومة دينية (Theocratic) وإنما الإسلام للدين والدنيا، وما كان هناك من انفصال- أبدًا- بين الأمرين، ولويس يسقط النظام السائد في أوروبا في العصور الوسطى على النظام الإسلامي، فالحكومةُ الدينية يقصد بها أصلًا "أنها حكومة الإله أو الآلهة، الذين يكونون ممثّلين برجال "الكهنوت" أو زعماء روحيّين مقدّسين. ومن أمثلها حكومة البابوات في العصور الوسطى، فيكون لهؤلاء الرؤساء سلطاتٌ روحية، ولهم حقّ الغفران والحرمان، وتجب لهم الطاعة المطلقة، وأقوالهم قانونٌ لأنهم يدّعون أنهم يمثّلون الإرادة الإلهية"([34]). ويوضّح محمد فتحي عثمان هذه المسألة بقوله: "على أنّ الروح الدينية التي تشعّ من لفظ "الإمامة" لا تعني أن الإسلام يقيم دولة ثيوقراطية؛ لأنّ رئيس الدولة لا يدّعي عصمةً لما يقول أو يفعل، وليس له أي وضع خاصّ بالنسبة لله، فهو كسائر عباد الله إلّا إنّه أثقلهم حملًا وأكبرهم مسئولية"([35]).

      أمّا موضع إنكار لويس أنْ تكون الصحيفة معاهدةً بالمعنى الأوروبي، فإنّنا وجدنا أنّ المصادر الإسلامية المختلفة أوردتْ عبارتين حول صحيفة المدينة وما يخصّ اليهود منها بخاصة. هاتان العبارتان هما: "موادعةُ الرسول- صلى الله عليه وسلم- لليهود" والعبارة الأخرى "موادعته اليهود كلها"([36]). ويعلّل أحدُ الفقهاء المسلمين هذه الموادعة بقوله إنّ الوثيقة: "وإنما كان هذا الكتاب- فيما نرى- حدثان مقْدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة قبل أن يظهر الإسلام ويقوى، وقبل أنْ يؤمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب ([37]). بينما يشير البلاذري في حديثه عن غزوة بني قينقاع "وكان سببها أنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما قدِمَ المدينة كتبَ بينه وبين يهودِ يثرب كتابًا، وعاهدهم عهدًا، وكان أول مَن نقض ونكثَ منهم يهود بني قينقاع؛ فأجلاهم رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- عن المدينة"([38]).

        فالمفهومُ من كلمتي "وادع" "ووادعته" "يهود" أنّ الوثيقة كانت من طرفين لا من طرف واحد، وأنّ المعاهدات- بالمعنى الأوروبي الحديث- إنما تعود إلى تاريخ اليونان والرومان عندما كانت الأحلافُ تعقَد يفرضُ فيها القوي إرادتَه وسيطرته على الطرف الأضعف. وكان انتهاكُ المعاهدات يتمّ حينما يجد أحدُ الطرفين أنّ به بأسًا للنقض. وقد كان هذا هو الذي أدّى إلى انفجار حربين أوروبيّتين (عالميّتين) في أقلّ من رُبع قرن. وما الذي يعيب الصحيفة أن تكون عملية وإدارية، بل وسياسية إذا وافقت عليها جميعُ الأطراف، ورأوا مصلحتهم في تنفيذها؟! ومِن أين استقى وصفَ الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالحذر والحرص؟! إنّ الطرف اليهودي هو الذي اتّسم بالحرص والحذر حينما قبلوا هذه الموادعةَ يتحقّقون من قوة الإسلام ودولته، فلمّا لاحتْ لهم الفرصة لنقض الاتفاق؛ لم يتأخّروا أبدًا ([39]).

أمّا النقطة الثانية في عبارة لويس عن الوثيقة، ففيها المغالطاتُ التالية:

1- أنّ الأمّة الإسلامية تطور لما قبل الإسلام مع تغيرات حيوية.

2- إشارة للخطوة الأولى نحو الأوتوقراطية الإسلامية.

3- أبقت الوثيقة على الممارسات الجاهلية في مسائل مثل الملكية.

لا شكّ أنّ الإسلام جاء لبناءِ مجتمع إنساني يختلفُ في أسسه العقدية، وفي قواعده، وفي تشريعاته، وفي أخلاقه عن المجتمع الجاهلي. لقد أصبحت الرابطةُ الأولى- والأهمّ- بين أفراد هذا المجتمع هي رابطةَ العقيدة والدين بعد أن كانت الرابطة الأولى هي رابطةَ الدم والنسب. أصبحت الأخوة الإسلامية- وما تحمله من معان سامية- هي المقدَّمةَ على جميع الروابط، وأرستِ العقيدة الإسلامية نظامًا أخلاقيًّا مرتبطًا بالعقيدة، وليس مرتبطًا بالمنفعة الدنيوية المادية ([40]). وقد أكّدت هذه الوثيقة عدّة قضايا، منها:

1- تميز الجماعة الإسلامية الذي يؤدي إلى زيادة تماسكها واعتزازها بذاتها.

2- تقوية التكافل الاجتماعي بصورة عملية حيث المهاجرون كتلة واحدة لقلة عددهم بينما الأنصار بعشائرهم المختلفة يتكافلون مع اهتمام الإسلام بالارتباطات الأخرى مثل رعاية حقوق الآباء والأبناء والأمهات.. والتضامن في دفع الديات وفي رعاية حقوق الجار.

3- المسئولية العامة الجماعية لتثبيت أركان العدل والأمن في المجتمع بمحاربة الظلم ومنع الجرائم، ومعاقبة المجرمين ([41]).

      إنّ هذا المجتمع الذي اختلفَ من أساسه لا يمكن أنْ يكون تطوّرًا لمجتمع جاهلي قائم على العصبية الجاهلية، أو الأخلاق التي تهدف إلى السمعة الحسنة والذكر في الدنيا، وليست مرتبطة بعقيدة أو إيمان، أو مجتمعٍ لا يتوانى عن سفك الدماء، أو وأد البنات، أو الثأر والانتقام دون مراعاة للعدل أو الأمن.

     أمّا الحديث عن "الأوتوقراطية" الإسلامية وانطلاقها من هذه الوثيقة فلا يوضح لنا لويس كيف توصّل إلى هذا؟! ولعلّه يشير إلى تأكيد الوثيقة على التحاكم إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- "وإنّه مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردّه إلى الله وإلى محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم"([42]). فمِن الملاحظ أنّ التحاكم إلى الله أولًا ثمّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، فأين الأوتوقراطية هنا؟ إنّ مِن أسس الاعتقاد الإسلامي أنّ الله هو المشرّع، بينما الأوتوقراطية تجعل ذلك لفردٍ واحد. وهنا مصدر التشريعات والأحكام هو الله- عزّ وجل-، ويكون تطبيقُها من قِبَل نبيّه المرسَل صلى الله عليه وسلم، أو من قبيل الحاكم المسلم. وقد أكّد هذا في قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا} ([43]). والتحاكمُ إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- المكلّف ببيان الشريعة وتوضيحها وتفسيرها. ويعدّ هذا التفسير جزءًا من الشريعة كما ورد في قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ([44]). ويؤكد هذا في قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} ([45]). فإنْ كان لويس بعد كلّ هذا يصرّ على أنّ التمسّك بالشريعة المنزلة "أوتوقراطية" فإنّ هذا من منهج الإسقاط، وهو لا ينطبق على الإسلام مطلقًا.

وقول لويس إنّ الوثيقة أبقتْ على الممارسة الجاهلية.. إلخ، فهذا من قبيل التعميمات العشوائية، والمجازفة في إطلاق الأحكام دون تحقيقٍ أو دراسة، وإلّا فإنّ الوثيقة قد أقرّت الروابط القبلية "للاستفادة منها في التكافل الاجتماعي، ولكن لا تناصر في الظلم، ولا عصبية، وبذلك حوّل الإسلام وجهة الروابط القبلية واستفاد منها بتكييفها وفق أهدافه العليا"([46]).

أمّا الملكية والزواج، فليس في الصحيفة ما يشير إليها سوى تأكيد مسألة التكافل الاجتماعي الذي تحقّقه مشروعية الزكاة، والصدقة، والتضامن بين أفراد القبيلة في دفع الدّيات، وفكاك الأسرى، وإعانة المحتاج.

ثالثًا: رسائلُ الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك والأمراء:

نال موضوعُ الفتوحات الإسلامية اهتمامًا كبيرًا من المستشرقين، ولم يكن لويس بدعًا في ذلك، ولعلّ جذور الفتوحات الإسلامية تكمنُ في الرسائل التي بعثها الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك والأمراء داخل الجزيرة العربية وخارجها. ويقف لويس عند رسالتي الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وهرقل موقفَ المشكّك فيهما قائلًا: "اختلف العلماء فيما إذا كان محمد- صلى الله عليه وسلم- قد فكّر في فتح الإمبراطوريتين وإدخالهما في الإسلام على أنه ما مِن شكّ في أنه بدأ العمليات التي مِن شأنها تحقيق ذلك إلى حدٍّ كبير"([47]). ويكرّر هذا القول في مكانٍ آخر قائلًا بأنّ إرسال هذه الرسائل هو الآن- وبصفةٍ عامة- مرفوض، وتعدّ من الكتابات السرية الغامضة"([48]). ولكنه مثل كثيرٍ من الأمور السرية في التاريخ الإسلامي المبكر يعكس تقويمًا دقيقًا إلى حدٍّ ما لوضعٍ سياسي معين من شخص أو حزبٍ معين في وقتٍ ما. هذه الأسطورة تعبّر عن إدراك المسلمين المبكر بأنّ القوتين الرئيستين اللّتين تقفان في وجه توسّع العقيدة الجديدة خارج أرضها هما الإمبراطوريتان الفارسية والبيزنطية"([49]).

وقد نقل لويس هذه الأفكار حول التّشكيك في إرسال الرسل إلى الملوك والأمراء، وبخاصة هرقل وكسرى عن المستشرق كايتاني ومونتجمري وات وغيرهما، وإنْ كان وات لا ينكر وجودَ الرسل، ولكنّه يشكّك في وقتها وعددها ([50]).

وبالرغم مِن هذا التشكيك، فإنّ كتب السنة الصحيحة ([51]) تروي أنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- بعد أنْ فرغ من صلح الحديبية أصبحت الفرصةُ سانحةً أمامه لنقل الدعوة إلى آفاقِ العالم تنفيذًا لأمر الله- عزّ وجل- في قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا} ([52]). وقوله تعالى: {وما أرسلناك إلّا كافة للناس} ([53]). فكتب- صلى الله عليه وسلم- إلى قيصر، وإلى كسرى، وإلى المقوقس، وإلى النجاشي، وإلى ملوك العرب وأمرائهم داخل الجزيرة وخارجها. واختلفت ردودُ هؤلاء الملوك والأمراء. أمّا مصداقية وجود هذه الرسائل فقد ظهرتْ بحوث ودراسات عديدة تثبت وجودَ هذه الرسائل، ومِن هذه الدراسات ما كتبه عزّ الدين إبراهيم مصطفى عن رسالة الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل حيث أثبت بالفحوص العلمية المخبرية لنوعيّة الجلد، ولعمره، ولنوع الحبر المستخدم، وقد تمّت هذه الفحوص في المتحف البريطاني، كما درستُ متنَ الرسالة وسندَها، وتبيّن أنّ الرسالة قديمة جدًّا، ويزيد عمرُ الجلد على ألف عام ([54]). كما أشار قاسم السامرائي إلى ما كتبه المستشرق الفرنسي بلين في المجلة الآسيوية عن رسالة الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس، التي وجدها المستشرق الفرنسي ايتيان بارتليمي في إخميم من صعيد مصر عام 1850، معلنًا أصالةَ هذه الوثيقة ([55]). كما ظهرت دراساتٌ لمحمد حميد الله نشرها في دوريات متعددة، ثمّ جمعَها بكتابٍ أثبت فيها وجودَ العديد من رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الرسائل- على سبيل المثال- رسائلُ الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى كلّ من المقوقس، والمنذر بن ساوي العبدي عامل كسري على البحرين، وكسري. كما أورد حميد الله بعضَ إجابات مَن أرسلت الرسائل إليهم مع صور فوتوغرافية لهذه الرسائل ([56]).

وعلّق السامرائي على أسبابِ إنكار هؤلاء المستشرقين رسائلَ الرسول- صلى الله عليه وسلم- بأنه ناتجٌ عن "منطق مكرور خالٍ من التجرّد والموضوعية اللّذين يتّصف بهما العالم وعلى مدى اتّصاف العالم بهما فإنّ رأيه مقبول ومعتبر، وإلّا فهو مكابرٌ ومرفوض لا يؤبهُ برأيه وحكمه المعلول"([57]).

      ولم تكنْ هذه الرسائل هي الوسيلة الوحيدة التي اتخذها الرسول- صلى الله عليه وسلم- للخروج بالدعوة الإسلامية من محيطِ الجزيرة العربية أو إلى تخومِها؛ فقد كانت غزوة مؤتة في السنة الثامنة للهجرة التي التقى فيها جيشُ المسلمين بجيش الروم. وبعد مؤتة بسنةٍ وعدَّةِ أشهرٍ كانت غزوة تبوك التي تقع على تخوم الشام، ثمّ تجهيز النبي- صلى الله عليه وسلم- لبعْثِ أسامة لمقاتلة الروم ولأخذ الثأر لما حدث لجيش المسلمين في مؤتة.

      إنّ الإسلام جاء لهداية البشرية، ولم يكنْ سرًّا أنّ المسلمين كانوا يرون أنّ مهمّتهم أنْ يحملوا رسالة الإسلام إلى العالم أجمع، بل كان هناك من النبوّات التي أخبر بها الرسول- صلى الله عليه وسلم- في غزوة الأحزاب حين عرضتْ للمسلمين أثناء الحفر صخرةٌ قاسية لم يستطيعوا كسرها، فلجأوا إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، فكان ما كان مِن إخبارهم بقوله: "لقد أضاء لي الأولى (النور الذي ظهر بعد الضربة الأولى للصخرة) قصور الحية، ومدائن كسرى فأخبرني جبريل أنّ أمّتى ظاهرة عليها، ومن الثانية القصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبريل أنّ أمّتى ظاهرة عليها، ومن الثالثة قصور صنعاء وأخبرني جبريل أنّ أمّتى ظاهرة عليها؛ فأبشروا" فاستبشر المسلمون وقالوا: موعودٌ صادق([58]).

     وإنكارُ لويس لهذه الرسائل ليس مبنيًّا على أساسٍ مِن تثبّت علمي بعدم وجودها، ولكنه تجاهلٌ لهذه الرسائل رغم أنّ الأدلّة على إرسالها وارد في العديد من المصادر، بل إنّ هرقل حينما وصلت إليه رسالة الرسول- صلى الله عليه وسلم- بحَثَ في بلاده عن أحدٍ مِن أهل مكّة ليسأله عن حقيقة الأخبار، وكان ذلك أثناء مدّة صلح الحديبية، وهو لقاء أثبته البخاري في صحيحه؛ حيث سأل فيه هرقل أبا سفيان عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- ونسبه وأخلاقه ودعوته وأتباعه ([59]).

رابعًا: شبهاتٌ حول علاقة المسلمين باليهود:

مِن الموضوعات الأثيرة لدى لويس الحديثُ عن علاقة الإسلام والمسلمين باليهود على مرّ التاريخ. وقد تناول هذه المسألة في أكثرَ من موضع، ونظرًا لاهتمامه الشديد بها فقد أفردَ لها كتابيْن هما: "اليهود في الإسلام" وكتاب "الساميّون والعداء للسامية". ويبدو فيهما رغبته في التركيز على هذه العلاقة كمنطلقٍ للحديث عن مبررات وجود الكيان الصهيوني في فلسطين. ويهمّنا هنا الحديثُ عن هذه العلاقة في فترةِ السيرة النبوية؛ حيث زعم لويس أنّ أصل عداء المسلمين لليهود ليس عقديًّا، ولا علاقة له بالنصوص الإسلامية أو أية ظروف معينة في التاريخ الإسلامي "المقدس"([60]).

     ومِن آراء لويس حول علاقة المسلمين باليهود زعمُه أنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- حاول التقرّبَ من اليهود واسترضاءهم بتبني بعض الشعائر التعبدية كصوم يوم عاشوراء (يوم كبور)، والاتجاه في الصلاة نحو بيت القدس، ولكنّ اليهود- كما قال لويس- رفضوا ادّعاءات النبي الأمي، وعارضوه على المستوى الديني ([61]).

      أمّا عن طرد اليهود من المدينة، فيردّ لويس ذلك إلى عداوة الأوس والخزرج لهم بسبب تفوّق اليهود الاقتصادي، ولذلك كرههم الأوس والخزرج، وما أن توحّدوا تحت قيادة الرسول- صلى الله عليه وسلم- استطاعوا طردَ اليهود"([62]).

ويقارن لويس بين علاقة المسلمين بالنصارى وعلاقتهم باليهود زاعمًا أنّ العلاقة بالنصارى كانت أكثرَ وديّة منها مع اليهود ([63]). ويستشهدُ على ذلك بما جاء في الآية الكريمة: {لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون} ([64]).

     والحقيقة أنه لا يمكن الردّ على لويس إلّا باستعراضٍ موجز لأطوار علاقة الإسلام والمسلمين باليهود ثمّ بالنصارى. فقد عرف اليهود من كتبهم المقدسة عندهم البشارات بقرب ظهور نبي، وكانوا ينتظرون أنْ يكون هذا النبي منهم، بل كانوا يهدّدون الأوس والخزرج بأنه إذا ما بُعث هذا النبي فإنهم سيكونون مِن أتباعه ويحاربونهم (الأوس والخزرج) ويقتلونهم قتلَ عادٍ وإرَم. ولكن عندما بُعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مِن ولد إسماعيل فما كان منهم إلّا أنْ حقدوا عليه، وكادوا له([65]). ولما كان يهودُ المدينة (يثرب) على صلةٍ بقريش فقد وجّهوا كفّار قريش إلى سؤال الرسول- صلى الله عليه وسلم- أسئلة معينة ليتأكّدوا من صدقه، وكانت الأمور التي سألوه عنها هي: أهل الكهف، والروح، وذو القرنين ([66]).

      ولمّا هاجر الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وكان الإسلام قد انتشر فيها منذ بيعة العقبة الأولى ثمّ الثانية، وقدوم مصعب بن عمير- رضي الله عنه- للدعوة إلى الإسلام فقد ازدادتْ معرفةُ يهود بهذا الدين. وقد ظهرت بعضُ الدّلائل على عدواتهم للنبي- صلى الله عليه وسلم- في وقتٍ مبكّر، كما جاء في القصة التي رواها ابن هشام عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها سمعت عمّها يقول لأبيها: "أهوَ هو؟ قال: نعم والله. قال: أتعرفه بنعتِه وصفته؟ قال: نعم والله. قال: فماذا في نفسِك منه؟ قال: عدواته- والله- ما بقيت ([67]). وكذلك ما رواه موسي بن عقبة عن الزهري أنّ أبا ياسر سمع من الرسول- صلى الله عليه وسلم- ورجعَ إلى قومه يدعوهم إلى تصديق الرسول- صلى الله عليه وسلم- فردّوا عليه ردًّا قبيحًا ([68]).

     وفي السنةِ الأولى للهجرة وادعَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اليهود، وكتب بينه وبينهم كتابًا، وهو الذي يسمّى (الصحيفة) التي أعطت اليهود حريتهم الدينية والاقتصادية، وحدّدت مسئوليات كلّ طرف، وجعلت القيادة والرياسة في المدينة للرسول صلى الله عليه وسلم ([69]).

ظلّت علاقة المسلمين باليهود تتّسم بالهدوء والسّلام فترةً من الوقت حتى انتصر الرسول- صلى الله عليه وسلم- على قريش في بدر، وهنا ظهرَ حقدهم وعداوتهم، وبخاصّة أنّ الإسلام كوّن وحدةً مُتماسكة تجلّت في نهاية النزاع بين الأوس والخزرج وفي المؤاخاة التي عقدَها بين المهاجرين والأنصار. وقد تجلّت هذه العداوة في الأمور الآتية، كما شرحها ووضّحها محمد سيد طنطاوي:

1- مسلك المجادلات الدينية والمخاصمات الكلامية.

2- تعنّتهم في الأسئلة لإحراج النبي صلى الله عليه وسلم.

3- محاولتهم الدّسّ والوقيعة بين المسلمين.

4- محاولتهم ردّ المسلمين عن دينهم.

5- تلاعبهم بأحكام الله تعالى، ومحاولتهم فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

6- تحالفهم مع المنافقين ضدّ المسلمين.

7- تحالفهم مع المشركين والكفار في مكة وخارجها ضدّ المسلمين.

8- إيذاؤهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالقبيح من القول.

9- استهزاؤهم بالدين وشعائره.

10- محاولتهم قتل الرسول- صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرّة ([70]).

وعلى عكس ما يدّعي لويس يتّضح أنّ عداوة اليهود للإسلام والمسلمين أصلها عقدي؛ ذلك أنّ اليهود يعتقدون بأنّهم "شعب الله المختار"، وأنّ النبي الذي كانوا ينتظرون كان يجب- في نظرهم- أن يكون مِن بني إسرائيل، حتى قال ولفنسون: "لو وقفت تعاليمُ الرسول عند محاربة الوثنية فحسب ولم يكلّف اليهود أنْ يعترفوا برسالته لما وقع نزاعٌ بين اليهود والمسلمين... ولأيّدوه وساعدوه بأموالهم وأنفسهم.. لأنّ العقلية اليهودية لا تلين.. وتأبي أنْ تعترف بأنْ يوجد نبيّ مِن غير بني إسرائيل، بل يعتقدون عقيدةً راسخة أنّه بعد أن ختمت صحفُ التوراة وكتب العهد القديم قد انقضى عهدُ بعث الرّسل وظهور الأنبياء ([71]).

      وهكذا فإنّ زعم لويس عن أصل العداءِ بين المسلمين واليهود بأنّه لا يتعلّق بظروف معينة في التاريخ الإسلامي (المقدس) غيرُ صحيح لأنّ المصادر الإسلامية المبكرة تذكر أنّه بعد أنِ انتصر المسلمون في غزوة بدر أظهر يهودُ بني قينقاع عداوتهم للرسول- صلى الله عليه وسلم- حيث ذكر ابن سعد في طبقاته: "أنّ بني قينقاع لما كانت وقعةُ بدر أظهروا البغي والحسد، ونبذوا العهدَ والذّمة"([72]). فسار إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليدعوهم إلى الإسلام، ويحذّرهم الخيانة والغدر، فقالوا له: يا محمد، إنّك ترى أنّنا كقومك، لا يغرنّك أنك لقيت قومًا لا علمَ لهم بالحرب فأصبتَ منهم فرصة، إنّا والله لئن حاربتَنا لتعلمنّ أنّنا نحن الناس ([73]). فحاصرهم المسلمون خمسة عشر يومًا حتى اضطرّوا إلى التسليم، وكانت النتيجة إجلاءَهم عن المدينة.

      أمّا بنو النضير، فقد ظهرت خيانتُهم بعد غزوة أحد في العديد من الحوادث، ومنها رفضهم أن يعينوا المسلمين بالسلاح أو الأموال في غزوة أحد، وأنّهم تآمروا على قتل الرسول- صلى الله عليه وسلم- ممّا دعاه إلى أمرهم بمغادرة المدينة، ولمّا أصرّوا على المقاومة حاصرهم الرسول- صلى الله عليه وسلم- وشدّد عليهم الحصار حتى استسلموا وقبلوا الجلاءَ عن المدينة ([74]).

       ولا يضع لويس الأمورَ في موضعها السليم، فهو يدّعي أنّ المسلمين هُم الذين بدأوا العداوةَ مع اليهود، مع أنّ أحداث التاريخ تشير إلى عكس ذلك تمامًا؛ فخيانة بني قريظة وعداوتهم للمسلمين هي التي بسبَبها استحقّوا القتل جميعًا كما أوردتها المصادرُ الإسلامية ([75]).

      أمّا زعم لويس بأنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- حاول التقرّب من اليهود واسترضاءهم بصوم عاشوراء والصلاة إلى بيت المقدس، فيمكن الردّ عليه بما ورد في صحيح البخاري أنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما قدمَ المدينة "وجد اليهودَ يصومون عاشوراء فسألوا عن ذلك فقالوا: هذا اليوم أظفرَ الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيمًا له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم. فأمر بصومه"([76]). وفي حديثٍ آخر من صحيح البخاري أيضًا "أنّ عاشوراء كانت تصومه قريش في الجاهلية، فكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يصومُه في الجاهلية، ولما هاجر إلى المدينة صامه وأمرَ بصيامه حتى فُرض رمضان"، بل إنّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- أمر المسلمين إذا صاموا عاشوراء أنْ يصوموا معه اليوم التاسع أو الحادي عشر فيخالفوا اليهود بذلك ([77]).

       أمّا مسألة القبلة، فقد جاء في صحيح البخاري أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- أوّل ما قدِمَ المدينة صلّى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَل المدينة... وكان اليهود قد أعجبهم إذْ كان يصلي قِبَل بيت المقدس، وأهل الكتاب، فلمّا ولّى وجهه قِبَل البيت أنكروا ذلك ([78]). فلو كان استرضاءً ليهود أنْ صام عاشوراء وصلى قبل بيت القدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا والصلاة أعظم الأركان بعد الشهادتين؛ أمَا كان هذا مقنعًا لهم ليؤمنوا بهذا الدين الذي كانوا يعرفونه حقّ المعرفة، ولكنهم قوم سوء، كما قال عنهم الله عزّ وجل: {سيقول السفهاء من الناس ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا} ([79]). ويقول- عزّ وجل- إنّ تغيير القبلة كان امتحانًا واختبارًا {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلّا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلّا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم} ([80]).

      ونتساءل هنا: هل معارضة اليهود كانت فقط في مسألة القبلة؟ إنّ تاريخ علاقتهم بالمسلمين تؤكّد أنّها كانت علاقةٌ مبنية على الحقد والحسد للمسلمين، فقد قال الله فيهم: {ولما جاءهم كتابٌ من عند الله مصدّق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} ([81]). بل إنهم عندما سألهم كفار قريش: أديننا خيرٌ أم دين محمد؟ فقالوا: بل دينكم. فأجابهم القرآن الكريم: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا، أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا} ([82]). أمّا عن حسدهم للمسلمين فيقول الله عزّ وجل: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا، فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه وكفى بجهنم سعيرًا} ([83]).

       أمّا موقف الأوس والخزرج من اليهود قبل هجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- فإنّ تفوّق اليهود الاقتصادي المبني على تعاملهم بالربا والمراهنات التي وصلت إلى طلب أحدهم أن يرهن بعضُ الأوس والخزرج نساءهم وأبناءهم. ولم يكتفوا بهذا التفوّق، بل راحوا يثيرون النّعرات بين الأوس والخزرج ليضيفوا إلى سيطرتهم المالية مكاسبَ سياسية، ومِن هذه الحروب "يوم بعاث" الذي اشترك فيه اليهود- كلّ قبيلة منهم- مع مَن يوالون من الأوس والخزرج وقد أكّدت هذه الواقعة- وما بعدها أيضًا- الفرقة الداخلية بين اليهود؛ حيث يقول الله- عزّ وجلّ- فيهم: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون، ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهم محرم عليكم إخراجهم}([84]).

      وموقف الأوس والخزرج من إخراج اليهود لا يتعلّق بهم وحدهم، بلْ هو موقف إسلامي مرتبطٌ بخيانة اليهود للعهود والمواثيق، ومؤامراتهم ضدّ الإسلام والمسلمين وضدّ الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد استغلّ اليهود أحلافهم السّابقة مع هاتين القبيلتين لتخفيف العقوبة، وهو موقف غايةٌ في الدّناءة؛ حيث عمل اليهود طويلًا على السيطرة على الأوضاع الاقتصادية والسياسية بإثارة الخلافات والصراعات بين أبناء العمومة ثمّ يلجؤون لأعداء الأمس لإنقاذهم.

ونختمُ هذه الردود بتحليل قدّمه عماد الدين خليل حول سببِ عداوة اليهود للإسلام والمسلمين؛ حيث يقول: "إنّ طبيعة الدعوة الإسلامية المنفتحة على العالم، وانتماء نبيها إلى العرب وقيام دولتها في قلب المنطقة التي تتحرك فيها مصالح اليهود ونشاطاتهم المختلفة؛ يؤلّف بحدّ ذاته خطرًا كبيرًا على اليهود في دينهم ودنياهم على السواء، حتى لو لم يدعوا إلى الإسلام؛ لأنّ نجاح الإسلام كفيل بحدّ ذاته بحصر اليهود وعزلتهم وكشفهم أمام العالم... الأمرُ الذي دفعهم- بعد وقت قصير من إدراكهم أبعاد هذا الخطر- إلى أنْ يقفوا إلى جانب الوثنية ويمتدحوا أفعالهم..." ([85]).

      وبعد هذا العرض لرؤية لويس وشبهاته حول السيرة النبوية، نرى أنّ لويس لم يلتزم بالموضوعية العلمية في دراسته، فهو يثير الشكوك في كثيرٍ من أحداث السيرة، ولم يتبنّ موقفًا واحدًا إيجابيًّا تجاه شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام. ويقع لويس في أخطاء منهجية كبيرة في سبيل إثبات هذه الرؤية السلبية التي يقدّمها عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصحابته. فهو مثلًا لا يعود إلى المصادر الإسلامية الأساسية للسيرة النبوية، وهي القرآن الكريم، الذي تعرّض لنشأة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه الكريمة، واضطهاد قومه له، وما لقيه من أذى في سبيل الدعوة، وهجرته، والغزوات المهمّة التي خاضها بعد الهجرة، ومعجزاته وغير ذلك من وقائع سيرته- صلى الله عليه وسلم-، وكلّها مذكورة في القرآن الكريم أصحّ مصادر السيرة على الإطلاق. وكذلك أهملَ لويس الحديثَ النبوي الصحيح زاعمًا عدم صحّة الحديث. وقد تضمّنت كتب السنّة بأحاديثها الصحيحة فكرةً شاملة عن سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- مرويةً بالسند المتّصل إلى الصحابة رضي الله عنهم. ويهدف لويس عن عدم رجوعه إلى السنة والحديث النبوي إلى ما يهدف إليه غيرُه من المستشرقين من هدم السنة حتى يتمّ هدم الشريعة والتّشكيك في وقائع السيرة ([86]). ويتجاهل لويس تجاهلًا تامًّا جهودَ المحدثين في تمحيص السنّة وكأنّها لم تكن، وكأنه ليس متخصّصًا في الإسلام. وقد أهمل لويس أيضًا الشعرَ العربي المعاصر لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنه شعرٌ يهاجم الإسلام والمسلمين، ومنه شعرٌ يدافع عن الدين الجديد. وهو مصدرٌ أساس للتعرف على سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبيئته ودعوته. ويهمل لويس كتبَ السيرة الأساسية كسيرة ابن هشام، وهي من "أوفى مصادر السيرة النبوية وأصحّها وأدقّها"([87]). ويهمل كتب الطبقات وبخاصّة طبقات ابن سعد، وكتب المغازي وهي مستودعٌ لأخبار الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام. ويهملُ التواريخ الإسلامية الأساسية كتاريخ الطبري الذي أفرد قسمًا خاصًّا لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. كذلك يهمل بعضَ المصادر الأساسية للسيرة مثل دلائل النبوّة للأصبهاني، والشمائل المحمدية للترمذي وغيرها.

       هذا الإهمال المقصود للمصادر الإسلامية الأساسية للسيرة النبوية يكفي دفع شُبه لويس ووصفِه بعدم الموضوعية وبالتعصّب، وبالحكم المسبق على شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- ونسبة موقفه هذا من مصادر السيرة بموقف الباحث الذي يكتب سيرة موسى عليه السلام أو سيرة أيّ نبي من أنبياء بني إسرائيل دون العودة إلى التوراة وكتب الأنبياء والمصادر اليهودية الأساسية مع اعترافنا بوقوع التحريف فيها.

      ويلاحظ أيضًا على لويس اعتمادُه على المصادر الاستشراقية وانتقاؤه المقصود لمصادر بعينها معروفةٍ بحقدها وعدم تعاطفها مع شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم-، بل إنّه يتجاهل بعضَ الآراء المهمّة لمستشرقين اعترفوا بفضل الرسول عليه الصلاة والسلام، واعترفوا أيضًا- وهذا هو المهمّ- بافتراءات المستشرقين على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأن لويس لا يقرأ مِن أعمال المستشرقين إلّا ما يوافق رؤيته، ولا يتوفر لديه الاستعداد العلمي لسماع الرأي الاستشراقي الآخر، بل إنّه لا يواكب تطور الرؤية الاستشراقية حول شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم. ونكتفي هنا باقتباسٍ مهمّ لمستشرق فرنسي يوجّه الاتهام إلى أمثال لويس في معالجتهم للسيرة النبوية. يقول المستشرق الفرنسي روجيه دي باسكيه "لا تجد رجلًا بين كلّ الشخصيات الدينية غير المسيحية وجّهت إليه التّهم والافتراءات وحُمِل عليه بقدرِ ما افتريّ على محمّد مؤسّس الإسلام، منذ أوائل القرون الوسطى حتى عصرنا هذا، ويدخل في ذلك ما يسمّى بعصر النّور، مازالت الأساطير الجوفاء تنشَر عن محمد، تتّهمه بكلّ الرذائل، بل لا تتورّع عن أن تصفه في عدادِ عبّاد الأوثان، مع أنه هو رسول التوحيد، والتوحيد المطلق بلا منازع"([88]). وكأنّ لويس- أيضًا- لم يقرأ رأي عالم غربي مشهور هو تور أندريه صاحبُ كتاب "محمّد الرجل وعقيدته" وهو كتابٌ استشراقي بلغت شهرته الآفاق. وفيه أقبل أندريه على دراسةِ سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعقيدته على أساس من المنهج الديني، فلم ينكرْ من رسالة الرسول- عليه الصلاة والسلام- شيئًا، بل على العكس أخذ المؤلف يفنّد تهمَ المستشرقين المغْرضة التي درجوا على توجيهها إلى الإسلام تعصبًا أعمى بغير سندٍ من نصرٍ بحقائق التاريخ أو أدلة العقل"([89]).

       ولا شكّ في أنّ هذا الموقف المتعصّب من لويس تجاه السيرة النبوية هو موقفٌ مبدئي غير قابل للتغيير، ولهذا لا يكترثُ لويس بكتابات المسلمين عن السيرة ولا بكتابات المستشرقين المنْصفين لها. والحقيقة أنه يردّد أقوال المستشرقين السابقين المتعصبين، وليس له قولٌ أصيل في مجال السيرة، فهو يعيش عالةً على المستشرقين السابقين يردّد أقوالهم، ولا يمكن أن نعدّه من المتخصّصين في السيرة، أو حتى من الفاهمين لها.

 



([1]) Lewis, The Arabs Op.cit. p44.

([2]) Ibid.

([3]) Ibid, p45.

([4]) Ibid, p.46.

([5]) Watt, op.cit, p.250

([6]) خليفة بن خياط, التاريخ, مرجع سابق, ص 63.

([7]) سورة البقرة, آية 217. تفسير القرطبي، ج3 ص40 – 41.

([8]) ابن هشام, السيرة, القسم الأول, ص 606 وما بعدها.

([9]) الطبري، ص ص 438 (1/1306) وكانت رسالة أبي سفيان لقريش (إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأحوالكم فقد نجّاها الله فارجعوا).

([10]) محيي الدين الكتاني, التراتيب الإدارية (بيروت: بدون تاريخ) ج 2 ص30 وانظر: كتاب البيوع في صحيح البخاري (34).

([11]) فتح الباري, 34/ 2048.

([12]) العمري, المجتمع المدني- الجهاد, مرجع سابق, ص 30.

([13]) سورة الإسراء, آية 34.

([14]) سورة المائدة, آية 1.

([15]) ابن هشام, القسم الثاني, ص 394 – 397. وانظر: الطبري، م 3 ص44.

([16]) Lewis. The Arabs op. cit, p.43.

([17]) Lewis. The World of Islam. P.11.

([18]) Lewis. The Arabs. P.42 – 43.

([19]) المرجع نفسه, والصفحات نفسها, والأوتوقراطية هي الحكم الذي يعطي السلطات لفرد واحد دون حدود.

([20]) الريس, النظريات السياسية, مرجع سابق, ص 30.

([21]) المرجع نفسه, ص26

([22]) الكتاني, مرجع سابق, ص9.

([23]) سورة النساء, آية 58.

([24]) سورة النساء, آية 59.

([25]) البقرة, آية 275.

([26]) المطففين, آية 1 – 3.

([27]) الطلاق, آية 1

([28]) البقرة, آية 229.

([29]) الأحزاب, آية 45.

([30]) النساء, آية 65.

([31]) المائدة, آية 49

([32]) النساء, آية 59.

([33]) النساء, آية 64.

([34]) الريس، مرجع سابق, ص 346 – 377 وانظر في هذه المسألة: كتاب أبي الأعلى المودودي, نظرية الإسلام وهديه. (بيروت: 1389 – 1969) ص 3 وما بعدها. وكذلك سعدي أبو حبيب, دراسة في منهاج الإسلام السياسي. (بيروت: 1406 – 1985) ص 22 – 25.

([35]) محمد فتحي عثمان, من أصول الفكر السياسي الإسلامي, ط2 (بيروت: 1404 – 1984) ص 360.

([36]) أبو الحسن البلاذري, أنساب الأشراف, تحقيق: محمد حميد الله، ط 3 (القاهرة: بدون تاريخ) ج ص 308.

([37]) أبو عبيد القاسم بن سلام, كتاب الأموال, ط 2 (بيروت: 1395- 1975) ص 226 حديث 519.

([38]) أبو الحسن البلاذري, فتوح البلدان, بتحقيق عبد الله أنيس الطباع, وعمر أنيس الطباع. (بيروت 1407 – 1987) ص 26 – 27.

([39]) وهذا ما حدث من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة.

([40]) العمري, السيرة الصحيحة، مرجع سابق, ج1 ص 292 – 293.

([41]) المرجع نفسه, 294 وما بعدها.

([42]) ابن هشام, السيرة، القسم الأول, ص 503.

([43]) النساء, آية 59.

([44]) سورة الحشر, آية 7

([45]) سورة النساء, آية 65

([46]) العمري, المجتمع المدني: الأسس والتنظيمات, مرجع سابق, ص 131.

([47]) برنارد لويس, السياسة والحرب, مرجع سابق, ص 362.

([48]) يشبه هنا لويس وضعَ رسائل الرسول- صلى الله عليه وسلم- بوضع الكتابات اليهودية التي تسمى الأيوكريفا وهي كتابات غير قانونية, واكتسبت هذه الصفة بعد رفض اليهود ضمّها إلى كتاب العهد القديم فاستخدمت بصفةٍ سريّة خارج إطار العهد القديم.

([49]) وانظر كذلك بحثًا لبرنارد لويس ألقاه في الندوة التي عقدتها جامعة لندن: مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في 29 مايو 1953 بمناسبة مرور خمسة قرون على سقوط القسطنطينية. وكان بحث لويس بعنوان (القسطنطينية والعرب)، ونُشر في كتاب عن جامعة لندن ص 12 – 17.

([50]) W. Montgomery Watt. Muhammed at Madina (Karachi: 1988) p 345.

بإذن من مطبعة جامعة أكسفورد عن الطبعة الأولى 1956. ويزعم وات أنّ القصة لا يمكن قبولها كما هي، وأنّ محمدًا- صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أنْ يتصرف مثل هذا التصرف الذي يعدّ- في نظره- غيرَ حكيم، فمثل هذا التصرف كان سيأتي بأضرارٍ أكبر مما يحقّق من مصالح.

 ([51])صحيح البخاري, 1/7 و 3/7 وكتاب 56 باب 101 وكتاب 64 باب 82.

 ([52])سورة الأعراف, آية 158.

([53]) سورة سبأ, آية 28.

 ([54])عزّ الدين إبراهيم, الدراسات المتعلقة برسائل النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك في عصره, في بحوث المؤتمر الثالث للسيرة والسنة النبوية, مجلد 6 (قطر: 1401- 1981) ص249- 284.

([55]) قاسم السامرائي, مقدّمة في الوثائق الإسلامية. (الرياض: 1403هـ- 1983) ص32.

([56]) محمد حميد الله, مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. (بيروت 1407هـ) ص127، و 135، و 140.

([57]) السامرائي, مرجع سابق, ص31.

([58]) ابن هشام، السيرة، مرجع سابق, القسم الثاني, ص219.

([59]) مختصر صحيح البخاري, حديث 7 ص23 كتاب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

([60]) B. Lewis. The Jews of Islam (Princeton, U. S. A: 1989) P. 85.

([61]) Lewis, The Arabs, op. cit., p. 41- 42.

([62]) Ibid.

([63]) Lewis. The Jews. Op. cit., p 11.

([64]) المائدة, آية 82.

([65]) الذهبي, السيرة، مرجع سابق, ص 193.

([66]) المرجع نفسه, ص134.

([67]) ابن هشام, السيرة, القسم الثاني, ص140.

([68]) أبو الفداء إسماعيل بن كثير, البداية والنهاية. (بيروت: 1974م) ج3 ص242 وأبو ياسر هو: حيي بن أخطب.

([69]) انظر: العمري, المجتمع المدني- خصائصه وتنظيماته الأولى, مرجع سابق, صفحات 107- 136 حيث تحدّث العمري عن صحّة الوثيق وحلّل بنودها المختلفة.

([70]) طنطاوي, مرجع سابق, ج1 ص190.

([71]) إسرائيل ولفنسون, تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام. (القاهرة: 1345- 1927م) ص112.

([72]) محمد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري, الطبقات الكبرى, دراسة وتحقيق: محمد عبد القادر عطا. (بيروت: 1410هـ- 1990م) ج2 ص22.

([73]) الطبري, 2/ 479.

([74]) صحيح البخاري, 2/ 120، 3/ 24- 25 وصحيح مسلم 5/ 160- 161.

([75]) الطبري, تاريخ الأمم, م2 ص 587.

([76]) فتح الباري, 4/ 69 حديث 2002.

([77]) المرجع نفسه, شرح حديث 2007.

([78]) المرجع نفسه, كتاب الإيمان, ص18 حديث 1/ 40.

([79]) البقرة, آية 142.

([80]) البقرة, آية 143.

([81]) البقرة, آية 89.

([82]) سورة النساء, الآيتان 51، 52.

([83]) النساء, الآيتان 54، 55 انظر في علاقة المسلمين باليهود, سيرة ابن هشام, القسم الأول من ص513 حتى 576 وانظر كذلك: عماد الدين خليل, دراسة في السيرة. (بيروت: 1397هـ- 1977م) الفصل التاسع "صراع ضدّ اليهود" من ص317- 361.

([84]) سورة البقرة, الآيتان 84- 85 (أشار ولفنسون إلى أنها آية 83 خطأ).

([85]) خليل, مرجع سابق, ص328.

([86]) مصطفى السباعي, السيرة النبوية: دروس وعبر, ط9 (دمشق: 1406هـ- 1986م) ص27.

([87]) المرجع نفسه، ص29 وانظر أيضًا: فاروق حمادة, مصادر السيرة النبوية وتقويمها.

([88]) روجيه دي باسكيه, "محمد المفتري عليه" في حضارة الإسلام، عدد 1، ذو الحجة 1380- أيار 1961م، ص41.

([89]) تور أندريه، محمد الرجل وعقيدته، عرض: أحمد فؤاد الأهواتي، في مجلة الأزهر، عدد 1 المحرم 1387هـ، أبريل 1967م، ص120، وانظر: أميل درمنجهم, حياة محمد، ترجمة: عادل زعيتر ط2 (بيروت: 1988م) ص10- 11.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الطبعة: الرابعة. الناشر: دار المعارف بالقاهرة (تاريخ بدون). عدد صفحات الكتاب: 219 صفحة من القطع المتوسط. إعداد: مازن صلاح المطبقاني في 6 ذو القعدة 1407هـ 2 يوليه 1987م بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة : يتحدث فيها المؤلف عن معنى التاريخ، وهل هو علم أم فن، ثم يوضح أهمية دراسة التاريخ وبعض صفات المؤرخ وملامح منهج البحث التاريخي. معنى التاريخ: يرى بعض الكتاب أن التاريخ يشمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون بما يحويه من أجرام وكواكب ومنها الأرض، وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان. ومثال على هذا ما فعله ويلز في كتابه "موجز تاريخ العالم". وهناك رأي آخر وهو أن التاريخ يقتصر على بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض.       وكلمة تاريخ أو تأريخ وتوريخ تعنى في اللغة العربية الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ودقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمن من ناحية التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله الم...

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

                                      بسم الله الرحمن الرحيم                                  ما أصدق بعض الشعر الجاهلي فهذا الشاعر يصف حال بعض القبائل العربية في الغزو والكر والفر وعشقها للقتال حيث يقول البيت:   وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا. فهم سيقومون بالغزو لا محالة حتى لو كانت الغزوة ضد الأخ القريب. ومنذ أن نزل الاحتلال الأجنبي في ديار المسلمين حتى تحول البعض منّا إلى هذه الصورة البائسة. فتقسمت البلاد وتفسخت إلى أحزاب وفئات متناحرة فأصبح الأخ القريب أشد على أخيه من العدو. بل إن العدو كان يجلس أحياناً ويتفرج على القتال المستحر بين الاخوة وأبناء العمومة وهو في أمان مطمئن إلى أن الحرب التي كانت يجب أن توجه إليه أصبحت بين أبن...

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية

                             يردد الناس دائما الأثر المشهور :(من تعلّمَ لغةَ قوم أمن مكرهم أو أمن شرَّهُم) ويجعلونها مبرراً للدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية أو اللغة الإنجليزية بصفة خاصة. فهل هم على حق في هذه الدعوة؟ نبدأ أولاً بالحديث عن هذا الأثر هل هو حديث صحيح أو لا أصل له؟ فإن كان لا أصل له فهل يعني هذا أن الإسلام لا يشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟ وإن كان صحيحاً فهل الإسلام يحث ويشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟         لنعرف موقف الإسلام من اللغات الأخرى لا بد أن ندرك أن الإسلام دين عالمي جاء لهداية البشرية جمعاء وهذا ما نصت عليه الآيات الكريمة {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً } (سبأ آية 28) وقوله تعالى { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } (الأنبياء آية 107) وجاء في الحديث الشريف (أوتيت خمساً لم يؤتهن نبي من قبلي، وذكر منها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). فهل على العالم كـله أن يعرف اللغة العربية؟ وهل يمكن أن نطالب كلَّ...