التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أربع استراتيجيات للحد من تكاليف السجون: إدارة السجون الجماعية في الولايات المتحدة

 

https://loicwacquant.org/wp-content/uploads/2019/03/lw-2002-four-strategies-to-curb-carceral-costs.pdf

 لوييك واكانت

LOÏC WACQUANT

ترجمة ديب سيك بتصرف قليل

      بعد التخلي عن العقد الاجتماعي الفوردي-الكينزي في منتصف سبعينيات القرن العشرين وانهيار الغيتو الأسود كأداة للسيطرة الطبقية، انطلقت الولايات المتحدة في تجربة اجتماعية تاريخية فريدة: بدء استبدال التنظيم الاجتماعي للفقر والاضطرابات الحضرية الناتجة عن تزايد انعدام الأمن الاجتماعي والصراع العرقي بإدارته عبر النظام العقابي من خلال الشرطة والمحاكم ونظام الإصلاحيات.

يمكن وصف الارتفاع الهائل للدولة العقابية الأمريكية خلال العقود الثلاثة التالية، والذي يمثل النظير الضروري والمكمل لتراجع الدولة الاجتماعية، باختصار عبر خمسة أبعاد:

1.   التوسع الرأسي بسبب تضخم السجون: تضاعف عدد نزلاء السجون أربع مرات خلال خمسة وعشرين عامًا، مدفوعًا بشكل رئيسي بزيادة حالات الدخول، مما جعل الولايات المتحدة بطل العالم بلا منازع في معدلات السجن مع وجود مليوني شخص خلف القضبان و740 سجينًا لكل 100,000 نسمة – أي ستة إلى اثني عشر ضعف معدل الدول المتقدمة الأخرى – رغم أن معدلات الجريمة ظلت راكدة ثم انخفضت خلال تلك الفترة.

2.   التوسع الأفقي عبر توسيع نظام المراقبة القضائية، وإعادة هيكلة نظام الإفراج المشروط، ونمو قواعد البيانات الإلكترونية والجينية التي تسمح بزيادة المراقبة عن بُعد: نتيجة هذا "التوسيع" للشبكة العقابية، يوجد اليوم 6.5 مليون أمريكي تحت إشراف نظام العدالة الجنائية، يمثلون واحدًا من كل عشرين رجلًا بالغًا، وواحدًا من كل تسعة رجال سود، وواحدًا من كل ثلاثة شباب سود (بين 18 و35 عامًا). كما جمعت السلطات ما يقدر بـ 55 مليون سجل جنائي، يغطي نحو ثلث الرجال من الطبقة العاملة، ويتم تداولها من خلال الروتينية في فحوصات الخلفية الجنائية (مثلًا للتوظيف أو استئجار المساكن).

3.   ظهور "الحكومة الكبيرة" العقابية في وقت تقلصت فيه ميزانيات التعليم والصحة العامة والرعاية الاجتماعية: النمو غير المتناسب لميزانيات السجون والموظفين بين الإدارات العامة رفع قطاع الإصلاحيات إلى المرتبة الثالثة كأكبر جهة توظيف في البلاد، مع 650,000 موظف ونفقات تشغيلية تتجاوز 40 مليار دولار. على سبيل المثال، كاليفورنيا، التي تستضيف أكبر نظام سجون في العالم، زادت ميزانيتها للإصلاحيات من 200 مليون دولار عام 1975 إلى 4.8 مليار دولار عام 2000، وقفز عدد موظفي الإصلاحيات من 6,000 إلى 41,000 خلال العقدين الماضيين. ومنذ عام 1994، تجاوزت أموال إدارة الإصلاحيات في كاليفورنيا تلك المخصصة لجامعة كاليفورنيا.

4.   عودة وتطور صناعة السجون الخاصة بشكل جنوني: في عقد قصير، استولى مشغلو السجون الربحية، بقيادة نصف دزينة من الشركات المدعومة بسخاء من وول ستريت، على 7% من "السوق" أو 140,000 سجين (ثلاثة أضعاف عدد نزلاء السجون في فرنسا أو إيطاليا مجتمعتين)، مما ساعد الدولة على توسيع قدرتها على معاقبة وتخزين الفئات الهشة من البروليتاريا الجديدة. تقدم هذه الشركات الآن جميع أنشطة السجون، بجميع مستويات الأمان، وهي تسعى بنشاط للتوسع خارجيًا (وهي موجودة بالفعل في المملكة المتحدة وأستراليا والمغرب وجنوب أفريقيا وكوريا وتايلاند).

5.   سياسة التمييز الإيجابي السجني عبر استهداف الأحياء الفقيرة وسكان المدن ذوي الدخل المنخفض بشكل تفاضلي، خاصة عبر "الحرب على المخدرات"، مما أدى إلى الهيمنة الديموغرافية غير المسبوقة للأمريكيين الأفارقة (شكلوا أغلبية النزلاء الجدد في السجون كل عام منذ 1989) وتعميق الفوارق والعداء العرقي بين السكان المحتجزين: يشكل الرجال السود 6% من سكان الولايات المتحدة و7% من متعاطي المخدرات في البلاد، لكنهم يمثلون 35% من الموقوفين بتهم مخدرات و75% من نزلاء السجون المحكوم عليهم بتهم مخدرات.

      لكن العبء المالي للسجون الجماعية كشكل غريب من سياسة مكافحة الفقر والتحكم العرقي المقنع أصبح باهظًا بسبب التضخم المستمر وشيخوخة السكان السجناء بسرعة، بالإضافة إلى التكلفة الباهظة للحبس. في كاليفورنيا، على سبيل المثال، خارج تكاليف تمويل وبناء السجون، تبلغ تكلفة كل سجين 21,400 دولار سنويًا، أي ثلاثة أضعاف الحد الأقصى لمزايا AFDC المدفوعة لأسرة مكونة من أربعة أفراد قبل إلغاء هذا البرنامج (7,229 دولارًا، بما في ذلك التكاليف الإدارية).

             في معظم الولايات الأخرى، خاصة في الجنوب، تكلفة السجن أقل بكثير، لكن مستويات المعيشة والميزانيات الحكومية ومستويات المساعدة العامة أيضًا أقل. في مسيسيبي، على سبيل المثال، تبلغ التكلفة السنوية للسجين 13,640 دولارًا، لكن هذا المبلغ يمثل عشرة أضعاف مزايا AFDC السنوية لكل أسرة، والتي تبلغ في المتوسط 1,400 دولار.

      يهدد النمو غير المنضبط للفاتورة السجنية الآن بشكل مباشر وواضح الوظائف الأساسية الأخرى للحكومة، من التعليم إلى الخدمات الاجتماعية إلى الصحة العامة، مما قد يزيد من استياء الناخبين من الطبقة المتوسطة. للحد من هذه التكاليف، تم تنفيذ أربع استراتيجيات من قبل السلطات المختلفة – بخلاف الخدع الأيديولوجية المعتادة المتمثلة في تقديم النفقات العقابية كـ "استثمارات" في "الحرب على الجريمة".

الاستراتيجيات الأربع للحد من التكاليف السجنية:

1.   خفض مستوى الخدمات وظروف المعيشة داخل السجون:

o        إلغاء أو تقليل "الامتيازات" والمرافق مثل البرامج التعليمية والرياضية والترفيهية وأنشطة إعادة التأهيل.

o        على سبيل المثال، تم إغلاق برامج الكليات تقريبًا بعد استبعاد السجناء من منح Pell الفيدرالية عام 1994، رغم فعاليتها في تقليل العود.

o        في ألاباما، تم إلغاء التلفزيونات والراديو ومنع توزيع التبغ والحلوى والمشروبات الغازية.

2.   الاعتماد على التكنولوجيا لزيادة كفاءة العمل السجني:

o        استخدام الفيديو التفاعلي للمحاكمات عن بُعد، وأجهزة الاستشعار لمراقبة الحركات، والأسلاك الكهربائية للسيطرة على الأسوار.

o        توظيف التطبيب عن بُعد لخفض تكاليف الرعاية الصحية بنسبة 30%.

3.   تحميل السجناء وعائلاتهم جزءًا من تكاليف السجن:

o        بعض الولايات تفرض رسومًا على الإقامة والوجبات والرعاية الصحية، وتلجأ إلى المحاكم لاسترداد الديون.

o        في ميشيغان، يتم تحميل السجناء ما بين 10 إلى 56 دولارًا يوميًا، مع تحصيل ملايين الدولارات سنويًا.

4.   إعادة تشغيل العمل بالسخرة في السجون:

o        الدعوة لإلغاء القيود القانونية على تشغيل السجناء لصالح الشركات الخاصة، بحجة خفض التكاليف وزيادة الإنتاجية.

o        تقارير مثل "مصانع خلف القضبان" تدعو لتشغيل ربع السجناء وتحويل 60% من أجورهم لخزينة الدولة.

الخلاصة:

      لا يمكن لهذه الاستراتيجيات، مجتمعة أو منفردة، احتواء التكاليف المتصاعدة للسجون الجماعية أو تخفيف العبء الاجتماعي والاقتصادي على الفقراء والمجتمعات المحلية. مثل الخصخصة، تقدم هذه الحلول راحة مؤقتة لكنها لا تحل التناقضات الجوهرية الناتجة عن التحول من الرعاية الاجتماعية إلى الإدارة العقابية لعدم المساواة وانعدام الأمن.

       وهكذا، يثبت الجهد المستمر لتحقيق حكم الطبقة الحاكمة في جعل الفقراء يدفعون ثمن "رعاية" أنفسهم أنه مجرد وهم، لكنه وهم له عواقب حقيقية تشكل واحدة من أقسى تجارب الهندسة الاجتماعية التي قامت بها دولة ديمقراطية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الطبعة: الرابعة. الناشر: دار المعارف بالقاهرة (تاريخ بدون). عدد صفحات الكتاب: 219 صفحة من القطع المتوسط. إعداد: مازن صلاح المطبقاني في 6 ذو القعدة 1407هـ 2 يوليه 1987م بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة : يتحدث فيها المؤلف عن معنى التاريخ، وهل هو علم أم فن، ثم يوضح أهمية دراسة التاريخ وبعض صفات المؤرخ وملامح منهج البحث التاريخي. معنى التاريخ: يرى بعض الكتاب أن التاريخ يشمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون بما يحويه من أجرام وكواكب ومنها الأرض، وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان. ومثال على هذا ما فعله ويلز في كتابه "موجز تاريخ العالم". وهناك رأي آخر وهو أن التاريخ يقتصر على بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض.       وكلمة تاريخ أو تأريخ وتوريخ تعنى في اللغة العربية الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ودقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمن من ناحية التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله الم...

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

                                      بسم الله الرحمن الرحيم                                  ما أصدق بعض الشعر الجاهلي فهذا الشاعر يصف حال بعض القبائل العربية في الغزو والكر والفر وعشقها للقتال حيث يقول البيت:   وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا. فهم سيقومون بالغزو لا محالة حتى لو كانت الغزوة ضد الأخ القريب. ومنذ أن نزل الاحتلال الأجنبي في ديار المسلمين حتى تحول البعض منّا إلى هذه الصورة البائسة. فتقسمت البلاد وتفسخت إلى أحزاب وفئات متناحرة فأصبح الأخ القريب أشد على أخيه من العدو. بل إن العدو كان يجلس أحياناً ويتفرج على القتال المستحر بين الاخوة وأبناء العمومة وهو في أمان مطمئن إلى أن الحرب التي كانت يجب أن توجه إليه أصبحت بين أبن...

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية

                             يردد الناس دائما الأثر المشهور :(من تعلّمَ لغةَ قوم أمن مكرهم أو أمن شرَّهُم) ويجعلونها مبرراً للدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية أو اللغة الإنجليزية بصفة خاصة. فهل هم على حق في هذه الدعوة؟ نبدأ أولاً بالحديث عن هذا الأثر هل هو حديث صحيح أو لا أصل له؟ فإن كان لا أصل له فهل يعني هذا أن الإسلام لا يشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟ وإن كان صحيحاً فهل الإسلام يحث ويشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟         لنعرف موقف الإسلام من اللغات الأخرى لا بد أن ندرك أن الإسلام دين عالمي جاء لهداية البشرية جمعاء وهذا ما نصت عليه الآيات الكريمة {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً } (سبأ آية 28) وقوله تعالى { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } (الأنبياء آية 107) وجاء في الحديث الشريف (أوتيت خمساً لم يؤتهن نبي من قبلي، وذكر منها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). فهل على العالم كـله أن يعرف اللغة العربية؟ وهل يمكن أن نطالب كلَّ...