لويس والحركات الإسلامية المعاصرة.

 

        تعد الحركات الإسلامية المعاصرة أو ما يطلق عليه الإسلام السياسي من أبرز القضايا في الفكر السياسي المعاصر. وقد اهتم لويس بهذه القضية عندما وجد أن الاتجاه في الغرب عموماً يميل إلى الاهتمام بالحركات الإسلامية وأن هذا يقدمه إلى المسؤولين في العالم الغربي وجهات صناعة القرار السياسي والاقتصادي على أنه خبير في قضايا العالم الإسلامي المعاصرة.

        ولعل ظهور ما يمسى الحركات الإسلامية المعاصرة قد جاء في أثناء مقاومة البلاد الإسلامية للاحتلال الأجنبي، ولكن هذه الحركات اندمجت في الحكومات التي قامت بعد انتهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال. غير أن ظروف البلاد العربية الإسلامية بعد الاستقلال استدعت من المسلمين أن ينظموا أنفسهم في حركات تدعو إلى العودة للإسلام بعد أن جاء الاستقلال بالكثير من الانحرافات في السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم وغيرها من المجالات.

        يصر الباحثون الغربيون ومن بينهم لويس على تسمية هذه الحركات ب "الأصولية الإسلامية" بالرغم من أن بعض الباحثين الغربيين قد أدركوا الخطأ في ذلك حيث يقول جيل كيبل عن المصطلح الإنجليزية "الأصولية"Fundamentalism والفرنسي Integrisme " إنهما تبسيطيتان يختزلان الظاهرة ويحرفانها، وهما يعيقان معرفتنا بتلك الظاهرات في مجملها ، ثم إن عجزنا الإجمالي عن تفسير أو تأويل الحركات الإسلامية اليوم إنما يعيد إلى حد بعيد إلى استخدامنا هذه النظارات القديمة التي نضعها على أعيننا لأننا لا نجد في عجالة أمرنا خيراً منها يمكن كل ما تقوم به هو زيادة التشويش في إدراكنا."([1])

        ويلاحظ أن لويس وغيره من الكتاب الغربيين خلطوا بين الأصولية الغربية بكل ما فيها من رفض للمجتمعات الغربية وانحلالها وانحرافها نحو المادية الطاغية وبين الحركات الإسلامية التي تنادي بالعودة إلى تطبيق الإسلام في حياة المسلمين في النواحي الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأولاً وقبل كل شيء في النواحي العقدية. ولذلك فهم يخلطون حقاً بين الإسلام وبين ما يتخيلون أنه "أصولية " بالمعنى الغربي، كما يصمون كل دعوة إلى الإسلام على أنها تطرف وتشدد.

        وتأتي أهمية تناول كتابات لويس حول تيار الحركة الإسلامية للمكانة العلمية البارزة التي حققها لويس بصفته مؤرخاً مختصاً في التاريخ الإسلامي، وبصفته خبيراً في شؤون العالم الإسلامي (الشرق الأوسط) ولأن كتاباته تصل إلى أعلى المستويات في مصادر صنع القرار السياسي في الغرب، ولأن لويس يتميز بغزارة الإنتاج والنشاط المتواصل في نشر فكره.

        يبدي لويس تردده في نعت الحركات الإسلامية بالأصولية لأن هذا المصطلح نشأ في الغرب لوصف الحركات البروتستانتية، ولكنه يعود ليجد أن معظم المسلمين ينطبق عليهم هذا المصطلح وهذا ما يقوله:" كل المسلمين مبدئياً- أصوليون في موقفهم من نص القرآن، ويختلف الأصوليون المسلمون عن غيرهم من المسلمين، وبالطبع من الأصوليين النصارى في التمسك الشديد بالتعاليم والأساليب التقليدية بالإسلام، وتقيدهم الحرفي المفرط بالإسلام، إنهم يعتمدون ليس فقط على القرآن، ولكن أيضاً على السنة النبوية. وعلى التراث الإسلامي من الكتابات العقدية والشرعية. إن هدفهم ليس أقل من القضاء التام على كل التشريعات المستوردة المتطورة، والنظام الاجتماعي وإحلال الشريعة كاملة مكانها ذلك. وتتضمن الشريعة بقوانينها وعقوباتها وتشريعاتها وصيغة الحكومة التي تقرها. ([2])

         أما أسباب نجاح أو انتشار الحركات الإسلامية (الأصولية) فيرجع إلى وجود الحكومات الفردية التي تمنع وجود الأحزاب السياسية وبالتالي تستطيع الحركات الإسلامية أن تتجمع في المساجد وفي المناسبات الدينية، وهذا أمر لم تستطع الحكومات عمل شيء لإيقافه. ([3])

        ونتوقف عند أخطاء لويس المنهجية هنا فالحركات الإسلامية التي تسعى إلى استعادة مكانة الإسلام في المجتمعات الإسلامية ليست " أصولية" ذلك أن "الأصولية الغربية تسعى كما يقول جيل كيبل إلى "مكافحة العلمانية وإحداث تغيرات في المجتمعات الغربية التي طغت عليها المادية وانهارت فيها القيم والأخلاق " أما العالم الإسلامي فلم يصبح فيه علمانياً إلاّ النخب المتغربة وبصورة جزئية أيضاً. بينما تولدت حركات معاودة التنصير في مجتمعات عاشت في غالبيتها العظمى ومنذ أكثر من قرن علمنة دنيوية عميقة، وقد تجلت هذه العلمية في المجالات القانونية والتنظيمية. ([4]) ويذكر كييل أن الأصولية اليهودية أيضاً قد وصلت إلى قناعة بأن الثقافة الغربية تتصف بخواء وعبثية كاملين وأن هدفها الوحيد هو إشباع رغبات الفرد داخل سياق من المادية لا حدود لها. ([5])

        ويرى لويس أن الحركات الإسلامية أو " الأصولية" إنما هي حركات ضد الغرب وضد الحضارة الغربية وقد انتقد هذا التفكير الباحث الأمريكي جون اسبوزيتو حيث كتب يصف مثل هذه الكتابات بأنها تقوم على " الطرح الانتقائي والتحليلات المتعلقة بالإسلام وتطورات الأحداث في العالم الإسلامي ..بأنها تفشل في توضيح القصة بكاملها وفي أن تعطي الصورة المتكاملة للتوجهات الإسلامية ونتيجة لذلك فإن الإسلام وحركة التجديد يتم تبسيطهما بسهولة في تلك القوالب البسيطة والفجة التي تصور الإسلام بأنه ضد الغرب وبأنه صراع الإسلام ضد التقدم أو الغضبة الإسلامية والتطرف والتشدد والإرهاب.([6])

موقف الحركات الإسلامية من الغرب والحضارة الغربية

يزعم لويس أن " عداء الأصولية يتركز ضد عدوين هما العلمانية والتحديث، وأن الحرب ضد العلمانية حرب صريحة وواعية، أما الحرب ضد التحديث ففي معظمها ليست واعية ولا صريحة وموجهة ضد عملية التغيير بكاملها التي حدثت في العالم الإسلامي في القرن الأخير، وحولت البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبلاد الإسلامية. ويؤكد لويس أن الغرب هو مصدر هذا التغيير ولما كانت أمريكا هي زعيمة الغرب فإن الكراهية والغضب يوجهان إليها. ويرى لويس أن نوبة الغضب والحركة التي يواجهها الغرب تجاوزت بكثير مستوى القضايا والسياسيات والحكومات التي تمارسها ولا بد أن هذا الأمر لا يقل عن صدام حضاري. وينصح لويس الغرب أن يقوم بدراسة الإسلام تاريخاً وتراثاً وحاضراً وعلى المسلمين أن يفعلوا الشيء نفسه بالنسبة للحضارة الغربية ومن ثم يختارون. ([7])

ويزيد لويس توضيح هذا العداء أو الاستعداء للغرب ضد الحركات الإسلامية حين يقول: "وحدث بعد ذلك تغير كبير عندما بحث قادة الصحوة الإسلامية المتنامية عن عدوهم وحددوه بأنه أعداء الله وحددوا موقعهم واسمهم في العالم الغربي، وفجأة أو هكذا بدا الأمر أن أمريكا هي العدو الأول أو الشيطان، أو تجسيد لإبليس والمعارض الشيطاني لكل ما هو خير وبخاصة للمسلمين."([8])

ويعيد لويس الصراع بين الحركات الإسلامية والغرب إلى جذوره التاريخية في الصراع مع الحضارة اليونانية والرومانية ومن وجهة نظره "أن القرون الطويلة التي مر بها الإسلام جعلته يتحول إلى نموذج جامد من السلوك والاعتقاد، ولكن إذا كان المعدن أكثر صلابة، فكذلك المطرقة حيث إن التحدي اليوم أكثر تطرفاً بالمقارنة وأكثر عنفاً ونفاذاً، ولا يأتي ذلك من عالم مغلوب، بل من عالم غالب" ([9])

المناقشة:

لقد وقع لويس في عدة أخطاء منهجية في حديثه عن أصل الصراع بين الإسلام والغرب أولها المغالطات التاريخية، فالمواجهة الأولى بين الإسلام والنصرانية أو الغرب المتمثل في الدولة الرومانية كانت نقطة انطلاقة دعوة الإسلام وكانت المواجهة قوية في الناحيتين المادية والعسكرية. أما المواجهة على صعيد العقيدة والفكر والحضارة فقد استطاع الإسلام احتواء هذه الحضارات بقوته الذاتية أولاً، وبالنموذج الإنساني الرفيع في التطبيق. أما المواجهة الحالية فتختلف جذرياً ذلك أن الغرب يفرض أو يحاول أن يفرض فكره وثقافته وحضارته وعقيدته ومسلماته بالقوة وبشتى الوسائل التي أتاحتها له التقنية الغربية. وأما زعمه أن استخدام الإسلام لقرون عديدة حوّله إلى نموذج جامد من السلوك والاعتقاد فأمر لم يقدم لويس دليلاً عليه كما لم يوضح معنى الجمود ولا يصف الإسلام بالجمود إلاّ جاهل به أو من يقصد تشويهه.

ومن أخطائه المنهجية أيضاً نظرة الاستعلاء عند ما يصف لويس الإسلام بالمعدن الصلب ويصف الهجمة الغربية بالمطرقة ، ويتأكد ذلك حين يصف المسلمين بالعالم المغلوب وهو هنا يخلط بين الإسلام وأوضاع المسلمين إذ لا يمكن أن إنكار أن المسلمين في وضع المغلوب في العصر الحاضر ولكن هذا لا ينطبق على الإسلام الذي هو رسالة الله الأخيرة لعباده وهو قوة الغد العالمية مهما كانت قوة المطرقة " الحضارة الغربية" وهو ما يؤمن به المسلمون للنصوص التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها " لا تقوم الساعة حتى لا يبقى بيت حضر أو مذر إلاّ وفيه شيء من لا إله إلاّ الله بعز عزيز أو ذل ذليل) وكذلك حديث نزول عيسى وكسر الصليب وارتفاع راية لا إله إلاّ الله من جديد.. وغيرها من المبشرات.

وثمة أخطاء منهجية أخرى في حديث لويس عن عداء الحركات الإسلامية "الأصولية" للتحديث والعلمانية. وهذه من مزاعم لويس التي لم يقدم عليها الدليل، بل إنه ناقض نفسه حينما ذكر أن الثورة الإيرانية مثلاً أخذت ببعض الوسائل الغربية في الحكم كالبرلمانات والتصويت. فالعداء للعلمانية قضية مسلم بها ذلك أن الإسلام لا يفصل بين الدين والحياة وهو يعلم أن الإسلام منهج متكامل للحياة في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع وفي كل مجالات الحياة. أما العلمانية التي ترى أن ينحصر دور الإسلام في العبادات والطقوس فأمر لا شك أن الحركات الإسلامية تعاديه، بل يعادي ذلك كل مسلم متمسك بدينه لأنه يتلو قول الحق سبحانه وتعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)

وقد خلط لويس بين التحديث والتغريب فالمسلمون لم يكونوا قط ضد المدنيّة وإلاّ لما تعلم المسلمون في القرن الأول صناعة الأسلحة من الفرس والروم ثم تفوقوا عليهما. ولما أخذ المسلمون بكثير من أساليب الإدارة والحكم بعد أن هذبوها وفقاً للشريعة الإسلامية. وقد شهدت الحضارة الإسلامية في عصورها الزاهرة الصناعات. والمسلمون يستندون إلى كتاب الله العزيز في الأخذ بأسباب المدنية وعمارة الأرض. ومن ذلك ما كتبه عبد الحميد بن باديس في تفسير قوله تعالى {أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} حيث فسرها بقوله:" والذي أفهمه ولا أعدل عنه هو أن المصانع جمع مصنع من الصنع كالمعامل من العمل، وأنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها العمران. وهل كثير على أمة توصف بما وصفت به في الآية أن تكون لها مصانع بمعناها العرفي عندنا؟ بل وإن المصانع لأول لازم من لوازم العمران وأول نتيجة من نتائجه."([10])

ونقف عند زعمه معاداة الحركات الإسلامية " الأصولية" للغرب وبخاصة أمريكا التي تتزعم الغرب الآن فقد قدم جون اسبوزيتو وهو حريص على مصلحة الغرب شهادته أمام الكونجرس موضحاً أسباب هذا العداء وهي:

أولاً: أن أمريكا أخضعت كل سياساتها في المنطقة لصالح إسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي.

ثانياً: التدخل الأمريكي في صراعات محلية داخلية.

ثالثاً: فشل الولايات المتحدة في التمييز بين الحركات الإسلامية المعتدلة والمتشددة ووصم الجميع بالتطرف والعنف.

رابعاً: أن الأمريكيين يفترضون أن المزج بين الدين والسياسة سيؤدي إلى ظهور حركات استبدادية. ([11])

نموذج لمنهج لويس في دراسة الحركات الإسلامية (الإخوان المسلمون)

يعرّف لويس حركة (الإخوان المسلمون) بأنها " جمعية نصف علنية واسعة الانتشار تقوم على أساس الخلايا السرية والفتوة ذات الطابع العسكري ، وشبكات ضخمة واسعة من المؤسسات الثقافية الراديكالية."([12]) وأنها كانت أقرب  ويقول في بحث آخر إن بداياتها كانت غامضة ، ولكن يبدو أنها نشأت في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات وأنها كانت مهتمة في البداية بالنشاطات الدينية والاجتماعية حيث بعث مؤسسها الدعاة إلى المساجد والأماكن العامة الأخرى في جميع أنحاء مصر، وقد قام الإخوان بنشاط واسع في الميادين التعليمية والاجتماعية والخيرية والدينية في المدن والأرياف ، ومارسوا بعض الأعمال الاقتصادية . أما عن نشاطهم السياسي فيرى لويس أنه بدأ عام 1936بعد توقيع المعاهدة المصرية وتبني قضية الفلسطينيين العرب ضد الصهاينة، وضد الحكم البريطاني واستطاعوا أن يمدوا نشاطاتهم إلى الدول العربية الأخرى. ([13]) وقال في موضع آخر إنها بدأت نشاطها السياسي بعد عام 1940م.

ويتناول لويس صلة الجماعة بالملك فاروق فيزعم أن الجماعة حظيت بدعم الملك الذي كان لا يحب الوفد، ولكن بعد عودة متطوعي الجماعة من فلسطين بعد حرب 1948 وما قيل عن تدبيرهم لخطة للإطاحة بالملك فاروق قام الأخير بتوجيه ضربة إليهم بواسطة رئيس وزرائه النقراشي. ([14]) ويعلق لويس قائلاً يبدو أن الجماعة قد أصبح لديها قوة مسلحة قادرة على القيام بدور ما في الأحداث. ولهذا قام النقراشي بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها وإلقاء القبض على كثيرين من أعضائها. وقد اغتيل النقراشي عام 1948، وبعد ذلك بقليل اغتيل المشرف العام في ظروف لم يتم الكشف عنها حتى الآن. ([15])

كما تحدث لويس عن علاقة الجماعة بالثورة المصرية مشيراً إلى أن عدداً من الضباط المشاركين في الثورة كانوا قد انتموا إلى الإخوان ومنهم جمال عبد الناصر. وقد حلّت الثورة الجماعية في يناير 1954، وجاءت المعاهدة ليعود الإخوان إلى إبداء تذمرهم من المعاهدة. وينسب لويس محاولة اغتيال جمال عبد الناصر إلى أحد الإخوان مما أدى إلى زيادة التوتر بين الإخوان والثورة ومحاكمة أعداد كبيرة منهم وتنفيذ الإعدام في ستة منهم، وأصبح التنظيم غير شرعي ومع ذلك فقد استمر في نشاطه. ([16])

ويجمل لويس صورة (الإخوان المسلمون) بقوله " والصورة التي تعكس الإخوان المسلمون هي صورة العنف والتعصب الأعمى، وليست كلها من صنع أيديهم، فلقد ضخمها وبالغ فيها أعداؤهم."([17])

المناقشة:

كان لابد لبرنارد لويس أن يتحدث عن الإخوان المسلمون فهم من أكبر الحركات الإسلامية في العصر الحاضر إن لم يكونوا أكبر حركة إسلامية في العصر الحاضر، وقد أصبح لها امتدادها في جميع أنحاء العالم الإسلامي كما أن الإنتاج الفكري للمنتسبين لهذه الحركة يغطى مساحة واسعة من الإنتاج الفكري في العالم الإسلامي. ولم يكن لويس باحثاً أصيلاً مدققاً في ما كتبه عن هذه الحركة بالرغم من أنه سبقه عدد كبير من الباحثين الغربيين الذين كتبوا عن هذه الحركة. ولم تخرج بعض آراء لويس عن آراء من سبقه من المستشرقين.

وأول أخطائه المنهجية أنه ادعى أن بدايات الحركة كانت غامضة وأنه يمكن أن تكون قد تأسست في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، مع أن التاريخ الدقيق لهذه الحركة معروف تماماً منذ البدايات، وقد صدر لهذه الحركة العديد من الإصدارات من كتب ومجلات مما يجعل الباحث قادراً على تجلية هذه الأمور التي يدعي لويس غموضها. وهذا الخطأ المنهجي الذي يقع فيه لويس وغيره من المستشرقين إنما يقصد منه التقليل من شأن الموضوع مدار البحث فهو حين يضفي الغموض على قضية من القضايا يجعل ذلك مبرراً لوضع فرضياته التي لا تستند إلى أي دليل، فليس من المعقول أن يجهل تاريخ حركة الإخوان وقد بدأت الدراسات الاستشراقية حول هذه الحركة في وقت مبكر.

أما ربط قبول الشعب المصري لحركة الإخوان بكره الطبقات الكادحة المظلومة لمستغليها من السادة المتغربين مثلما تكره الغربيين أنفسهم، فثمة عدة أخطاء منهجية في ذلك أولها: التمسك بالتفسير المادي لأحداث التاريخ أو الأحداث المعاصرة، وهي شبهة قديمة أطلقها لويس وغيره على أوائل الذين اتبعوا الدين الإسلامي. وقد سبق لويس إلى هذه الفكرة اليهودي ناداف سافران الذي يقول عن الإخوان" وعندما سبب التدهور الاقتصادي بؤساً وفقراً في المجتمع المصري، قدمت الحركة للجماهير برنامجها الاجتماعي الذي تقوم عمده على مفهوم وحدة الأمة ومسؤولياتها الجماعية عن أحوال الأمة."([18])وممن قال بهذا الرأي جورج لينتشاوسكي حيث كتب يقول: "ولقد اتجه حسن البنا في بادئ الأمر إلى الطبقات المظلومة والفقيرة ، ثم بعد ذلك انتشرت دعوته في الأوساط المثقفة. وهو منذ البداية يحاول أن يكسب تعاون ذوي النفوذ."([19])

كانت دعوة الإخوان كما هو الحال في أي دعوة إلى العودة إلى الإسلام تتوجه إلى جميع طبقات الشعب ولا يعيبها أبداً إن توجهت للطبقات "الكادحة" و "المطحونة" أو الفقيرة لأن هذه الطبقات لم يفسدها التغريب، ولذلك فهي أقرب إلى قبول الحق والدعوة إلى الله. وقد كانت قيادة الأحزاب المتغربة تتظاهر بأنها تحارب الاستعمار فيما هي في الحقيقة تقلده، وتتبع خطواته ، وقد صرح مانفرد هالبرن Manfred Halpern بأن الإخوان قد وعدوا بتوجيه معركتهم أساساً ضد الحكام والرأسماليين الأجانب.([20]) ومع ذلك فقد توجه حسن البنا إلى جميع طبقات المجتمع وفي ذلك يقول البنا إنه عندما بدأ دعوته في الإسماعيلية كان قد قرر دراسة الناس والأوضاع دراسة دقيقة ومعرفة عوامل التأثير في هذا المجتمع الجديد ، وقد عرفت أن هذه العوامل أربعة : العلماء أولاً، وشيوخ الطرق ثانياً ، والأعيان ثالثاُ، والأندية رابعاً.([21])

ومن أخطاء لويس المنهجية تجاهل الحقائق فوصفه لجماعة الإخوان بأنها "نصف علنية" غير صحيح فالجمعية علنية ولم يقدم لويس الدليل على الافتراضات الأخرى التي ذكرها من الحديث عن الخلايا السرية والفتوة والطابع العسكري. ولكن جهل لويس للإسلام أو تجاهله له جعله ينظر إلى هذه الأمور هذه النظرة القاصرة. فالتدريب العسكري إن وجد عند الإخوان فإنه جزء من التربية الإسلامية فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أن استقر في المدينة المنورة حتى بدأ في إرسال السرايا من المهاجرين، ثم بدأت التدريبات العسكرية قريباً من جبل سليع بالمدينة المنورة في المنطقة التي كانت تعرب بباب الشامي.

وقد حدد لويس بداية دخول جماعة الإخوان في المعترك السياسي بعام 1936 أو بعد عام 1940، فهذا التحديد التاريخي خطأ من أكثر من جهة وهو أن الإسلام لا يفصل بين السياسة والحياة. ألم يدرك لويس وغيره كيف أن القرآن الكريم تناول قضايا الحكم والسياسة في حديثه عن داود وسليمان عليهما السلام؟ ألم يدرك أن القرآن تحدث عن طالوت الذي جعله الله ملكاً على اليهود وكيف أنهم اعترضوا على ذلك بأنه لم يؤت سعة في المال؟ {ولم يؤت سعة من المال} ([22]) ألا يعلم لويس كم مرة ذُكر فيها فرعون في القرآن الكريم وأن كثيراً من السياقات التي وردت سياسية بحتة؟ ألا يعرف قصة يوسف عليه السلام وتوليه المسؤوليات المالية في مصر؟

وثانياً أن حركة الإخوان انطلقت من الإسماعيلية وكان هدفها الأول التأكيد على هوية الفرد المسلم وإشعاره بكيانه وذاتيته. وقد روى الشيخ حسن البنا نفسه العديد من القصص حول تحول العمال من تابعين أذلاء إلى موظفين يحرصون على كرامتهم. ([23]) وقد بلغ ذلك عن طريق التعليم والخطب والمحاضرات، والمواعظ، وإنشاء المدارس، والمساجد. وقد استطاع البنا أن يصل بدعوته في فترة التأسيس إلى خارج الإسماعيلية بإنشاء شُعَبٍ في عدة مناطق. كما واجهت الدعوة موجة من العداء شارك فيها بعض النصارى. وقد قوّم زكريا سليمان بيومي هذه الفترة الأولى وبين أن السياسة لم تنفصل مطلقاً عن فكرة الدعوة بقوله:" فقد أثبت الشعب المصري بتأييده السريع للإخوان استمرار تمسكه لا بالدين الإسلامي من حيث هو عقيدة وتراث وحضارة وتقاليد فحسب، وإنما لكونه فكرة سياسية كذلك."([24])

وكان انتقال البنا بدعوته إلى القاهرة حدثاً سياسياً في حد ذاته، كما عقدت الجماعة مؤتمرين في عام واحد، تناول الأول منهما موضوع التنصير، وكان من توصياته إرسال خطاب إلى الملك فؤاد يطلب منه اتخاذ موقف ضد هذه الجماعات ويرى سليمان بيومي في هذا الأمر احتكاك البنا بالقوى السياسية في القصر باعتبارها مسؤولة عن الشؤون الدينية. ([25]) وقد فات بيومي أن الجماعات التنصيرية كان لها ارتباطاتها الخارجية وأنها كانت تقوم بدور سياسي. أما المؤتمر الثاني فقد اتخذ قراراً بإنشاء شركة طباعة، وبحث قضايا النشر والدعاية التعليمية. ([26])

وبعد سبعين سنة على بداية جماعة الإخوان المسلمون تتكرر الاتهامات لهذه الجماعات بالسعي للإطاحة بالأنظمة الحاكمة لتبرير ضرب هذه الحركات. فقد كان موقف الإخوان من الحكومة المصرية في العهد الملكي هو السعي إلى تطبيق الإسلام وتأييد الدعوة إليه وفي ذلك يقول البنا:" فموقفنا إذا من وزارة علي باشا ماهر هو موقفنا من أية وزارة، موقف قديم لا يتغير من الوزارات ولا بتبدل الوزراء، فمن أيد الفكرة الإسلامية وعلم لها واستقام في نفسه وفي بيته وتمسك بتعاليم القرآن في حياته الخاصة والعامة كنّا له مؤيدين ومشجعين. ولن نحدد موقفنا ولن نصدر حكماً إلاّ على أعمال لا أقوال."([27])

ويورد لويس بعض الحقيقة حين يعترف بأن صورة العنف والتعصب الأعمى التي يوصف بها الإخوان ليست كلها من صنع أيديهم حيث ضخمها وبالغ فيها أعداؤهم. فهذا يتضمن أن الإخوان يتحملون جزءاً من المسؤولية، ولم يبد لويس رأيه فما إذا كان الإخوان فعلاً يتصفون بالعنف والتعصب وكن حديثه عنهم في أماكن متعددة من أنها حركة نصف علنية تعمل من خلال الخلايا السرية وغير ذلك يؤكد أن لويس لا ينفي التعصب والعنف عن الجماعة. ولكن هذه الافتراضات لا صحة لها لو درس لويس حياة الإخوان وفكرهم ومبادئهم. وكان على لويس المؤرخ الذي يدعي الموضوعية أن لا يكتفي بهذه العبارة الموجزة عن عنف الإخوان المزعوم فيوضح أن العنف كان سمة من سمة الحكومات في تعاملها مع الإخوان. ومن السهل على لويس وغيره من المستشرقين أن يصف الحركات الإسلامية بالعنف والاستبداد فهذا أمر طبيعي في رؤية الاستشراق للحركات الإسلامية عامة.




[1] - جيل كيبل. الحركات الأصولية المعاصرة في الأديان الثلاث. ترجمة نصير مروة (قبرص: 1992م) ص 11.

[2] - Bernard Lewis. The Political Language of Islam. ( Chicago: 1988) P.117-118

[3] -المرجع نفسه، ص 115-116.

[4] -كيبل، مرجع سابق ص 116.

[5] - المرجع نفسه ص 215.

[6] -جون اسبوزيتو." التهديد الإسلامي " ترجمة وإعداد المؤسسة المتحدة للنشر والبحوث في واشنطن، الحلقة الثانية. في مجلة المجتمع. (الكويت) ع 1034، 26 رجب 1413، 19يناير 1993.ص 38-41، ويشير اسبوزيتو بعبارة الغضب الإسلامي إلى مقالة للويس نشرت في مجلة أتلانتيك الشهرية The Atlantic Monthly بعنوان " جذور الغضب الإسلامي"The Roots of Muslim Rage..

[7] - Bernard Lewis. “Western Civilization: A View from the East.” The 19th Thomas Jefferson Lecture in the Humanities. Sponsored by the National Endowment for the Humanities, May 2, 1990. P.23.

[8] -المرجع نفسه ص 24-25.

[9] - Bernard Lewis. The Arabs in History.  P. 177.

[10] - عبد الحميد بن باديس. ابن باديس حياته وآثاره. جمع وإعداد عمار الطالبي (الجزائر :1388هـ، 1968م) ج 4 س 68.

[11] - Islamic Fundamentalism in The Muslim World. Hearings of the 99th Congress in 1985.Testomony of John Esposito.

[12] -لويس، الغرب والشرق الأوسط، ترجمة نبيل صبحي. (بدون ناشر) ص 173.

[13] - Lewis, “The return of Islam.” Op. Cit. 

[14] - لويس، الغرب والشرق الأوسط. ص 174.

[15] - Lewis. “The Return of Islam.” Op., Cit. P. 14.

[16] - برنارد لويس. " عودة الإسلام" في مجلة الدعوة (النمسا) ع 87، ذو الحجة 1403هـ سبتمبر 1983، ص 35.

[17] - Bernard Lewis. “The Middle East and North Africa.” In Chamber’s Encyclopedia World Survey, 1955. P.p. 306-312.

[18] - عبد الله الفهد. الإخوان المسلمون في الفكر الغربي. (عمّان: 1399هـ/1979م) ص 28 نقلاً عن

Nadaf Safran. Egypt in Search of Political Community: An Analysis of the Intellectual and Political Evolution of Egypt: 1804-1952: (Oxford: 1961) p. 199.                                                                          

[19] - المرجع نفسه نقلاً عن: George Lenozowski. The Middle East in World Affairs. (Cornell:1962)3ed. Edition.   p. 489                                                                                                                                            

[20] - Manfred Halpern. The Politics of Social Change in The Middle East and North Africa. (Princeton:1963) P. 48.

[21] -حسن البنا. مذكرات الدعوة والداعية. (بيروت:1394-1974) ط3، ص 66.

[22] -سورة البقرة آية 247.

[23] - المرجع نفسه ص 85 وما بعدها.

[24] -زكريا سليمان بيومي. الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية 1928-1948. (القاهرة: 1399هـ/1979م) ص 84.

[25] -المرجع نفسه ص 87.

[26] ريتشارد ميتشل. الإخوان المسلمون. ترجمة محمود أبو السعود وتعليق صالح أبو رقيق. ط2(القاهرة: 1979م) ص.84.

[27] -البنا، مذكرات الدعوة والداعية، مرجع سابق، ص 251-258 عن مجلة النذير عدد 27 في 6رجب 1358هـ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية