كنت أود أن أضيف فصلاً عن التطورات التي
حدثت في ميدان التنصير منذ انسحاب البعثة العربية من دول الخليج العربي سنة 1393
هـ - 1973 م. ولكني وجدت أنّي لا أملك أدوات البحث بالإضافة إلى الجهد الذي سأقوم
به قد يكون تكراراً لجهد إخواني الباحثين في هذا المجال أمثال الدكتور عبد المالك
التميمي والدكتور سعيد حارب المهيري والأستاذ أحمد فون دنفر وغيرهم. لذلك فضلت أن
أكتب هذه الصفحات الموجزة تصحيحاً وتوضيحاً لما جاء في هذه الرسالة مع إشارة موجزة
إلى بحوث من ذكرت بشأن تطور العمل التنصيري حتى تكون الفائدة أتم، ولئلا يقال إننا
نقدم تاريخ التنصير من وجهة نظر المنصرين أنفسهم وإن كان هذا الأمر مفيداً في حد ذاته،
لكن لنا من وقفات مع ما كتبوا ويكتبون عنا.
وفي هذه الوقفات مع الرسالة يود المترجم
أن يوضح أن عمل الباحث الأمريكي اتسم بعدة سمات إما عن جهل أو عن عمد أو إن طبيعة
بحثه تقتضي ترك هذه الأمور ومن هذه السمات ما يأتي:
أولاً:
إغفال كثير من الحقائق حول بداية عمل البعثة العربية.
ثانياً:
عدم الحديث عن رد الفعل الإسلامي وأثره في عرقلة نشاط البعثة العربية بخاصة
والتنصير بعامة.
ثالثاً:
إيراد مواقف بعض حكام الخليج المؤيدة للبعثة العربية وإهمال مواقفهم الصلبة في منع
بعض النشاطات التنصيرية عدا ذكره لموقف الملك عبد العزيز من رفض السماح للمنصرين
بإنشاء محطات لهم في المملكة.
رابعاً:
الغموض في الحديث عن ارتباط العمل التنصيري بالسياسة الاستعمارية والمخططات
الاستعمارية في المنطقة.
ولنبدأ
في توضيح هذه الأمور بإيجاز:
أولاً:
لقد أغفل الباحث اتصال المسؤولين المؤسسين للبعثة العربية بالمنظمات التنصيرية
المشابهة في المنطقة قبل الشروع في عملهم. وقد كان لهذا الاتصال أثره في مدّ
البعثة العربية بمساعدات كبيرة في علمها وقد كان من هذه الاتصالات ما يلي:
1 –
زيارة جيمس كانتين (أحد الأعضاء المؤسسين) لبريطانيا لبحث أوجه التعاون مع إرسالية
كيث فالكوينز في عدن ومن ذلك الحصول على معلومات عن الأحوال الجغرافية والاجتماعية
والاقتصادية والدينية للمنطقة.
2 –
الاتصال بالإرسالية المتحدة في العراق.
3 –
إقامة بعض رواد البعثة العربية في بيروت عدة أشهر بهدف جمع المعلومات، ودراسة
اللغة العربية وممارستها، والاتفاق مع أحد النصارى اللبنانيين وهو كميل عبد المسيح
للعمل معهم في الخليج.
4-
تلقّي المساعدة من الإرساليات الأمريكية التي سبقتهم في هذا المجال والتي كانت
تعمل في سوريا ولبنان[1]
.
كذلك
أغفلت الدراسة ذكر الانشقاقات أو الخلافات في صفوف الارسالية وقد كان بعضها مهماً
وخطيراً ومن ذلك موقف الدكتور رقز، فقد فصلته الإرسالية من عمله رغم أنه كان
طبيباً ناجحاً. وقد ذكر أحد المسؤولين في البعثة أنه كان يخالف البعثة في بعض
معتقداتها الأساسية، ومن ذلك ألوهية المسيح – حسب زعمهم – كما عرف عن هذا الطبيب
حرصه على معرفة عقيدة المرضى الذين كان من المفترض فيه أن يعمل على تنصيرهم[2]
.
ثانياً:
رد الفعل الإسلامي:
عندما
بدأت البعثة نشاطها التعليمي في الكويت بافتتاح مدرسة للأولاد سنة 1913 م فلم يمض
ثلاثة أشهر على بدأ الدراسة حتى سحب معظم الآباء أبناءهم من هذه المدرسة للأسباب التالية:
1 –
اصطحاب التلاميذ إلى صلاة الأحد في الكنيسة.
2 - تعليم
الطلاب الدين المسيحي وإعطاؤهم نسخاً من الإنجيل باللغة العربية لأخذها إلى منازلهم.
3 –
وقد أخذت المعارضة الإسلامية صورة أخرى عندما افتتحت البعثة العربية مكتبة لبيع
الكتب الدينية في السوق الرئيسي في الكويت حيث قام العلماء بإلقاء الخطب والمواعظ
في المساجد محذرين من العمل التنصيري ولم يكتفوا بذلك، بل عملوا على تأسيس "
المدرسة المباركية " في الكويت وكذلك " الجمعية الخيرية " أيضاً. وكذلك
افتتحوا نادياً ثقافياً إسلامياً في البحرين باسم " النادي العربي الإسلامي
" وكان من أهداف الجمعية الخيرية في الكويت استقدام طبيب وصيدلي مسلمين
لمعالجة المرضى [3].
ويشير
الدكتور عبد المالك التميمي إلى أن المنصرين أرادوا أن يقوموا بالتنصير خارج العمل
الطبي عن طريق زياراتهم للأهالي، ولكن هذا الأمر وجد معارضة شديدة من العلماء مما
جعل الشيخ مبارك يصرح لأحد أطباء البعثة بأن يقصروا نشاطهم على المستشفى فقط [4].
ثالثاً:
مواقف حكام الخليج:
لقد
أورد الباحث الأمريكي موقفاً عظيماً للملك عبد العزيز بمنع المنصرين من العمل في بلاده،
ولكن كان هناك مواقف أخرى جديرة بالاهتمام وحتى يكون منصفاً للحكام الآخرين. ومن
هذه المواقف ما يلي:
1 – لم
يتوان أمير الكويت عام 1903 م عن إصدار أمره للبعثة بإغلاق المكتبة التي افتتحتها
البعثة لبيع الكتاب المقدس، بل تضمن الأمر الطلب من البعثة مغادرة البلاد [5].
2 –
وفي عام 1909 م احتجّ حاكم مسقط على افتتاح مستشفى للبعثة في مطرح، وكان موقفه أن
البعثة يجب أن لا تتجاوز مسقط. وقد دارت مراسلات بينه وبين نائب القنصل الأمريكي
بالوكالة اتسمت بالعنف من جانب حاكم مسقط ضد هذا الانتهاك الصريح لحقوقه، ولكن
القنصل الأمريكي بالوكالة أصر من جانبه – على موقفه – وبلهجة شديدة وذلك في رسالة
بعثها إلى حاكم مسقط جاء فيها " ... يشرفني أن أقول أنني أحتج بشدة على هذا
التمييز المهين ضد الأطباء الأمريكيين وحقوقهم في أراضي سموكم "". وعاد
الأمير في خطاب يرفض السماح للمنصرين بافتتاح المستشفى [6].
رابعاً:
الغموض في توضيح الارتباط السياسي للبعثة:
لقد
أشار الباحث الأمريكي في رسالته أن الخدمات الطبية للبعثة العربية قد كانت في خدمة
جيوش الحلفاء في المنطقة، ولكنه لم يزد على هذه النقطة بينما أوضحها الدكتور عبد
المالك التميمي الذي بحث في الوثائق نفسها التي رجع إليها الباحث الأمريكي ونجمل
هذا الارتباط السياسي في النقاط التالية:
1 –
محاولة السلطات البريطانية وضع الخدمات الطبية للبعثة العربية الأمريكية تحت
إشرافها العام. بل إنها وصلت إلى الرأي بأنه إذا صدر عن البعثة العربية أي تصرف قد
يفهم بأنه مخالف للمصالح البريطانية فإن البعثة العربية تعرض نفسها للطرد من الخليج.
2 –
اتصال المخابرات البريطانية ببعض أفراد البعثة العربية والحصول على تأييدهم
للسلطات البريطانية في المنطقة. وقد قام بعض أفراد البعثة بتأكيد ولائهم للسياسة
البريطانية بتقديم تقارير عن حكام المنطقة ومن ذلك ما كتبه الدكتور بول هاريسون
حول حمدان " شيخ أبو ظبي " يصف فيه هذا الحاكم بالولاء لبريطانيا ويقترح
وسائل معينه للتعامل معه.
3 –
تقديم المنصّرين المساعدة لبعض أمراء الخليج في خلاف بعضهم مع بعض.
4 –
محاولة التأثير في بعض حكام المنطقة وشيوخها لتأييد بريطانيا والحلفاء في الحرب
العالمية الأولى. وقد روت إحدى زوجات أطباء البعثة عن اجتماع خمسة من شيوخ المنطقة
مع زوجها في منزله وكان نتيجة الاجتماع خروجهم بتصريح كتبوه بمشورته لتأييد الحلفاء.
5 –
تقديم تقارير عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد وذلك للفرصة
التي أتيحت لهم للاتصال المباشر بأهل البلاد في حين لم يتح لرجال الاستعمار مثل
هذه الفرصة [7].
وقفات أخرى:
لقد
وضعت الإرسالية العربية القواعد للعمل التنصيري، واستخدمت في ذلك عدة وسائل أبرزها
الطب والتعليم. وعندما قررت أن تغادر البلاد وأن تحل البعثة كانت قد أسندت العمل
إلى مجموعة من الكنائس الوطنية. فلذلك نرى أن التنصير لو يتوقف، ولكنه أخذ صوراً
وأشكالاً أخرى، واستخدم لذلك مجموعة من الوسائل التي ماتزال تعمل حتى يومنا هذا،
ومن هذه الوسائل ما يلي:
1 – الإذاعة:
وهذه
وسيلة واسعة الانتشار رصد لها المنصرون جميع الامكانات المطلوبة وذلك بإيصالها إلى
جميع أنحاء العالم الإسلامي، وبخاصة الخليج العربي. وهناك مؤسسة نصرانية كبرى تهتم
بهذا الجانب هي: " الاتحاد العالمي للاتصالات المسيحية " [8].
ويذكر
أحمد فون دنفر أن الإذاعة النصرانية تبث برامجها الموجهة إلى الخليج من محطات
مختلفة ويتم إعداد البرامج في محطات بعيدة مثل فرنسا وأسبانيا ولبنان وجزر سيشل. كما
استخدموا برنامج تعليم اللغة الإنجليزية في هيئة الإذاعة البريطانية B.B.C)) حيث يعرض على المستمع أن ترسل إليه نصوصٌ مترجمة إلى العربية
فإذا طلب هذه النصوص أرسلت إليه نسخة من الإنجيل مترجمة إلى اللغة العربية [9].
وقد
أورد الدكتور سعيد حارب بياناً بالإذاعات التنصيرية التي يمكن التقاطها في الخليج
وذكر الموجات التي تستخدمها هذه الإذاعات ومعلومات أخرى عنها [10].
2 –
السفينة لوغوس:
ومن
الوسائل الحديثة للتنصير قيام هذه السفينة الضخمة بحمل كميات كبيرة من الكتب ويعمل
على متنها مجموعة من المنصرين فإذا ما زارت أحد الموانئ العربية الإسلامية في
الخليج أعلن أنه سيقام معرض للكتب التربوية أو العلمية على متن السفينة. فإذا ما
جاء الزوار وجدوا مجموعة من الكتب التنصيرية توزع مجاناً أو بأسعار مخفضة. كما أن
المنصرين العاملين على متن السفينة يقومون بالحديث مع الزوار ويحصلون على عناوينهم
ويقومون فيما بعد بإرسال المنشورات والمطبوعات إليهم إذا لمسوا فيهم استعداداً
لتقبل هذا الأمر [11].
3 –
النشرات والمطبوعات:
إن من
حرص المنصرين على إيصال رسالتهم إلى جميع شعوب المنطقة ما جعلهم يستخدمون هذه
الوسيلة فهم يقومون بإصدار الكتيبات والملصقات المطبوعة طباعة جميلة يتفننون في
إخراجها وزخرفتها. ويكون توزيع هذه المنشورات والمطبوعات عن طريق صناديق البريد
بطريقة عشوائية أو يرسلونها إلى أفراد معينين من ذوي المناصب العلمية والادارية أو
السياسية بعد أن يحصلوا على عناوينهم من بعض النصارى الذين يعملون في الخليج.
وترسل
هذه النشرات من دول أوروبا المختلفة وأمريكا , ويقول الدكتور سعيد حارب بأن هذه
النشرات : " تحتوي فكراً تنصيرياً مباشراً يبث العقيدة النصرانية في قلوب
القراء ويحاول تشويه الإسلام في نفوسهم " [12].
4 –
صانعو الخيام:
لجأ
المنصرون إلى هذه الطريقة للتغلب على العقبات التي تواجههم في دخول بعض دول الخليج
التي لا يسمح لهم فيها بالدخول رسمياً. وتعني هذه الطريقة أن المنصّر لا يعلن عن
نفسه بأنه يعمل في هذا الميدان، بل يكون مهندساً، أو مدرساً، أو أستاذاً جامعياً،
أو خبيراً، أو غير ذلك من المهن. وقد تدفق هؤلاء على دول الخليج بعد هبوط الثروة
البترولية عليه.
وهم
بهذه الطريقة يحققون بعض الأهداف منها: أن العمل التنصيري لا يحتاج إلى دعم مالي
من المؤسسات والهيئات التنصيرية حيث إن الحكومات الخليجية تدفع رواتب هؤلاء المنصرين،
ولكن " صانع الخيام " يحتاج إلى التوجيه والإرشاد في عمله.
وقد
ناقش المؤتمر السنوي السادس لمنظمات الهيئات التنصيرية المنعقد في كاليفورنيا
بالولايات المتحدة عام 1980 م هذا الأمر وتحدث أحد المؤتمرين قائلاً بأن أبواب
العالم الإسلامي مفتحَة لهم حتى تلك الدول التي عرفت بأنها مغلقة في وجه المنصّرين.
ولا يكتفي صانع الخيام بالعمل وحده
في الميدان، بل إنه يسعى إلى توظيف بني دينه الذين يرى فيهم الرغبة والقدرة على
العمل التنصيري. فقد يكون في المؤسسة الخليجية شخص واحد وإذا به يجذب العشرات بعد أعوام.
وأحياناً تنص اعلانات التوظيف التي تنشر في أوروبا وأمريكا على ذلك. ولا يظهر
هؤلاء أمام الناس بالعمل التنصيري وإن كان هو هدفهم الأساسي [13].
5 –
المربيات والعمال:
سعى المنصرون أيضاً للدخول إلى المجتمعات
الإسلامية عن طريق هذا العدد الضخم من المربيات والعمال. فالمنصرون يقومون
بالسيطرة أولاً على المؤسسات العاملة في تصدير العمالة إلى دول الخليج فيسعون إلى
توظيف النصارى أولاً ثم بعد وصول العمال والمربيات إلى دول الخليج تهتم بهم
الكنائس المحلية لمواصلة العمل التنصيري عن طريقهم.
والعمال
يؤثرون في المجتمعات التي انتقلوا إليها عن أكثر من طريق فهناك التأثير الثقافي
والاجتماعي كما إنهم يقومون بنشر فكرهم وعقيدتهم.
أما
المربيات فلهن دور أخطر حيث يعملن في المنازل مع الأطفال مستأثرات بمعظم وقت
الأطفال وبخاصة عند غياب الأمهات أو حتى في حضورهن فيقمن بتعليم الأطفال الفكر
والعادات والعقيدة النصرانية [14].
وهناك
وسائل أخرى كثيرة ولا أود أن أطيل الحديث فحسبي ما أشرت إليه من مراجع، ولكن لابدّ
من الإشارة إلى موضوع المرأة ومدى اهتمام المؤسسات التنصيرية به وقد أشار إليه
الباحث الأمريكي في ثنايا بحثه. كما استخدم المنصرون الفنادق وما يقام فيها من نشاطات.
أعلم
أن هذه الوقفات لا تكفي، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه، فأسأل الله السداد
والرشاد والتوفيق وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] عبد المالك التميمي. التبشير في منطقة الخليج
العربي. الكويت: شركة كاظمة. 1982 م ص 50 – 53.
[2] المرجع نفسه ص 84.
[3] المرجع نفسه ص 215 – 216.
[4] المرجع نفسه ص 221 – 222.
[5] المرجع نفسه ص 64 .
[6] المرجع نفسه ص 272 – 274.
[7] عبد الملك. مرجع سابق. ص 260 – 280.
[8] سعيد حارب المهيري. الغزو الفكري في الخليج.
رسالة ماجستير مقدمة لكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض
عام 1405 هـ - 1984 م. ص 410.
[9] أحمد فون دنفر. التبشير المسيحي في منطقة الخليج.
(بدون ناشر وبدون تاريخ) ص 6.
[10] المهيري، مرجع سابق ص 412 – 414.
[11] المرجع نفسه ص 369 , ودنفر ص 15.
[12] سعيد حارب، الغزو الفكري، ص 402 .
[13] دنفر مرجع سابق ص 6-8-10.
[14] حارب مرجع سابق ص 477 وما بعدها.
تعليقات
إرسال تعليق