تعريف الاستشراق ونشأته ومراحله

 



      كثيراً ما يتردد على ألسنة الخطباء وفي الصحف والمجلات وفي الكتب كلمة استشراق وبخاصة عندما يكون الحديث عن الغزو الفكري أو الثقافي وآثاره السيئة. وقد بالغ البعض في ذم الاستشراق وكل ما يمت إليه بصلة، بينما يرى البعض أن الاستشراق إنما هو جهد علمي لدراسة الشرق، وبخاصة بعض الذين تتلمذوا على أيدي بعض المستشرقين حيث يرون فيهم المثال في المنهجيـة والإخلاص والدقة وغير ذلك من النعوت المادحة. فما معنى هذه الكلمة؟ لو أرجعنا هـذه الكلمة إلى أصلها لوجدناها مأخوذة من كلمة شرق ثم أضيف إليها ثلاثة حروف هي الألف والسين والتاء، ومعناها طلب الشرق، وليس طلب الشرق سوى طلب علوم الشرق وآدابه ولغاته وأديانه.

ومع أن مصطلح الاستشراق ظهر في الغرب منذ قرنين من الزمان على تفاوت بسيط بالنسبة للمعاجم الأوروبية المختلفة، لكن الأمر المتيقن أن البحث في لغات الشرق وأديانه وبخاصة الإسلام قد ظهر قبل ذلك بكثير. ولعل كلمة مستشرق قد ظهرت قبل مصطلح استشراق، فهذا آربري Arberry في بحث له في هذا الموضوع يقول: "والمدلول الأصلي لاصطلاح (مستشرق) كان في سنة 1638(أحد أعضاء الكنيسة الشرقية أو اليونانية)، وفي سنة 1691م وصف أنتوني وود Anthony Wood صمويل كلارك Samuel Clarke بأنه (استشراقي نابه) يعنى ذلك أنه عرف بعض اللغات الشرقية. وبيرون في تعليقاته على Childe Harold's Pilgrimage يتحدث عن المستر ثورنتون وإلماعاته الكثيرة الدالة على استشراق عميق."([1])

المبحث الأول: تعريف الاستشراق

ما تعريف مصطلح الاستشراق؟ من المنطقي أن نبدأ بتعريفات المستشرقين أنفسهم لهذا المصطلح فهم أصحابه. ومن هؤلاء المستشرق رودي بارت حيث يقول: "الاستشراق علم يختص بفقه اللغة خاصة. وأقرب شيء إليه إذن أن نفكر في الاسم الذي أطلق عليه، كلمة استشراق مشتقة من كـلمة "شرق" وكلمة شرق تعني مشرق الشمس، وعلى هذا يكون الاستشراق هو علم الشرق أو عـلم العالم الشرقي." ([2]) ويعتمد المستشرق الإنجليزي آربري تعريف قاموس أكسفورد الذي يعرف المستشرق بأنه " من تبحّر في لغات الشرق وآدابه."([3])

ومن الغربيين الذين تناولوا ظهور الاستشراق وتعريفه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنـسون Maxime Rodinson الذي أشار إلى أن مصطلح الاستشراق ظهر في اللغة الفرنسية عام 1799بينما ظهر في اللغة الإنجليزية عام 1838، وأن الاستشراق إنما ظهر للحاجة إلى " إيجاد فرع متخصص من فروع المعرفة لدراسة الشرق "ويضيف بأن الحاجة كانت ماسة لوجود متخصصين للقيام على إنشاء المجلات والجمعيات والأقسام العلمية. ([4])

ولو انتقلنا إلى العرب والمسلمين الذين تناولوا هذا المصطلح نجد أن إدوارد سعيد عدة تعريفات للاستشراق منها أنه: " أسلوب في التفكير مبني على تميّز متعلق بوجود المعرفة بين "الشرق"(معظم الوقت) وبين الغرب" بأن الاستشراق ليس مجرد موضوع سياسي أو حقل بحثي ينعكس سلباً باختلاف الثقافات والدراسـات أو المؤسسات وليس تكديساً لمجموعة كبيرة من النصوص حول المشرق … إنه بالتالي توزيع للوعي الجغرافي إلى نصوص جمالية وعلمية واقتصادية واجتماعية وفي فقه اللغة ([5]). وفي موضع آخر يعرف سعيد الاستشراق بأنه المجال المعرفي أو العلم الذي يُتوصل به إلى الشرق بصورة منظمّة كموضوع للتعلم والاكتشاف والتطبيق. ([6]). ويقول في موضع آخر إنّ الاستشراق: نوع من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة حكم الغرب للشرق"([7]).

لقد قدّم أحمد عبد الحميد غراب مجموعة من التعريفات للاستشراق استناداً إلى العديد من المراجع في هذا المجال ثم اختار أن يجمع بينها في تعريف واحد وهـذا التعريف هو: "هو دراسات "أكاديمية " يقوم بها غربيون كافرون من أهل الكتاب بوجه خاص-للإسلام والمسلمين، من شـتى الجوانب: عقيدة وشريعة، وثقافة، وحضارة، وتاريخاً، ونظمـاً، وثروات وإمكانات...بهدف تشويه الإسلام ومحاولة تشكيك المسلمين فيه، وتضليلهم عنه ، وفرض التبعية للغرب عليهم ، ومحاولـة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدعي العلمية والموضوعية ، وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي."([8])

وبالرغم من اجتهاد الباحث في هذا التعريف لكنه كان يجب أن يتجرد عن أي أفكار سابقة أو تعميمات. ومن خلال متابعة للاستشراق فإننا يمكن أن نقول إنّ الاستشراق هو كل ما يصدر عن الغربيين من أوروبيين (شرقيين وغربيين بما في ذلك السوفييت) وأمريكيين من دراسات أكاديمية (جامعية) تتناول قضايا الإسلام والمسلمين في العقيدة، وفي الشريعة، وفي الاجتماع، وفي السياسة أو الفكر أو الفن، كما يلحق بالاستشراق كل ما تبثه وسائل الإعلام الغربية سواء بلغاتهم أو باللغة العربية من إذاعات أو تلفاز أو أفلام سينمائية أو رسوم متحركة أو قنوات فضائية، أو ما تنشره صحفهم من كتابات تتناول المسلمين وقضاياهم. كما أن من الاستشراق ما يخفى علينا مما يقرره الباحثون والسياسيون الغربيـون في ندواتهم ومؤتمراتهم العلنية أو السرية. ويمكننا أن نلحق بالاستشراق ما يكتبه النصارى العرب من أقباط ومارونيين وغيرهم ممن ينظر إلى الإسلام من خلال المنظار الغربي. ولا بـد أن نلحق بالاستشراق ما ينشره الباحثون المسلمون الذين تتلمذوا على أيدي المستشرقين وتبنوا كثيراً من أفكار المستشرقين حتى إن بعض هؤلاء التلاميذ تفوق على أساتذته في الأساليب والمناهج الاستشراقية. ويدل على ذلك احتفال دور النشر الاستشراقية بإنتاج هؤلاء ونشره باللغات الأوروبيـة على أنها بحوث علمية رصينة أو ما يترجمونه من كتابات بعض العرب والمسلمين إلى اللغات الأوروبية. ([9])

ولا بد من الوقوف عند تعريف آخر للاستشراق لا يرى أن كلمة استشراق ترتبط فقط بالمشرق الجغرافي وإنما تعني أن الشرق هو مشرق الشمس ولهذا دلالة معنوية بمعنى الشروق والضياء والنور والهداية بعكس الغروب بمعنى الأفول والانتهاء .وقد رجع أحد الباحثين المسلمين وهو السيد محمد الشاهد إلى المعاجم اللغوية الأوروبية (الألمانية والفرنسية والإنجليزية) ليبحث في كلمة شرقORIENT فوجد أنه يشار إلى منطقة الشرق المقصودة بالدراسات الشرقية بكلمة " تتميز بطابع معنوي وهو Morgenland وتعني بلاد الصباح ، ومعروف أن الصباح تشرق فيه الشمس، وتدل هذه الكلمة على تحول من المدلول الجغرافي الفلكي إلى التركيز على معنى الصباح الذي يتضمن معنى النور واليقظة، وفي مقابل ذلك نستخدم في اللغة كلمة   Abendlandوتعني بلاد المساء لتدل على الظلام والراحة." ([10])

وفي اللاتينية تعني كلمة Orient: يتعلم أو يبحث عن شيء ما، وبالفرنسية تعنى كلمة Orienter وجّه أو هدى أو أرشد، وبالإنجليزية Orientation، وorientate تعني" توجيه الحواس نحو اتجاه أو علاقة ما في مجال الأخلاق أو الاجتماع أو الفكر أو الأدب نحو اهتمامات شخصية في المجال الفكري أو الروحي. " ومن ذلك أن السنة الأولى في بعض الجامعات تسمّى السنة الإعدادية Orientation. وفي الألمانية تعني كلمة Sich Orientiern " يجمع معلومات (معرفة) عن شيء ما. ([11])

ويجب أن نتوقف عند القرار الغربي بالتوقف عن استخدام مصطلح استشراق أو كما قال لويس إن هذا المصطلح قد ألقي به في مزابل التاريخ. فقد رأى الغرب أن هذا المصطلح ينطوي على حمولات تاريخية ودلالات سلبية وأن هذا المصطلح لم يعد يفي بوصف الباحثين المتخصصين في العالم الإسلامي. فكان من قرارات منظمة المؤتمرات العالمية في مؤتمرها الذي عقد في باريس عام 1973 بأن يتم الاستغناء عن هذا المصطلح، وأن يطلق على هذه المنظمة (المؤتمرات العالمية للدراسات الإنسانية حـول آسيا وشمال أفريقياICHSANA) ([12]) وعقدت المنظمة مؤتمرين تحت هذا العنوان إلى أن تم تغييره مرة ثانية إلى (المؤتمرات العالمية للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية ICANAS). وقد عارض هذا القرار دول الكتلة الشرقية (روسيا والدول التي كانت تدور في فلكها)([13]) ومع ذلك ففي المؤتمر الدولي الخامس والثلاثين للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية الذي عقد في بودابست بالمجر كان مصطلح استشراق ومستشرقين  يستخدم دون أي تحفظات، مما يعني أن الأوروبيين الغربيين والأمريكيين هم الأكثر اعتراضـاً على هذا المصطلح ولعل هذا ليفيد المغايرة بحيث يتحدثون عن المستشرقين ليثبتوا أنهم غير ذلك بل هم مستعربونArabists  أو إسلاميون Islamists أو باحثون في العلوم الإنسانية Humanistsأو متخصصون في الدراسات الإقليمية أو الاجتماعية أو الاقتصادية التي تختص ببلد معين أو منطقة جغرافية معينة . أما موقفنا نحن من هذا التخصص أو التخصصات فإنه يسعنا ما وسع الغربيين فإن هم اختاروا أن يتركوا التسمية فلا بأس من ذلك شريطة ألا نغفل عن استمرار اهتمامهم بدراستنا والكتابة حول قضايانا وعقد المؤتمرات والندوات ونشر الكتب والدوريات حول العالم الإسلامي واستمرار أهداف الاستشراق. وألّا يصرفنا تغيير الاسم عن الوعي والانتباه لما يكتبونه وينشرونه.



[1]- ا. ج آربري. المستشرقون البريطانيون. تعريب محمد الدسوقي النويهي. (لندن: وليم كولينز، 1946) ص8.

[2]- رودي بارت. الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية (المستشرقون الألمان منذ تيودور نولدكه). ترجمة مصطفى ماهر (القاهرة: دار الكتاب العربي) (بدون تاريخ) ص 11.

[3] -ا. ج. آربري. المستشرقون البريطانيون. تعريب محمد الدسوقي النويهي. (لندن: وليم كولينز، 1946) ص8.

[4] -مكسيم رودنسون." الصورة الغربية والدراسات الغربية الإسلامية." في تراث الإسلام (القسم الأول) تصنيف شاخت وبوزوورث. ترجمة محمد زهير السمهوري، (الكويت: سلسلة عالم المعرفة، شعبان /رمضان1398هـ- أغسطس 1978م.) ص27-101.

[5] -Ibid. p 12.

[6] -Ibid. p73.

[7] -المرجع نفسه ص 92.

[8] -أحمد عبد الحميد غراب. رؤية إسلامية للاستشراق. ط2 (بيرمنجهام: المنتدى الإسلامي، 1411) ص 7.

[9] - من أمثال ذلك ما نشر لمحمد عبد الحي شعبان وعزيز العظمة، ونوال السعداوي، وفاطمة مرنيسي وفضل الرحمن، وغيرهم كثير حيث قامت دور النشر الجامعية لكبريات الجامعات الغربية وبخاصة الأمريكية بنشر إنتاج هؤلاء وترويجه.

[10] -السيد محمد الشاهد. "الاستشراق ومنهجية النقد عند المسلمين المعاصرين" في الاجتهاد. عدد 22، السنة السادسة، شتاء عام 1414هـ/1994م. ص191-211.

[11] - المرجع نفسه، ص197.

[12] -Bernard Lewis. The Question of Orientalism. In New York Times Review of Books. June 24, 1982. Pp. 49-56.

[13] -Bernard Lewis. “The Question of Orientalism.” Op., Cit.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية