من عاداتي في السفر أن أذهب إلى المقاهي
الشعبية صباحاً لتناول فنجان من القهوة، أواجه إدماناً قديماً على القهوة منذ
البعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية حين كنت في الثامنة عشرة وتعلمت هناك شرب
القهوة الأمريكية مرة بلا سكر، وأقول للطرافة أشربها مرة لتعادل طمع الحياة الحلو،
والمسألة قابلة للنقاش هل هي فقط للطعم فقط أو إن الحياة حلوة فعلاً. ومسألة جمال
الحياة والتفاؤل فيها فسيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل
ويكره الطيرة. ولِمً لا أكون متفائلاً
فنعم الله بالفعل كثيرة ويقول الحق سبحانه وتعالى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها،
إن الإنسان لظلوم كفّار) وقد قال إيليا أبو ماضي ينعي على المتشائمين بقوله:
والذي نفسه بغير
جمال لا يرى في الوجود شيئاً
جميلاً
ودلفت إلى المقهى ولكن على الرصيف حيث إن
الجلوس داخل المقهى مزعج فربما كان التلفاز يعمل وفيه الأغاني أو غير ذلك من
البرامج، وما أن جلست حتى جاء النادل فسألني ما أريد فقلت قهوة كحلا، ويمكن أن
أطلبها بالقول قهيوة كحلا، ويسأل كيفاش تريدها قاسحة أو خفيفة أو متوسطة، وقاسحة
يعني مركزة، وقسح فعل يستخدمه المغاربة ليدل على الألم والإيذاء فكأن زيادة الشيء
عن حده فيها إيذاء وألم. وربما كان هناك اختلاف بين حرف السين والصاد فالتركيز
يلفظ بالسين والألم والإيذاء بالصاد كأن تقول للشخص قصحتيني (يؤنثون الفعل للمذكر
على وزن هات بكسر التاء وهنا يأتي الكسر عوضاً عن الياء المحذوفة لأنه فعل أمر،
ولكن المغاربة جعلوا كل أفعال الأمر للمخاطب المذكر بالمؤنث كما يقول عبد الوهاب
الدوكالي في أغنيته المشهورة (مرسول الحب فين كنتِ وفين غبتِ علينا ...)
والمقاهي تحتل أماكن إستراتيجية من خريطة
المدن المغربية، فهذا المقهى المسمى مثلجات سفيان، وبالفرنسية Glacier
Sofiane (مثلجات سفيان) يقع على تقاطع شارعين من هذا
الحي المرتب، فشوارعه فسيحة ومشجرة وفي الزاوية المقابلة من المقهى بريد المغرب
(للبريد مكانة خاصة في مدن المغرب كلها الجزائر وتونس والمغرب حيث إن وسط المدينة
يعرف بالجراند بوست (البريد الكبير أو المركزي). والتقاطع أمام المقهى ينطلق في
أربعة اتجاهات ثلاث من هذه الاتجاهات ذات شوارع ضيقة بينما أحدها واسعاً وفيه
جزيرة في النصف. ومن الأشجار المزروعة هنا نخيل جوز الهند، فثمة شبه بين شكل
الشجرتين واختلاف كبير في الطعم وشكل الثمرة بلا شك، فما الذي أتى بهذه الشجرة من
الهند، ولكن من الذي أوصل النخلة إلى أمريكا وقبلها إلى اسبانيا أو أندلسنا
المفقود؟
أحضر النادل القهوة فتذوقتها وكانت لذيذة
جداً تنافس قهوة الشركات العالمية المشهورة التي انتشرت في بلادنا انتشار النار في
الهشيم فلا نستطيع أن نشرب القهوة إلاّ إذا كان تحمل اسم المحل الفلاني أو
العلاني، وهذه بالتأكيد تستنفد كثيراً من اقتصاد البلاد حيث تجني الشركات الأجنبية
ووكلاؤها المحليون الملايين ويبقى لأهل البلاد الملاليم ومساكين أولئك الموظفون
الذين يعملون في هذه الشركات يرون الأموال الطائلة تدخل الصناديق يومياً وليس لهم
إلاّ رواتب محدودة، وقد يكون وضعهم أفضل من وضع قرنائهم في شركات محلية (وتلك هي
المصيبة) ولكنهم لا يحصلون مما يعملون إلاّ القليل. وأقول هنا الشر بالشر لا
يقارن، فمتى تتكون لدينا جمعيات للعمال أو نقابات كما هو المطلوب في شروط الالتحاق
بمنظمة التجارة العالمية، وقبل أن نخضع لشروط المنظمات العالمية لو حكّمنا الإسلام
وكنّا عادلين لما احتجنا إلى نقابات أو غيرها وإن كان للنقابات فوائد أخرى ليس هنا
مجال الحديث عنها.
وفيما أنا أحتسي القهوة نظرت أمامي فإذ
بإعلان ضخم باللغة الفرنسية عن برامج دراسات للحصول على الماجستير في مجال
الإدارة. ويقرأ الإعلان هكذا: تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس يقدم
المنتدى الدولي برنامج دراسات للحصول على في الإدارة. ومسألة الدراسات والشهادات
فإن بلادنا قد أصبحت سوقاً مفتوحة للجامعات العالمية لتقدم لنا الشهادات في دكاكين
صغيرة تطلق عليها فروعاً للجامعات العالمية، وقد قدم جونتر ماير Gunter Meyerأستاذ
الجغرافيا في جامعة جوتنبرج في مدينة مينز بألمانيا، وعلاء حمارنة –الأردني من مادبا
وتلميذ ماير ويعمل في الجامعة نفسها- بحثاً عن هذه السوق الجديدة، وذكرا أنها
أصبحت تجارة رابحة فالسوربون (أشهر الجامعات الفرنسية) مثلاً يقدمون برامج تشبه ما
يقدم في سوربون باريس ولكن في حجرات محدودة في دبي فيأتي الأفارقة والمغرمون
بالثقافة الفرنسية إلى دبي تفادياً لصعوبة الحصول على التأشيرة الفرنسية وهرباً
أيضاً من تكاليف الحياة في فرنسا، وبعض الراغبين في الحصول على الثقافة الفرنسية
والعلم الفرنسي دون الحياة في فرنسا ومشكلاتها الاجتماعية وبعداً عن المخاوف
الأمنية. ولم يقتصر الأمر على السوربون فهناك العشرات من الجامعات التي لم يسمع
بها أحد ولكنها تحمل اسماً خواجاتياً مغرياً مثل نورث وست أو ساوث وست أو نورث ايست
وأضف ما شئت من الإضافات أو جامعة جورج الخامس أو العاشر أو العشرين. وخذوا أيها
العرب من الشهادات ما شئتم؟ نحن نبيع وأنتم المشترون، ولا أدري ما تفعل وزارات
التعليم العالي في بلادنا التي تصر على أن يكون الوزير هو رئيس المنظمة التي تقوِّم
الجامعات. فكيف بربك يقوّم الإنسان نفسه؟ إن الخطأ ارتكب منذ اليوم الأول، فإن شئت
أن تقوم فلا بد من الاستقلالية. فمتى يسمح لدينا بمنظمات أو هيئات خاصة هي التي
تقوم على تقويم الجامعات واعتمادها؟
وأعود قبل أن أختم هذه الحكاية عن القهيوة
أن أقول إن المغاربة لديهم ميلاً للتصغير وكأنهم يشبهون النجديين في هذه المسالة
فبالإضافة إلى القهوة يصغرون الكأس على كويس، والماء مويها، وغير ذلك من التصغيرات
للتحبب، ولا أعرف هل لديهم تصغير للتحقير كما هو الشأن عندنا. ففي منطقة نجد وبعض
البادية في الحجاز الأسماء شديّد بدلاً من شديد (ولي حكاية مع أحدهم يحمل مثل هذا
الاسم) وصوينع، وتويجر وغير ذلك. فهل يمكن أن تكون دراسة نفسية لهذا الحال،
فالتصغير في اللغة العربية كما قلت إما للتحبب أو للاحتقار، فلماذا يكثر في بيئة
دون أخرى؟ وهل هو نوع من أنواع التنابز بالألقاب.
أما حكاية القهوة فهو بعد أن عدت من
الولايات المتحدة ضمن وفد برنامج الزائر الدولي الذي ترعاه وزارة الخارجية
الأمريكية للتعرف على التعليم الديني والتعليم العام في أمريكا، كان علي أن أعد
العدة للسفر مجدداً إلى بريطانيا للإفادة من منحة المجلس الثقافي البريطاني التي
تعطى لما بعد الدكتوراه للقيام ببحث تم الاتفاق عليه بيني وبين أحد أساتذة مركز
الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد وهو مركز مستقل لكنه مرتبط بالجامعة. وقبل
بريطانيا كان هناك التزام اجتماعي وهو حضور حفل زفاف أخت زوجتي فلا بد من المغرب.
وهكذا خصصت أسبوعاً لزيارة المغرب ومنها الانطلاق إلى بريطانيا، وكان أسبوع المغرب
خصباً من الناحية الكتابية كما هو خصب من الناحية الفكرية.
تعليقات
إرسال تعليق