التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الاستشراق ومكانته بين المذاهب الفكرية المعاصرة

 المقدمة

عرف المسلمون في القديم الكتابة في الأديان والفرق والمذاهب اهتماماً منهم بمعرفة هذه الفرق وبيان موقف الإسلام منها، وحرصاً منهم على الدفاع عن الإسلام كما يعتنقه أهل السنّة والجماعة أو الغالبية العظمى من الأمة. ومن هذه الكتب الفصل في الملل والنحل وكتاب الفرق للبغدادي ومقالات الإسلاميين للأشعري وغيرها كثير.

وظهرت في تاريخ الأمة اتجاهات فكرية كثيرة جداً ومذاهب وطوائف كالشيعة والباطنية والأشاعرة والمعتزلة والمناطقة وغيره ولقد تصدى لها العلماء المسلمون بحثاً في معتقداتها وأفكارها وأعلامها والرد على الانحرافات في تلك المعتقدات دفاعاً عن الكتاب والسنّة.

 وظهرت في العصر الحاضر كتابات تحت عنوان الغزو الفكري أو الاتجاهات الفكرية المعاصرة وأصبحت هذه الاتجاهات إحدى المواد الدراسية في المرحلة الجامعية. وقد نال الاستشراق مكانة بارزة ضمن الحديث عن الغزو الفكري وكذلك ضمن الاتجاهات الفكرية المعاصرة أو التيارات الفكرية المعاصرة.

وتعود بداية الاهتمام بالاستشراق إلى المرحلة التي وقعت فيها معظم البلاد العربية الإسلامية تحت وطأة الاحتلال الغربي وكان للمستشرقين والاستعماريين اهتمام كبير بثقافة الأمة الإسلامية وعقيدتها وتاريخها ومختلف المجالات المعرفية الخاصة بها. كما تولى المستشرقون مسؤوليات وزارات التربية والتعليم فكان لهم اليد الطولى في وضع المناهج الدراسية حتى أصبح التعليم في العالم العربي والإسلامي ينقسم إلى نوعين من التعليم: التعليم الشرعي والتعليم المدني. وظهرت في العالم الإسلامي الحركات التحررية الحقيقية على أيدي العلماء العاملين فكان في الجزائر على سبيل المثال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعلى رأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس فكتب يرد على كثير من افتراءات المستشرقين والمسؤولين الفرنسيين في تهجمهم على الإسلام كما كان يتابع الصحافة الفرنسية حتى إنه كتب ذات مرة (جريدة الطان وسياسة وخز الدبابيس)

ولكن لم يظهر تخصص أو كتابات متخصصة في الرد على المستشرقين حتى مع وجود بعض الكتابات المحدودة كرد الشيخ محمد عبده على الفيلسوف الفرنسي رينان وهناتو وما كتبه الأستاذ محمد كرد علي وغيرهم عن الاستشراق.

ولعل أول من تنبه إلى أهمية دراسة الاستشراق دراسة منتظمة هو الشيخ الدكتور مصطفى السباعي الذي يمكن أن نعدّه بحق رائد دراسة الاستشراق في العصر الحاضر حيث زار المستشرقين في معاقلهم وكلياتهم وجامعاتهم ودخل معهم في محاورات ومناظرات. وكم كتب رحمه الله في مجلته (حضارة الإسلام) كما نشر كتاباً مهماً في هذا المجال يرد على جولدزيهر وهو كتابه (السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي). الذي صدرت طبعته الأولى عام 1368هـ(1949م) هذا بالإضافة إلى كتابه القيم الصغير حجماً الكبير في أهميته وقيمته العلمية (الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم). وبإمكاننا أن نضيف كذلك كتابه القيم عن المرأة بعنوان المرأة بين الفقه والقانون) ولعل ممن شارك في الريادة كذلك الدكتور محمد البهي رحمه الله في كتابه: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي الذي صـدرت طبعته الأولى عام 1376هـ (1957م)

ولكن ما أهمية دراسة الاستشراق وما موقعه بين المذاهب الفكرية المعاصرة؟ صحيح أن الغرب ألغى مصطلح استشراق في المؤتمر الدولي للجمعية الدولية للمستشرقين (عـام 1973م) التي أصبحت تسمى " الجمعية الدولية للدراسات الإنسانية حول آسيا وأفريقيا" ثم أصبحت "الجمعية الدولية للدراسات الأسيوية والشمال أفريقية"، ولكننا في العالم الإسلامي ما نزال نصر على هذا المصطلح. وقد يكون للغرب مبرره في رفض التسمية وللمسلمين مبرّراتهم في الاحتفاظ بهذا الاسم. ومهما يكن الأمر فإننا في العالم الإسـلامي نَعُدُّ الاستشراق (الدراسات العربية والإسلامية في الغرب) من المواد التي تدرس ضمن مقررات الدراسات الإسلامية بصفته أحد المذاهب الفكرية الهدّامة، ولذلك فإن العديد من الكتـب المتخصصة في الاتجاهات الفكرية أو المذاهب الفكرية المعاصرة تجعل الاستشراق أحد هـذه المذاهب أو الاتجاهات. وتتناول الاستشراق بصورة نمطية مكررة نشأة الاستشراق، دوافـع الاستشراق، وأهدافه، ومدارسه الجغرافية أو الفكرية.

ولكن الحقيقة أن مصطلح استشراق ما زال قائماً في الغرب حتى وإن تخلوا عنه رسمياً فهذه شبكة المعلومات العالمية أو الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) تقدم آلاف المواقع المتخصصة في الاستشراق قديماً وحديثاً. فهم وإن تخلوا عنه في العلن فإنه ما زال قائماً في أدبياتهم وفي نشاطاتهم الفكرية المعاصرة.

      فهل الاستشراق حقاً أحد المذاهب الفكرية أو الاتجاهات الفكرية؟ وهل ينطبق على الاستشراق ما ينطبق على الوجودية أو الماركسية أو العولمة أو الماسونية؟ هل يمكن البحث في الاستشراق بعيداً عن مثل هذا التصنيف؟ وهل يمكن البحث فيه دون الأفكار المسبقة بأن الاستشراق شر كله؟

       ينوي الباحث في هذا البحث محاولة التوصل إلى أسباب تصنيف الاستشراق ضمن الأفكار الهدّامة بهدف الخروج من الأفكار المسبقة محاولاً التوصل إلى جعل الاستشراق ضمن دراسة الغرب دراسة شاملة بحيث لا تأخذ دراستنا لهم في مجال الدراسات العربية الإسلامية أكثر مما يجب. ويمكن أن نتساءل هل يشغل الغرب نفسه بما نقوله عنه، وهل جعل لهذا الأمر أقساماً علمية؟

       وينبغي أن ندرك أنّ الدراسات العربية الإسلامية في الغرب تستمد قوتها وانتشارها من خلال الإمكانات الضخمة المتوفرة لها التي تكفل لها الانتشار في أنحاء العالم، فرابطة دراسات الشرق الأوسط الأمريكية تضم آلاف الباحثين من شتى أقطار الأرض، فهل نسعى نحن في العالم الإسلامي إلى دراسة أنفسنا وتكوين الرابطات المتخصصة في ذلك ويكون لنا يد في توجيهها الوجهة التي توضح الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين مع اعتبار أن دراسة الإسلام والمسلمين حق من حقوق أي شعب يريد أن يقوم بهذه الدراسة.

       هذا وسوف ينقسم هذا البحث إلى مبحثين أحدهما موقف العلماء المسلمين في كتاباتهم حول الغزو الفكري والاتجاهات الفكرية المعاصرة من الاستشراق. أما المبحث الثاني فهو أين يجب أن تقع دراسة الاستشراق في العصر الحاضر.


المبحث الأول

الاستشراق والغزو الفكري والاتجاهات الفكرية المعاصرة

      

يمكننا أن نبدأ بتعريف التيارات الفكرية المعاصرة بأنها المذاهب التي يتخذها مجموعة من الناس ويعتنقوها ويسعون إلى نشرها وترويجها بكل الوسائل المتاحة لهم. ولهذه المذاهب أدبياتها وأعلامها ومصادرها ومناهجها. وقد تكون هذه التيارات فلسفية أو اجتماعية أو دينية. ولعل من المذاهب الفكرية المعاصرة التي اتفقت معظم الكتب في دراستها الوجودية والبهائية والقاديانية والشيوعية والاشتراكية والرأسمالية. ولهذه المذاهب أعلامها الذين لا يمكن فهمها إلاّ من خلال سيرهم (كما فعل العقاد بالشيوعية) وكتاباتهم ونشاطاتهم.

وقبل أن نحدد فيما إذا كان الاستشراق أحد المذاهب الفكرية المعاصرة نتناول أولاً بعض ما كتبه عدد من الباحثين المسلمين حول الاستشراق. وقد وجدت أن جامعة الإمام محمد ابن سعود الإسلامية حينما عقدت مؤتمراً حول الفقه الإسلامي عام 1396هـ جعلت محوراً من محاوره الغزو الفكري ونشرت هذه البحوث في كتاب تحت عنوان الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام وقد جاء الحديث عن الاستشراق في أكثر من بحث حيث جاء في أحدها قول الباحث عن الدراسات الاستشراقية بأنها " دراسات في كثير من نواحيها تتميز بالصبر والجلد ومحاولة الاستيعاب والتحليل، ولكنها في نفس الوقت تحتوي على أخطاء جسيمة : عمداً أو جهلاً ثم هي في غالبها لم يقصد بها خدمة العلم والفكر، ولإشباع رغبة خاصة أو عامة في البحث والاطلاع، وإنما كانت في جملتها خدمة مباشرة للدول الاستعمارية أو للكنائس الأوروبية، بغرض تطويق الإسلام وضربه على وعي به وبصر به واقتلاع جوهره الحي النابض الذي يشكل أكبر الأخطار بالنسبة لهم."([i])

        ويضيف الباحث قائلاً: "ومن ثم حفلت هذه الدراسات بضروب التشكيك، والنقد الجائر ، وانطلقت منها الشبهات المدروسة واحدة تلو الأخرى، طعناً في كل نواحي الإسلام بدءاً بالقرآن العظيم ذاته، وانتهاءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ورواتها وما بين ذلك من اتهام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكمس لكل معالم المجد والخير في التاريخ الإسلامي المشرق، حتى لنستطيع القول أنه لم تسلم ناحية واحدة من نواحي الإسلام: عقيدة ومنهجاً ونظاماً وتطبيقاً وتاريخاً وأمة بل أرسلت عليها سهام حاقدة من هذه الدراسات المنظمة..." ([ii])

       وكتب عبد الكريم الخطيب في بحثه المقدم للمؤتمر السالف الذكر يذكر أن الاستشراق "حركة ولدت في هذا العصر الحديث ، وهي – في ظاهرها- حركة علمية يراد بها دراسة التراث الشرقي في معتقداته وآدابه، ولكنها تبغي من وراء هذا التعرف على منابع هذا التراث، محاولة صرف أهله عنه ليولوا وجوههم شطر الغرب ويتعلقوا بركاب حضارته."([iii]) ويشير فيما بعد إلى أن معظم المستشرقين " قد غلبتهم العصبية على أن يقولوا كلمة الحق وأن ينطقوا بما في أيديهم من شواهد، فقد كابروا ، ولجّوا في الضلال، ورموا الإسلام بكل ما تحمل صدورهم من غل، وما تنفث أقلامهم من سم، حتى فضح ذلك عند من لا يعرفون الإسلام من قومهم حين رأوا سباباً وشتائم لا تتفق مع منهج العلم، الذي من شأنه أن يعرض الحقائق، ويترك للناس الحكم عليها، دون أن يمزجها بمرارة الحقد ، ونفثات عداوته.."([iv])

       وكتب أحمد بشير حول " الغزو الفكري الاستشراقي" حيث ذكر أن أهداف الاستشراق تتلخص فيما يأتي:

  1 -    تفتيت وحدة المسلمين وإضعافها.

2-                           التمهيد لاستعمار العالم الإسلامي

3-                           استغلال الثروات والانتقام من المسلمين الذين قاموا في القرون الوسطى في وجه المسيحية". ويضيف قائلاً:" وإننا لنجد في دراسات المستشرقين الأدبية والإسلامية تركيزاً حول أهدافهم لإيجاد التخاذل الروحي والشعور بالنقص في نفوس المسلمين وحمهلم على الخضوع للتوجيهات الغربية."([v])

وتناولت الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) هذا الموضوع بأسلوب مختلف حيث جاء في كتابها القيم تراثنا بين ماض وحاضر عن المستشرقين قولها (وعلماء الاستشراق بشر مثلنا، يتعصبون لدينهم وقومياتهم مثلما نتعصب لديننا وقوميتنا . وما ينبغي أن نلومهم على هذا التعصب أو نغضب لعجزهم عن التجرد من أهوائهم، وإنما نحن هنا بصدد قضية علمية وتاريخية، تلزمنا بأن نكون على وعي بما لابس عمل أكثر المستشرقين من انحراف لم يكن منه بد، بحكم ما استهدف الاستشراق في نشأته الأولى من خدمة الكنيسة."([vi])

وتضيف المؤلفة قولها:" وليس عليهم بأس في أن يقولوا فينا ما يقولون، متى كانت أقوالهم معبرة عن رأي لهم أو صدى لاستهوائهم بما راج في بيئاتهم من أقاويل عنّا، لكن البأس كل البأس أن يحمل " البحث العلمي" وزر هذه الأهواء فتخرج بحوث لهم مشحونة بأباطيل يزعمون أنها مما هدى إليه استقراؤهم لتراثنا، ويفرضون له حرمة علمية حين يسوقون وشواهد من نصوص في التراث انحرف بها الهوى والتعصب، فضلوا ضلالاً بعيداً". ([vii])

ولعل نموذج الدكتورة عائشة عبد الرحمن لا يتكرر في محاولة الفهم العميق للاستشراق والاعتذار عنهم بأنهم يخدمون أهدافهم القومية والدينية فنعود إلى كتّاب آخرين فنحد باحثاً آخر يرجع نشأة الاستشراق إلى الحروب الصليبية فيذكر أن من أخطر نتائجها " الحرب العلمية والفكرية التي شنّها المستشرقون على المسلمين وظهور عدد من تلامذتهم والمعجبين بأفكارهم من المسلمين ممن أخذوا يرددون آراءهم ويروجون لمفترياتهم."([viii])

وتظهر الحماسة في كتابة الشيخ محمد الغزالي وكيف لا وهو في معرض الدفاع عن الشريعة ضد مطاعن المستشرقين( وهذا عنوان كتابه) فيكتب قائلاً :"إن الاستشراق كهانة جديدة تلبس مسوح العلم والرهبانية في البحث ، وهي أبعد ما تكون عن بيئة العلم والتجرد، وجمهرة المستشرقين مستأجرين لإهانة الإسلام وتشويه محاسنه والافتراء عليه."([ix]) ويزيد الأمر توضيحاً عند حديثه عن المستشرقين الأمريكيين بقوله:"والأمريكيون منذ دخلوا ميدان التبشير والاستشراق زادوا القوى المناوئة للإسلام شراسة وإصراراً وأمدوها بسيل موصول من المال والرجال فهي لا تني تواصل هجومها العلمي والعملي ودعايتها الماهرة ، ونحن نعرف أن من حق غيرنا التمسك بدينه والدعوة إليه واستقبال الداخلين فيه ، إلاّ أننا نقيّد هذا الحق بشرط واحد أن يكون بوسائل شرعية وصريحة. أما اختلاس عقائد الآخرين بالرغبة، أو الرهبة، واستباحة الغش والكذب والمكر والرشوة فذلك ما نقف له بالمرصاد."([x])

ويعد باحث مسلم يعيش في بريطانيا الاستشراق ضمن القوى التي حاولت تدمير حضارات الأمم الشرقية بقوله:" ويجب أن نتذكر بأن الاستشراق لم يكن هو الاتجاه الوحيد الذي حاول أن يدمر حضارات الأمم الشرقية فهناك مجال آخر تعاون تعاوناً شديداً مع الاستشراق لخدمة الأهداف الاستعمارية ألا وهو علم الإنسان الذي غدا ابناً آخر للإمبريالية."([xi])

ولم يغفل الباحثون المسلمون نظرة الغربيين لهذا المجال المعرفي فذكر محمد أحمد دياب أن الاستشراق "علم له أصوله ومقوماته وخططه وأهدافه ، ولا ننكر ما قام به المشتغلون به من بحوث ودراسات في الميادين العلمية المختلفة وفي العلوم الإسلامية بخاصة كانت بحق لها دورها الإيجابي وقيمتها العلمية كما كان لها أيضاً دورها السلبي."([xii]) ولكنه مع ذلك يرى أن " علم الاستشراق إنما هو حرب الكلمة التي شنها الغرب المسيحي على الشرق الإسلامي منذ القرن الثامن عشر وما زال يستخدمها ضدنا حتى الآن ، وإن لبست أثواباً مختلفة على مر العصور تحت شعار الموضوعية والمنهجية كي يحقق أهدافه."([xiii])

ويتنبه دياب إلى نظرة الغربيين أنفسهم إلى هذا المجال فيذكر أنه عندهم "مادة علمية معترف بها عالمياً ويكاد يكون ممثلاً في كل جامعة من الجامعات الغربية مع وجود أعداد كبيرة من الكوادر التخصصية في الميادين الاستشراقية."([xiv])

وكما ذكرنا أن الاستشراق عند كثير من الباحثين المسلمين إنما هو أسلوب من أساليب الغزو الفكري فقد كتب محمد عبد الفتاح عليان حول ذلك قائلاً:" ومن بين أساليب الغزو الفكري كان الاستشراق مغلفاً خطورته بشكل علمي واضعاً سمّه في عسل المنهج، والجديد فيه، غير أن خلق المسلم يقتضينا أن نقرر أن استغلال الاستعمار للاستشراق ليس معناه أن الاستشراق كله جملة وتفصيلاً دار في هذا الفلك، إذ لم نعدم من أدى به إنصافه إلى بيان الحقيقة ، ولئن كان هؤلاء قد نقلوا من حقيقة الحضارة الإسلامية أصالتها وأفادوا بها الغرب في نهضته فإن هذا قد اعترف به منصفون منهم وإن قلّوا."([xv])

ويتناول عدنان الوزان الاستشراق على أنه اتجاه فكري يعني بدارسة الحياة الحضارية للأمم الشرقية بصفة عامة ودراسة حضارة الإسلام بصفة خاصة.كما يتناوله من ناحية أهداف الاستشراق حيث يرى أن الاستشراق انطلق  من فكرة واحدة إنما هي فكرة الغزو الاستعماري والعقائدي " بقصد التمكين للحضارة الغربية المسيحية المادية من السيطرة على الحضارة الإسلامية وإلغاء دورها في الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والاقتصادية وتشكيك المسلمين بدينهم ومحاولة إبعادهم وغيرهم عنه."([xvi]) ويؤكد الوزان هذا الأمر في مواقع أخرى من كتابه حيث يقول في موضع آخر:" إن من أهداف المستشرقين الوقوف في وجه الشعوب التي لا تدين بالإسلام ليمنعوهم من الدخول في دين الحق الدين الإسلامي بما يعملون جاهدين في تشويه الإسلام وتغيير الصورة الحقيقية لهذا الدين الحنيف وإن إظهار الإسلام بصورة محرفة مستكرهة أمام الشعوب غير المسلمة بقصد صدهم عن سبيل الله وما نزل من الحق."([xvii])

ولئن كانت الكتابات السابقة ركزت على الجوانب السلبية في الاستشراق لأنها رأت أن الدراسات الاستشراقية التقليدية التي يرى البعض أنها بدأت بمدرسة اللغات الشرقية الحية التي أسست في باريس عام 1795 وترأسها في البداية المستشرق الفرنسي المشهور سلفستر دي ساسي ولم يعرفوا من الاستشراق أكثر من كتابات جولدزيهر وشاخت ومارجليوث ولامانس وغيرهم من كبار الباحثين الغربيين في الدراسات الإسلامية فإن رد الفعل اتسم في كثير من الأحيان بالحدة والقسوة والعنف. ولعل ذلك حق لهم حيث إن العقيدة والهوية هما أهم ما يملك الإنسان فكيف يرضى أن يسكت على الطعن فيهما. ولذلك قال عدنان الوزان:" وأيقنت أن ما كتب ضد هؤلاء المستشرقين إنما هو حق، ولا أحد يلومنا إذا عزمنا على مقاومة هؤلاء المستشرقين وأخرجناهم من مكانتهم وأزحنا الأغشية التي يلفونها على وجوههم ومنازلتهم منازلة الند للند في ميدان الجدل العلمي والمناظرة الموضوعية."([xviii])

ومن خلال دراسة كتابات العرب والمسلمين الذين درسوا في الغرب أو تأثروا بالمناهج الفكرية الغربية فإن الاستشراق وإن كان لا يمكن تصنيفه ضمن المذاهب الفكرية كالماسونية أو الوجودية أو الشيوعية ولكنه اتجاه فكري معين يعتمد على الأسس الفكرية الغربية والمسلمات الغربية. فالغربي الذي مرّ بمرحلة " التنوير" الغربية التي دعت إلى الفصل بين الدين والحياة أو العلمانية بأوسع معانيها، الغرب الذي حارب ما يسمى بالمقدس فأخذوا يناقشون كتبهم المقدسة ويخضعونها للتحليل والنقد، كما أن هذا الغرب الذي ظهرت فيه التيارات الفكرية التي تسمى الحداثة وما بعد الحداثة وانعكست هذه الأفكار والتيارات على الدراسات العربية الإسلامية فإنه أقرب إلى أن يكون اتجاه فكري معاصر يصلح أن يدرس ضمن الاتجاهات الفكرية المعاصرة.

ومما يؤيد هذا الأمر أنه ظهر عدد من الكتاب في العالم العربي لا يرون في التاريخ الإسلامي إلاّ سلسلة من الدكتاتوريات الحاكمة وأن العالم الإسلامي لم يعرف الحكم العادل فهم قد أخذوا عن المستشرقين النظرة السلبية للتاريخ الإسلامي ولو أنهم نظروا بعين العدل والإنصاف لهذا التاريخ لرأوا أن الأمة الإسلامية رغم بعض الصفحات المظلمة في تاريخها شأنها شأن أي أمة عظيمة إلاّ أن المواطن المسلم كان عزيزاً وتمتع بكرامته الإنسانية إلى أبعد حد وإلاّ فكيف ظهرت هذه الإبداعات العلمية التي ما زلنا لم نكشف كل كنوزها. كيف استطاع المسلمون أن يبنوا حضارة سامقة وهم كما تصورهم الكتابات الاستشراقية أو المتأثرة بالروح الاستشراقية مجموعة من المواطنين الذين يخضعون لحكام جبابرة كالحجاج أو غيره. ولعل من الطرائف أن تخصص كاتبة في مجلة سيّارة مقالتين أو أكثر للشعراء السود ومأساتهم –كما تزعم- لتخرج من هذين المقالين أن الإسلام الذي حرم العنصرية نظرياً فإن المجتمع المسلم ظل عنصرياً قلباً وقالباً.



[i] - عبد الستار فتح الله سعيد. " الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام " في الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام " (بحوث مؤتمر الفقه الإسلامي عام 1396) .الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1404هـ- 1984م. الصفحات 175-280.

[ii] - المرجع نفسه، ص 229.

[iii] -عبد الكريم يونس الخطيب. " الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام: القسم الرابع" في بحوث مؤتمر الفقه الإسلامي ، مرجع سابق، الصفحات 391-459.

[iv] -المرجع نفسه ص 441.

[v] - أحمد بشير، المرجع السابق ، القسم الخامس الصفحات 459-497.

[vi] عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) .تراثنا بين ماضٍ وحاضر) . القاهرة: دار المعارف 1387/1389هـ الموافق 1968/1969م) ص 53.

[vii] - المرجع نفسه والصفحة نفسها.

[viii] - محمد رشاد سالم. المدخل إلى الثقافة الإسلامية. (الكويت: دار القلم، 1405هـ/1984م) ص 8

[ix] -محمد الغزالي. دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين. (القاهرة: نهضة مصر، بدون تاريخ ) ص 3.

[x] - المرجع نفسه ، ص 5.

[xi] - آصف حسين. " المسار الفكري للاستشراق" ترجمة مازن مطبقاني . في مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. العدد السابع

[xii] محمد أحمد دياب. أضواء على الاستراق والمستشرقين.(القاهرة: دار المنار، 1410هـ_1989م) ص 7.

[xiii] - المرجع نفسه.

[xiv] - المرجع نفسه.

[xv] - محمد عبد الفتاح عليان . أضواء على الاستشراق. ( القاهرة: دار البحوث العلمية. 1400هـ 1980م) ص 5.

[xvi] - عدنان محمد الوزان. الاستراق والمسترقون: وجهة نظر. مكة المكرمة: رابطة العالم الإسلامي ، سلسلة دعوة الحق ، س3 عدد14 ربيع الأول 1404، يناير 1984م. ص 197.

[xvii] - المرجع نفسه ص 37.

[xviii] - المرجع نفسه ص 8.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الطبعة: الرابعة. الناشر: دار المعارف بالقاهرة (تاريخ بدون). عدد صفحات الكتاب: 219 صفحة من القطع المتوسط. إعداد: مازن صلاح المطبقاني في 6 ذو القعدة 1407هـ 2 يوليه 1987م بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة : يتحدث فيها المؤلف عن معنى التاريخ، وهل هو علم أم فن، ثم يوضح أهمية دراسة التاريخ وبعض صفات المؤرخ وملامح منهج البحث التاريخي. معنى التاريخ: يرى بعض الكتاب أن التاريخ يشمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون بما يحويه من أجرام وكواكب ومنها الأرض، وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان. ومثال على هذا ما فعله ويلز في كتابه "موجز تاريخ العالم". وهناك رأي آخر وهو أن التاريخ يقتصر على بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض.       وكلمة تاريخ أو تأريخ وتوريخ تعنى في اللغة العربية الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ودقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمن من ناحية التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله الم...

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

                                      بسم الله الرحمن الرحيم                                  ما أصدق بعض الشعر الجاهلي فهذا الشاعر يصف حال بعض القبائل العربية في الغزو والكر والفر وعشقها للقتال حيث يقول البيت:   وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا. فهم سيقومون بالغزو لا محالة حتى لو كانت الغزوة ضد الأخ القريب. ومنذ أن نزل الاحتلال الأجنبي في ديار المسلمين حتى تحول البعض منّا إلى هذه الصورة البائسة. فتقسمت البلاد وتفسخت إلى أحزاب وفئات متناحرة فأصبح الأخ القريب أشد على أخيه من العدو. بل إن العدو كان يجلس أحياناً ويتفرج على القتال المستحر بين الاخوة وأبناء العمومة وهو في أمان مطمئن إلى أن الحرب التي كانت يجب أن توجه إليه أصبحت بين أبن...

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية

                             يردد الناس دائما الأثر المشهور :(من تعلّمَ لغةَ قوم أمن مكرهم أو أمن شرَّهُم) ويجعلونها مبرراً للدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية أو اللغة الإنجليزية بصفة خاصة. فهل هم على حق في هذه الدعوة؟ نبدأ أولاً بالحديث عن هذا الأثر هل هو حديث صحيح أو لا أصل له؟ فإن كان لا أصل له فهل يعني هذا أن الإسلام لا يشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟ وإن كان صحيحاً فهل الإسلام يحث ويشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟         لنعرف موقف الإسلام من اللغات الأخرى لا بد أن ندرك أن الإسلام دين عالمي جاء لهداية البشرية جمعاء وهذا ما نصت عليه الآيات الكريمة {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً } (سبأ آية 28) وقوله تعالى { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } (الأنبياء آية 107) وجاء في الحديث الشريف (أوتيت خمساً لم يؤتهن نبي من قبلي، وذكر منها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). فهل على العالم كـله أن يعرف اللغة العربية؟ وهل يمكن أن نطالب كلَّ...