بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة
والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...وبعد ...
لقد نالت جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين*[i]التي
تأسست في الجزائر عام 1349هـ-1931م اهتمام كثير من الكتاب سواء الجزائريين أو
غيرهم، وكان ممن كتب عنها الدكتور علي مراد ، ومن ضمن آرائه التي تهمنا في هذا
البحث ما ذكره حول موقف العلماء من الطروحات الاجتماعية المعاصرة، وأن العلماء
كانوا مقيدين بعقائدهم الكلاسيكية بسبب سلفيتهم، وردد هذه الأفكار الدكتور أحمد
الخطيب في رسالته حول الدور الإصلاحي لجمعية العلماء، ومن خلال استقرائي لمجلة
الشهاب بالإضافة إلى أعمال ابن باديس التي جمعها وصنفها الدكتور عمار الطالبي،
وكذلك آثار ابن باديس التي نشرتها وزارة الشؤون الدينية وجدت أن هناك رأيا آخر سوى
ما ذكر الباحثان ، وعندما تيسر له الاطلاع على رسالة الدكتوراه التي أعدها د.
أندريه ديرلك Andre Dirlik بعنوان عبدالحميد بن باديس مفكر الإصلاح
ورائد الوطنية الجزائرية وجدت أنه تناول هذا الجانب على نحو من التعمق
والتفصيل.
وحين علمت بهذه الندوة
المباركة التي تعقد بمناسبة يوم العلم حول أثر القيم الإسلامية في التنمية أحسست
بأهمية الحديث عن التنمية عند ابن باديس، ولما كانت التنمية الاجتماعية الاقتصادية
من القضايا المعاصرة التي تكتسي أهمية كبرى وبخاصة في المجتمعات الإسلامية،
والباحث سيحاول الإجابة عن السؤال الذي يتردد كثيرا، هل اهتم العلماء وعلى رأسهم
الشيخ عبد الحميد باديس بقضايا التنمية؟ وهل كان لهم اطلاع قريب أو بعيد على
الطروحات الاجتماعية المعاصرة؟ ورأيت أن يكون حديثي في ثلاثة محاور:
الأول: الإشارة الوجيزة إلى شمولية
العقيدة الإسلامية وأن الطروحات الاجتماعية لا تنفصل عن التصور الإسلامي الكلي.
الثاني: إيراد بعض النقد الموجه للعلماء
حول موقفهم من الطروحات الاجتماعية المعاصرة.
الثالث: الحديث عن بعض آفاق التنمية عند
ابن باديس.
المحور الأول:
ذهب الأستاذ سيد قطب
إلى أن على الدارس قبل البحث عن نظرية الإسلام في المال والحكم أو السياسة الدولية
أن يتعرف بوضوح على التصور الشامل للإسلام عن الكون والحياة والإنسان؛ لأن قضايا
المال والحكم ماهي إلا فروع عن ذلك التصور الكلي ولا تفهم بدونه فهما صحيحا عميقا.[1]
ويؤيد هذا الدكتور محمد
المبارك الذي يقول: "إن الإسلام لا يغض من قيمته أنه الآن نظام مثالي غير
مطبق تطبيقا كاملا في أي بلد، فإن جميع الأنظمة بدأت كذلك ولأنه يحتاج إلى أن
يسبقه إيمان بالأسس العقائدية التي يرتكز عليها النظام – فلكل نظام عقيدة – وإلى
سلطان دولة يقوم نظامها كله على أساس الإســــــــــــــــــــــــــــلام "[2]،
ولم يكن في الجزائر حين ظهرت حركة العلماء المسلمين بقيادة ابن باديس دولة تقوم
على الإسلام بل كانت تحاربه وتحاول القضاء على مقومات الشخصية الإسلامية من لغة
وعقيدة.
ونجد تأكيدا آخر من
الدكتور عبد الكريم زيدان في قوله: "إن نظام الإسلام في الاقتصاد يقوم على
أساس العقيدة الإسلامية ويتفرع منها، فهذه العقيدة إذن هي أساسه الفكري وهو يراعي
الفطرة الإنسانية ومعاني الأخلاق الفاضلة ويؤكد على ضرورة سد حاجات الأفراد
اللازمة على العيش"[3].
ويوضح أحد الباحثين
المعاصرين فكرة العدالة الاجتماعية في الإسلام، مجريا مقارنة سريعة مع الأسس
العقائدية لبعض المذاهب الأخرى فيقول "إن الإسلام يفرض قواعد العدالة
الاجتماعية ويضمن حقوق الفقراء في أموال الأغنياء، ويضع للحكم والمال سياسة عادلة
ولا يحتاج لتخدير المشاعر ولا دعوة الناس لترك حقوقهم على الأرض وانتظارها في
ملكوت السماء "[4].
ولما كان التراث الفكري
الإسلامي في النظرية والتطبيق زاخرا بالتجارب الغنية في مسائل الاجتماع والاقتصاد
فإن على المسلمين دراستها ومعرفتها معرفة دقيقة قبل أن يلتفتوا إلى الطروحات
المعاصرة التي تنطلق من أسس مختلفة كليا ، وقد نبه سيد قطب إلى هذه المسألة فضرب
المثال بأنه في عالم الاقتصاد لا يلجأ الفرد إلى الاستدانة وله رصيد مدخور قبل أن
يراجع رصيده فيرى إن كان فيه غناء، ولا تلجأ الدولة إلى الاستدانة قبل أن تراجع
خزائنها، أفلا يقوم رصيد الروح وزاد الفكر ووراثات القلب والضمير كما تقوم السلع
والأموال في حياة الناس[5]،
وبالرغم من هذا الرصيد الفكري الضخم إلا أن بعضا من الأمم الإسلامية تطلعت إلى
أوروبا وأمريكا وروسيا تبحث عندها عن حلول لمشكلاتها الاقتصادية ومنهج لتحقيق
العدالة الاجتماعية، وكانت بذلك "إنما تلقي بكل تراثها الروحي وكل مقوماتها
الفكرية وكل الحلول التي يمكن أن يتيحها لها النظر فيما لديها من أسس ومبادئ
ونظريات وتستجلب المبادئ الديمقراطية والاشتراكية والشيوعية فتكل إليها حل
مشكلاتها الاجتماعية ، مهما اختلفت أوضاعها وظروفها، وتاريخها ومقومات حياتها
المادية والفكرية والروحية عن ظروف القوم فيما وراء البحار وفيما خلف السهوب"
[6].
ولعل مشكلة الإعجاب
بالغرب والرغبة في تقليده قد ظهرت منذ وقت مبكر حينما كانت أوروبا تجتاح العالم
بقوتها العسكرية والفكرية مما دعا جمال الدين الأفغاني إلى أن يتوجه إلى هذه الفئة
ناعيا عليها هذا التقليد دون وعي أو دراسة أو نظر فكتب في العروة الوثقى يقول : "علمتنا التجارب ومواضي الحوادث
بأن المقلدين من كل أمة المنتحلين أطوار غيرها يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق
الأعداء عليها)"[7]
... ثم يوضح خطورة هؤلاء بقوله :"ويصير أولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين
وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل يفتحون الأبواب ثم يثبتون أقدامهم ويمكنون
سلطانهم..." [8]ونختم
الحديث في هذا المحور بالدعوة المجددة المتكررة لأولئك الداعين إلى مناهج الفكر ا لغربية
بأن دعوتهم هذه "تعد تسليما بالهزيمة منذ الجولة الأولى ؛ لأنهم حين يحاولون
تجديد حياتهم باستعارة الطرق الغربية في التفكير والحياة والسلوك إنما ينتهون إلى
وأد الحياة التي يعملون على إحيائها لأنهم منذ الخطوة الأولى يعدلون عن طريقها
الطبيعي الوحيد وهو ان يفكروا على أسس إسلامية، تجعل العنصر الأخلاقي أصلا في بناء
الحياة وتنظر للغايات الخلقية للعمل ولا تجعل المنفعة هي الغاية العليا للأخلاق".[9]
ويبدو لي أن النقد
الموجه للعلماء الجزائريين ولابن باديس على رأسهم بعدم الخوض في الطروحات
الاجتماعية المعاصرة وكيل الاتهامات المختلفة لهم بالتصريح حينا والتلميح أحيانا
كثيرة إنما هو موجه للإسلام نفسه، ولذلك فإن المحور الثالث نأمل أن يوضح لنا مدى
اهتمام ابن باديس بمشكلات التنمية المختلفة، وأنها لم تكن منفصلة أبدا عن جهاده في
تصحيح العقيدة والدعوة إلى الإسلام الصحيح من جديد.
أما المحور الثاني فلن
نطيل الحديث فيه حيث يكفي استعراض بعض الآراء التي انتقدت العلماء في عدم تطلعهم
إلى مشكلات التنمية، وعدم معرفتهم معرفة دقيقة بالطروحات الاجتماعية المعاصرة.
وأول هؤلاء الذين كتبوا عن الجمعية من أبناء الجزائر الدكتور علي مراد الذي طبعت
رسالته للدكتوراه حول الحركة الإصلاحية في الجزائر من 1925-1940م عام 1967م حيث
يقول فيها:
أ) "إن أحكامهم الخجولة بشأن الصراعات
الاجتماعية التي تهز أوروبا حول تطور الشيوعية وحول مصير الرأسمالية كانت نتيجة
الخطأ في وصول المعلومات الدقيقة إليهم" [10].
ب) إن
الشعب الجزائري كان يعيش بالفعل حتى بداية الأربعينات حياة العصور الوسطى
الثقافية، وكان لا يزال مثقلا بالمفاهيم البالية في قضايا العمل والاقتصاد (المال)
والمبادلات الاجتماعية.[11]
ج) اتخذ العلماء موقفا سلبيا من قضايا
المال مراعاة لجانب العائلات الإسلامية الغنية التي يعود الفضل لمساهمتها المالية
الضخمة في إنجاح مؤسسات الجمعية.[12]
كما ذكرت سابقا بأنا لن
نحاول الرد على هذه الأقوال إلا من خلال أعمال ابن باديس وأقواله لكننا نجد لزاما
هنا أن نذكر أن جريدة ذو الفقار لعمر راسم التي صدرت أثناء الحرب العالمية
الأولى نشرت مقالات مطولة حول الاشتراكية في أوروبا وحاولت أن تجد تقاربا بينها
وبين الإسلام بل إن كاتب المقالات تمنى أن يكون للجزائريين حزباً اشتراكياً.
ثانيا : د. أحمد الخطيب :
تبنى الخطيب أكثر آراء
مراد وأضاف إليها انتقادات أخرى ولعل بعضها تفسير أو توضيح لآراء الدكتور مراد
فمما قاله الخطيب:
1- إن
جهل العلماء باللغات الأجنبية كان عائقا دون اطلاعهم على النظريات الاجتماعية
الاقتصادية الحديثة من مصادرها الأساسية.
2-
إن
فكر العلماء كان مقيدا بالعقيدة السلفية التي تدعو إلى عودة المسلمين إلى أيام (العصر
الذهبي) وتنظيم حياتهم وفقا لها.
3- لم
يستطع العلماء دراسة البنية التقليدية للمجتمع الجزائري دراسة علمية ومعالجتها
بالمعطيات الاقتصادية التي طلع بها القرن العشرون؛ لأنهم لم يكونوا مؤهلين لمثل
هذه الدراسات علميا وسياسيا، كما أنهم كانوا رجال دين سلفيين مقيدين بالمفهوم
السلفي للإصلاح الديني.[13]
ثالثا
: د. فهمي جدعان:
في كتابه أسس التقدم
عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، وكان رأيه أنه نظرا لظروف الاستعمار
كان موقف العلماء رهين الفكر العلمي الأحادي، وفسر ذلك بأن التفكير لدى العلماء
كان يدير النهضة والتأخر عن علة ((العلم)) و ((التربية والتعليم)) المدعومين
بالأخلاق، ويرى الدكتور جدعان أن الحركة الفكرية في العالم العربي لم تتحرر من هذا
الأسلوب إلا بعد الحرب العالمية الثانية حيث أضيف إلى جانب العامل الديني التربوي
الأخلاقي العوامل السياسية والعوامل الاجتماعية والعوامل النفسية والعوامل
الاقتصادية[14]
وهنا نصل إلى المحور
الثالث الذي لن نخصصه للرد على هذه الانتقادات – كما أسلفنا – التي تحتاج منا إلى
بحث مطول لا يستوعبه المقام، ولعلنا من خلال استعراض أعمال ابن باديس وكتاباته
وشهادة الدكتور اندريه ديرلك أن نجد بعض الرد والتفنيد للآراء السابقة، والحقيقة
أن ابن باديس لم يكن مفكرا اقتصاديا حتى يخوض في مسائل الاقتصاد والتنمية
والدراسات التنموية المختلفة ، ولكن حسبه أنه في الظروف التي عاشتها الجزائر
محكومة بالجوع والحرمان والتفقير والاضطهاد أن ينبه الشعب الجزائري إلى ضرورة الاحتفاظ
بكيانه وشخصيته بعد أن كادت المخططات الاستعمارية تفلح في القضاء على الشخصية
الجزائرية، ولعله قد تجاوز الإمكانات المتاحة له فنظر في بعض مسائل التنمية حينما
أنشأ جمعية التربية والتعليم وتطلع بإخلاص وصدق إلى تطور الشعب الجزائري ليقف على
قدم المساواة مع فرنسا.
أما نظرة ابن باديس
للتنمية فإنها تنطلق من إيمانه العميق بأن الإسلام دين شامل فيه ما يغني الأمة
الإسلامية عن أي فكر مهما كان. بل إن الأمم الأخرى ينبغي لها أن تتسابق إلى
الاستعانة بالإسلام ليصلح شأنها ويحل مشاكلها المستعصية ولكنه مع ذلك لا يحجر على
الفكر أن يطلع على منجزات الأمم الأخرى وبخاصة الفرنسية حتى دعا إلى تعلم اللغتين
في مقال يقول فيه ((إن الذي يحمل علم المدنية العصرية اليوم هو أوروبا فضروري لكل
أمة تريد أن تستثمر ثمار تلك العقول الناضجة أن تكون عالمة بلغة حية من لغات
اوروبا[15].
أما عن الإسلام فيقول
ابن باديس إنه "دين جامع لكل ما يحتاج إليه البشر أفرادا وجماعات لصلاح حالهم
ومآلهم فهو دين لتنوير العقول وتزكية النفوس وتصحيح العقائد وتقويم الأعمال فيكمل
الإنسانية وينظم الاجتماع ويشيد العمران ويقيم العدل وينشر الإخاء"[16].
وقد أبدى ابن باديس
إدراكه للطروحات الاجتماعية الاوروبية وإن لم يكن بالتفصيل والدقة التي تطلبها منتقدوه
فإنه كان هناك فهم عام لها، ولا ننسى أنه بعد مئة سنة من الاحتلال كان شيوع
الفرنسية أمرا واضحاً بل كان من بين العلماء المقربين لابن باديس من عرفها معرفة
جيدة مثل الأمين العمودي، وإني لا أستبعد معرفة ابن باديس لها – رغم أنه لم يتأكد
هذا – لتناوله بالرد على افتراءات بعض الصحف الفرنسية والكتاب الفرنسيين، ولنا
أيضا أن نفترض أن كثيرا من الطروحات الاجتماعية كتبها بالعربية بعض المستشرقين
الفرنسيين الذين كانوا على علم باللغة العربية.
ومن هذا المنطلق فقد
كتب ابن باديس عن الإسلام بأنه "لا يحتاج بعده إلى ما يتناحر عليه الأوروبيون
من مبادئ وأحزاب وجمعيات ليس في استطاعة شيء منها أن صلح حالهم لا في السياسة ولا
في الاجتماع دع عنك الأخلاق والآداب"[17]ثم
نجده ينتقد هذه الأحزاب بكلمات قلائل تحتاج إلى صفحات وصفحات من الشرح والتحليل
فيقول عنها " كما أنه لا يسلم واحد منها من قواعد منافية للفطرة أو مجانبة
للعدل أو ضعيفة في العقل فالمسلم بطبيعة إسلامه بعيد كل البعد عن كل هذه الجمعيات
والأحزاب"[18]
، أليست هذه هي عيوب النظم الوضعية أو بعضها؟
ويتكرر هذا المعنى في كلمة
ألقاها ابن باديس في الاجتماع العام للجمعية العمومية لجمعية العلماء عام 1936م
فيقول: "إن الإسلام عقد اجتماعي عام فيه كل ما يحتاج إليه الإنسان في جميع
حياته لسعادته ورقيه وقد دلت تجارب كثير من علماء الأمم المتمدنة على أنه لا نجاة
للعالم مما هو فيه إلا بإصلاح عام على مبادئ الإسلام"[19].
إن شمول الإسلام وكماله
يقابله نقص المدنية الغربية المبنية على الأسس المادية مهما بلغت من الرقي المادي؛
ولذلك نجد ابن باديس حينما يفسر قوله تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد
الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" (الانبياء105)، أما العباد
الصالحون في الآية فيقول فيهم ((رأى بعض الناس المدنية الغربية المسيطرة على الأرض
وهي مدنية مادية في نهجها وغاياتها ونتائجها، فالقوة عندها فوق الحق والعدل
والرحمة والإحسان، فقالوا إن رجال هذه المدنية هم ((الصالحون)) الذين وعدهم الله
بإرث الأرض كأن عمارة الأرض هي كل شيء ، ولو ضلت العقائد وفسدت الأخلاق واعوجت
الأعمال وساءت الأحوال وعذبت الإنسانية بالأزمات الخانقة وروعت بالفتنة والحروب
المخربة وهددت بأعظم حرب تأتي على الإنسانية من أصلها والمدنية من أساسها[20].
ولعل أوضح مثال على
إدراك ابن باديس لأهمية التقدم العمراني المادي ما أشار إليه في حديثه عن ((العرب
في القرآن)) فهذا المقال يعد فصلا فلسفيا في منظومة تفكير ابن باديس لم يقصد فيه
إلى تعظيم العرب انتصارا للقومية ، ولكن ليؤكد لعرب اليوم أن القرآن حين جاء
بذكرهم وذكر مدنيتهم وحضارتهم ورقيهم المادي إنما ليرشدهم بأن الرقي إذا ما كان
مرتبطا بالإيمان بالله وبالسير على منهجه فهو رقي محمود ، وأما إذا اعترى الأمم
الراقية انحراف عن منهج الله فمصيرها هو مصير العرب السابقين ، ومن حديثه عن رقي
العرب قبل الإسلام ودعوته للمسلمين المعاصرين للأخذ بأسباب المدنية والحضارة
تفسيره لقوله تعالى : " أتبنون بكل ريع آية تعبثون ، وتتخذون مصانع لعلكم
تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين" (الشعراء 128-130)، حيث جاء فيه ،
والمصانع يقول المفسرون إنها مجاري المياه أو هي القصور وعلى القولين فهي دليل على
معرفتهم بفن التعمير علما وعملا ولكن ليت شعري ما الذي صرف المفسرين اللفظيين عن
معنى مصنع اللفظي الاشتقاقي والذي أفهمه ولا أعدل عنه هو ان المصانع هي جمع مصنع
كالمعامل من العمل وإنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها
العمران. وهل كثير على أمة توصف بما وصفت فيه في الآية أن تكون لها مصانع، ويضيف
ابن باديس قائلا عن هذه المصانع إن القرآن "لم ينكرها لذاتها وإنا أنكر عليهم
غاياتها وثمراتها، فإن المصانع التي تشيد على القسوة والقوة لا تحمد في مبدأ ولا
في غاية، وأي عاقل يرتاب في أن المصانع اليوم هي أدوات عذاب لا رحمة، ووسائل تدمير
لا تعمير فهل يحمدها على عمومها"[21]،
ومن حقنا التنبيه هنا إلى أن فكرة التنمية كانت واضحة لدى ابن باديس حين أشاد
بالمصانع المبنية على الرحمة والعدل.
وما دمنا مع القرآن الكريم نجد ابن باديس
كان ينادي دائما بأهمية فهم القرآن فهما صحيحا ويوجه نقده إلى المسلمين في الوقت
الحاضر لابتعادهم عن فهمه حتى لو قرأوه وحفظوه ، بل ضرب المثل بنفسه حين بدأ قراءة
القرآن دون فهم ، أما عبارة ابن باديس في هذا المجال فهي: "إن العرب لما
ءامنوا بالقرآن وقد فهموه وعرفوا منزلته لم يكن عندهم من يصرفهم عنه لا بالمنع من
تفهمه ولا بالمشغلات من أقوال وأعمال ربما ظن أقوام أنها تقوم مقامه وتكفي كفايته
(وما أشبه الليلة بالبارحة)، وقد أكد ابن باديس على أثر القرآن في نهضة المسلمين
عند تفسيره قوله تعالى " (إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم
تتفكروا) (سبأ-46) فيقول: وهذه الآية جديرة بأن تدعى آية (النهوض الإنساني)
فقوله تعالى " تقوموا" لا تعني القيام على الأرجل وإنما معناها النهوض
ولو كان هذا مرادا وفهمته العرب منه لما سادوا المعمورة" ، ثم يحدد ابن باديس
أهداف النهضة وغاياتها فيقول "إن النهضة يجب أن تكون لله فإن كانت لغيره فإنها
لا تخلو من ضرر يعود على نوع الإنسان من جهات شتى وإن نفعت قوما من بعض الوجوه"[22]
.
وهنا نجد إشارة هامة من
ابن باديس إلى النهضة يستخلصها من القرآن الكريم بواسطة نظره وعميق تفكيره، فانظر
كيف يستلهم معاني القرآن الكريم للدعوة للرقي والنهوض لا يقف في تفسيره عن أحكام
العبادات أو التفسير الحرفي المحدود.
وبناء على هذه المعطيات
وهذا الفهم فإنه عند تأسيس جمعية التربية والتعليم القسنطينة جعل نظامها الأساس
ينص على "تأسيس ملجأ للأيتام وتأسيس معمل للصنائع، وإرسال التلامذة على
نفقتها إلى الكليات والمعامل الكبرى"، وقد الحق مصنعا للنسيج بمدرسة التربية والتعليم،
وقد اشار ابن باديس في بعض دروسه أنه يفضل البرنوس الذي صنعته أمه على الذي صنعته
ضرتها مشيرا إلى القماش المستورد للجزائر من فرنسا وغيرها.
ولعل حياة ابن باديس
الحافلة بالأعمال والنشاطات تقودنا إلى إدراك مدى اهتمامه بالتنمية ؛ ففي رحلاته
التي كان يجوب فيها جميع أرجاء الجزائر كان يزور أبناء الشعب الجزائري في مقار
عملهم ليس فقط ليدعوهم إلى تأييد الحركة الإسلامية بل ليعرف أحوالهم عن كثب
ويدعوهم إلى زيادة نشاطهم وإلى التعاون والتكاتف والاتحاد إدراكا منه بأهمية توعية
التاجر وصاحب الحرفة ليكونوا أدوات دافعة للنهضة والتقدم، ولنضرب بعض الأمثلة :
ففي إحدى رحلاته إلى سكيكدة يذكر الشيخ أن غالب وقت جلوسه في حانوت السيد محمد
قلمين ، وفي غيليزان زار دكان التاجر ابن منصور التلمساني، هذا الاحتكاك بالتجار
دعاه إلى التفكير في حثهم على إنشاء (جمعية تجار قسنطينة) التي كان من آثارها
إنشاء شركة آمال بعد الحرب العالمية الثانية فساهمت مساهمة فعالة في إصلاح أوضاع
التجار المسلمين في مواجهة التجار الفرنسيين واليهود .
أما مطالبة ابن باديس
بالمساواة للعمال الجزائريين بالأجور وشروط العمل وفي الضرائب فهي أكثر من أن تحصى
ولكنها لم تكن مطالبة من يرى أن النظام الفرنسي حق لا ظلم فيه، وما كان لابن باديس
أن يخوض في مسألة النقابات والإضرابات وغيرها وهو يرى أن الشعب الجزائري يتعرض
لظلم أفدح من ذلك حتى كان مقاله المدوي الذي نفى فيه أن يكون الشعب الجزائري لا يريد
إلا الخبز "وأن الخبز عندنا هو كل شيء وأننا إذا ملئت بطوننا مهدنا ظهورنا،
وأنهم إذا أعطونا الخبز فقد أعطونا كل ما نطلب... فهناك ما علمتم من مطالبنا
العلمية والاجتماعية والاقتصادية وكلها ضروريات في الحياة"[23]
... وهنا دليل واضح على بعد أفقه واهتمامه بجميع جوانب الحياة.
ومن وسائل التنمية عند ابن باديس مساهمته
في إنشاء الفرق الكشفية التي خلد بعضها في قصيدة التي قال فيها:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
.........
يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب
وفي هذا تخليد لفوجي
الرجاء والصباح، كما ساهم في إنشاء الفرق الرياضية والفنية، ولا شك أن ابن باديس
لم يكن يرى في هذه الأعمال مقصدا للهو والتسلية ولكن لتعويد الشعب الجزائري على
الاستفادة من معطيات هذه النشاطات لتكون نواة لإعداد الشخصية الجزائرية المستقلة.
ومن أبرز آفاق التنمية
عند ابن باديس اهتمامه بالمرأة الجزائرية تعليما وتثقيفا حتى لا يبقى شطر الجزائر
في ظلمات الجهل بعد أن سار تعليم الذكور شطراً من الزمن، كما أن ابن باديس كان
حريصا على تجنيبها التعليم الأجنبي الذي سيؤدي إلى تكوين جيل لا ينتمي إلى الجزائر
وعقيدتها وفكرها، وقد كتب ابن باديس كثيراً في هذا المجال وإليك ما قاله في أحد مقالاته:
"إن البيت هو المدرسة الأولى والمصنع الأصلي لتكوين الرجال وتدين الأم هو
أساس حفظ الدين والخلق"[24]،
وقال في مناسبة أخرى: "لما ذا تعاقب المرأة بتعليمها؟ هل العلم ورد صفاء
للرجال ومنهل كدر للنساء؟ هل له تأثيران حسن على فكر الذكور قبيح على فكر
الإناث؟"[25]
وكانت أعمال ابن باديس تطبيقا لهذه الأقوال،
فقد خصص جزءا من وقته لإلقاء الدروس والمواعظ على النساء، ولما أسس جمعية التربية
والتعليم جعل تعليم المرأة مجانا للقادرات وغير القادرات.
هكذا كان ابن باديس يرى
أن الإسلام شامل جامع لكل ما يحتاج إليه البشر ، ومن هدي هذا الدين كان عمل ابن
باديس في إنهاض الأمة الجزائرية ، وقد أدرك هذا باحث كندي هو أندريه ديرلك في
رسالته التي ذكرناها آنفا فكان مما جاء في بحثه أن "ابن باديس لم يكن المفكر
الذي ينظر لمجتمعه من برج عاجي بل كان الرجل الحركي الذي تحرك طاقاته الواسعة
جماهير شعبه من الحالة التي كانوا عليها"،
ثم أوضح أن من نتائج أعمال ابن باديس أن احتفظت الجزائر بشخصيتها الإسلامية
العربية في حين كان من أهداف فرنسا الصريحة تحطيم هذه الشخصية وإدماج الجزائريين
في الحضارة الغربية[26].
كما تحدث أندريه ديرلك
عن اتساع أعمال ابن باديس لتشمل جميع ميادين الحياة والفكر، وأن عمله لم يكن قاصراً
على التربية والتعليم فقد امتدت من النواحي الدينية إلى الشؤون السياسية والأمور
الاجتماعية والثقافية، وكان تعبير ابن باديس عن آرائه حول مسألة الحضارة
للجزائريين وللبشرية أجمع من أبرز نشاطاته، كما أظهر ابن باديس اهتمامه بمبادئ
الأخلاق.
أما القضايا الاجتماعية
والاقتصادية عند ابن باديس فقد أولاها ديرلك اهتماما خاصا فكان مما جاء في بحثه عن
الأوضاع الاجتماعية في الجزائر في عصر ابن باديس "إن ظهور التمايز الطبقي في
الجزائر كان نتيجة تحطيم بنية المجتمع الإسلامي بسبب الاستعمار الفرنسي فوجود
الهوية الطبقية عكست نجاح الجهود الاوروبية في السيطرة على الاقتصاد ، وإن التمايز
الطبقي دل على أن أفكار الاشتراكية وجدت أرضا مشجعة بين الجزائريين ولهذا نادى ابن
باديس بالمبدأ الإسلامي بالإبقاء على حق الملكية الفردية كمقولة أساسية مقابل
الفكر الاشتراكي والشيوعي الذي يشجع الصراع الطبقي" ، ويضيف ديرلك بأن عدم
المساواة التي ابتلي بها المجتمع الجزائري تعبر عن ابتعاد الجزائريين عن العقيدة
الإسلامية ؛ ذلك أن إصلاح المجتمع الجزائري وفقا للشريعة الإسلامية سيؤدي بالتأكيد
إلى إزالة التمايز الطبقي في الجزائر[27]،
ويشير الباحث في هامش هذه الصفحات إلى الوسائل التي نادى بها ابن باديس لإصلاح
الوضع الاقتصادي وذكر ما يلي:
1-
احترام مؤسسة ((الزكاة)) التي تؤدي إلى عدم تضخم
الثروة بيد الأغنياء زيادة على الحد المعقول إذا ما تم توزيعها وفقا لما جاء في
الآية الكريمة " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم
وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم".
(التوبة:60).
2-
ضرورة
إصلاح الممارسات الاقتصادية ذات الأثر الاجتماعي السيء مثل الربا، والقمار،
واستغلال العمال من قبل أرباب العمل.
3-
الشح،
فقد كتب ابن باديس يذم هذه الصفة لدى بعض الأغنياء بحيث تمنعهم من البذل والعطاء
والمشاركة في المشروعات الخيرية.
4-
تشجيع
التعاون والتكافل بين فئات الشعب المختلفة مما يؤدي إلى أن يرقى الفلاح بفلاحته
والصانع بصناعته والتاجر بتجارته فترقية الفرد هي نهضة الامة[28].
فهكذا نرى أن آفاق
التنمية عند ابن باديس كانت واسعة بحيث شملت جميع ميادين الحياة وانطلقت من الفهم
الواعي الصحيح للقرآن الكريم، مستنيرة بتجارب الأمم قديما وحديثا.
أما أن فكر العلماء كان
يتسم بالارتكاز على العلية الأحادية بجعل التعليم والتربية والتعليم هما سبب
التقدم أو التأخر فلأن التعليم الإسلامي ينطلق من العقيدة الإسلامية والتصور
الإسلامي الكلي الذي يراعي جميع جوانب الحياة للفرد والمجتمع.
آمل أن أكون وفيت الموضوع بعض حقه من
العناية والدرس... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين...
20 شعبان 1408 هـ
7 أبريل 1988م
المراجــــــــــــــــــع
1-
الأفغاني،
جمال الدين. العروة الوثقى. ط1. بيروت: دار الكتاب العربي 1389ه-1970م.
2-
ابن
باديس، عبد الحميد. آثار الشيخ عبد الحميد بن باديس ج4. الجزائر: وزارة
الشئون الدينية 1406ه-1985م.
3-
جدعان،
فهمي. أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. ط2 (مصورة عن
الأولى) بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 1981م.
4-
الخطيب،
أحمد. جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها الإصلاحي. الجزائر:
المؤسسة الوطنية للكتاب، 1985م.
5-
زيدان،
عبد الكريم. أصول الدعوة ط3 بغداد: (دار نشر بدون) 1396ه-1976م.
6-
الشهاب
ج 8 م 11 شعبان 1354ه / نوفمبر 1930م.
7-
الشهاب
ج9 م 13 رمضان 1355ه/ ديسمبر 1936م.
8-
الشهاب
ج 11 م 10 أكتوبر 1934م.
9-
الطالبي.
عمار. ابن باديس حياته وآثاره. الجزائر: دار ومكتبة الشركة الجزائرية 1388
ه – 1968م.
10- قطب، سيد. العدالة الاجتماعية في
الإسلام. ط6. القاهرة: مطبعة البابي الحلبي 1383 ه – 1964م.
11- المبارك، محمد. النظام الإسلامي في
الاقتصاد. ط 2. بيروت: دار الفكر 1394ه-1974م.
12- مطبقاني، مازن. جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية 1349-1358 ه = 1931-1939م.
دمشق: دار القلم 1408ه-1988م.
المراجع الأجنبية
1. Dirlik, Andre. Abdu Hamid Ben Badis (1889-1940) Ideologist
of Islamic Reform and Leader of Algerian Nationalism, Unpublished Ph.D.
thesis McGill University, March 1972.
2.
Merad, Ali. Le Reformisme Muslim en Algeric 1925-1940 Paris: Mouton,
1967.
[1] سيد قطب. العدالة الاجتماعية في
الإسلام. ط 6 القاهرة: مطبعة البابي الحلبي 1383، 1964، ص 22.
[2] محمد المبارك. النظام الإسلامي في
الاقتصاد. ط 2، بيروت، دار الفكر 1394، 1974، ص 6.
[3] عبد الكريم زيدان. أصول الدعوة. ط3،
بغداد: ((دار النشر بدون))، 1396 هـ -1976م، ص228.
[4] سيد قطب، المرجع نفسه ص 16.
[5] سيد قطب، المرجع نفسه ص 3.
[6] سيد قطب، المرجع نفسه ص 3.
[7] جمال الدين الأفغاني. العروة الوثقى.
الطبعة الأولى، بيروت: دار الكتاب العربي، 1389، 1970، ص 59.
[8] المرجع نفسه.
[9] سيد قطب ص 263
[10]
Ali Merad. Le Reformisme, Musulman en Algerie du
1925-40 Paris : Mouton, 1967 P300
[11]
Ibid. P301
[12] أحمد الخطيب. جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين ودورها الإصلاحي ط 1، الجزائر، 1985، ص222-223، عن مراد
204.
[13] المرجع نفسه ص 223
[14] فهمي جدعان. أسس التقدم عند مفكري
الإسلام في العلم العربي الحديث، ط 2 ((مصورة عن الأولى)) بيروت: المؤسسة
العربية للدراسات والنشر، 1981، ص 256
[15] ابن باديس، الشهاب،
عدد 47، في 7 صفر 1345 هـ -16 أغسطس 1926م عن آثار ابن باديس ج 4 ص 39.
[16] ابن باديس، الشهاب، ج 11 م 10
أكتوبر 1934م، ص 482.
[17] المرجع نفسه
[18] عمار الطالبي، ابن باديس حياته وآثاره.
ط1، الجزائر ج3 ص 342
[19] المرجع نفسه ص 59
[20] المرجع نفسه ج 1 ص 355
[21] المرجع نفسه ج 4 ص 67
[22] آثار ابن باديس،
ط 1، ج 4، قسنطينة، وزارة الشؤون الدينية، ص 47-48
[23] الشهاب ج 9 م 13 في
رمضان 1355 هـ -ديسمبر 1936م.
[24] الشهاب،
ج 8، م 11 شعبان 1354هـ -نوفمبر 1930 م.
[25] مازن صلاح مطبقاني. جمعية العلماء
المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية ص 1، دمشق: دار القلم،
1988م، ص 109 عن المنتقد العدد 08 – 30 محرم 1344هـ، 20/8/1925م
[26]
Andre Dirlik. Abdul Hamid Ben Badis (1889-1940)
Ideologist of Islamic Reform and Leader of Algerian Nationalism, Ph.D.
thesis, Institute of Islamic studies Mc Gill University, Toronto, Canada 1971,
p.162 and p.20
[27] المرجع نفسه ص 261.
[28] المرجع نفسه هامش ص 262.
تعليقات
إرسال تعليق