ضيف
العدد
بكر
إبراهيم بصفر
(نشرت
هذه المقالة في جريدة المسلمون في عدد 324 بتاريخ 4شوال 1411هـ)
تبشرنا
وسائل الإعلام بإشراقة نظام عالمي جديد، وتتوالى تحليلاتها وتوقعاتها الزاهية
الألوان بعالم تسوده معان وقيم جديدة تتلاشى فيها مظاهر الاستبداد والاستغلال
الثقافي والسياسي والاقتصادي.
ونلتفت
حولنا نتحسس وجود هذا الكائن الجديد، ونسترشد بجدنا البدوي الذي استدل بالأثر على
المسير وبالبعرة على البعير، فلا نجد أثراً. وكل ما نرى ونسمع لا يتجاوز في مجمله
الظاهرة الإعلامية فما العالم المعاصر إلاّ أسير الهيمنة الغربية بقيمها ومفاهيمها
السياسية والاقتصادية والعسكرية. فالغرب الذي يدعم الأمم المتحدة لتقيم العدل في
بعض المناطق لاتفاق العدل عرضاً مع مصالحه، هو نفسه الغرب الذي يتجاهل الأمم
المتحدة ويقف مناصراً الظلم مالياً وعسكرياً لاتفاقه أيضاً مع مصالحه. والغرب الذي
يحارب الاستبداد والقهر مبشراً بالليبرالية الديموقراطية في مثل جمهوريات البلطيق
السوفيتية لاتفاقها مع مصالحه هو نفسه الغرب الذي يسكت عن الاستبداد ويتغاضى عنه
في أذربيجان في الدولة نفسها لهامشيتها بالنسبة لمصالحه.
يقول
الدكتور عبد الله الغذامي، مفاجئاً لي وللكثيرين ممن عرفه فيه المفكر المنفتح على
الثقافة الغربية في ميدان الأدب والفكر:" الذي أعتقده أن فكرة النظام العالمي
الجديد ليست سوى مصطلح جميل يفضي إلى مشروع عتيق وهو أن تستمر هيمنة المهيمنين على
ما حققوه من مكاسب مادية ومعنوية ويحولون دون انفلات العالم من أيديهم. سيسمون
هيمنتهم باسم يجعلها مقبولة لدى الآخرين، وبدل أن يقال الاستعمار والإمبريالية
والماركسية العالمية تلغى هذه المصطلحات ويقال النظام العالمي الجديد."
لا
أدري أين يجد الحالمون بالنظام العالمي الجديد له أثراً وهم يشاهدون تفاقم هيمنة
الغرب على العالم بأقماره الصناعية وبوكالات أنبائه وإذاعاته وبقية وسائل إعلامه
التي يذيب بواسطتها ثقافات الشعوب ويهيئها للاندماج في المركزية الثقافية الغربية؟
يذكر الدكتور عبد القادر طاش في كتابه " دراسات إعلامية " على سبيل
المثال أن أربع وكالات للأنباء تهيمن على 80% من جميع الأخبار التي تبثها وسائل
الإعلام في العالم، ويسيطر الغرب على المواد الإعلامية الترفيهية والثقافية كما في
الأفلام والمسلسلات؛ فشركة (C.B.S) التليفزيونية الأمريكية توزع برامجها في
مائة دولة بينما تعرض البرامج والأفلام التي تنتجها شركة (A.B.C)
في 60% من تليفزيونات العالم. أما في المجال الإذاعي فإن الدول الغربية تتحكم في
90% من الموجات الإذاعية في العالم، وسنعرف أي نظام عالمي جديد وأية ثقافة تسود
العالم إذا علمنا أن إذاعة صوت أمريكا وحدها تذيع أكثر من ألف ساعة في الأسبوع ب
42 لغة!!
لقد
حاول بعض المساكين فيما يسمى –شفقة-بالعالم النامي أن يكسروا طوق هذه المركزية
الثقافية الغربية من خلال بعض التعديلات الطفيفة على برامج اليونسكو فهددت الدول
الغربية بالانسحاب من المنظمة، بل جمدت بعض الدول مساهماتها المالية في ميزانيتها،
ولم تفرج عنها إلاّ بعد أن تأكدت بأن اليونسكو عادت كما أسستها وأرادتها فناراً
للثقافة الأورو أمريكية.
كيف
يحلم العالم الثالث (وجميع الدول الإسلامية ثالثية) بنظام عالمي جديد وبلاده فقيرة
مدينة للغرب بستمائة وخمسين ملياراً من الدولارات تتراكم عليها الفوائد الربوية
المركبة عاماً بعد عام، وأغلبها في الأصل مشاريع غير منتجة، أو وظفت في مشاريع
انتهت بها مرة أخرى إلى المؤسسات الغربية الدائنة. أما الأموال الفائضة لدى الدول
الغنية في هذا العالم الثالث فتذهب هي الأخرى إلى الغرب على شكل استثمارات أو
ودائع. لقد بلغ ما أودعته الدول العربية في بنوك ومؤسسات أوروبا وأمريكا ستمائة
وعشرين ملياراً من الدولارات كما ذكرت مجموعة البنوك الفرنسية العربية"
اليوباف".
أين
النظام العالمي الجديد بالنسبة لأمة تخرج ممزقة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً من
حربين ضاريتين سيقت إليهما؟ لقد تجاوزت خسائر هاتين الحربين السبعمائة مليار
دولار، وتحطمت فيهما جل الإنجازات الإنمائية للكويت والعراق وإيران منذ الاستقلال،
وأثقف كاهل الدول المحيطة بهم بأعباء مالية لا يعلم إلاّ الله متى ستتخلص من
آثارها، بينما لم يتكلف الغرب في هذه الحروب شيئاً يذكر، بل على العكس، كانت
بالنسبة له مكسباً بجميع المقاييس العسكرية والسياسية والاقتصادية والنفسية ولا
نلومه فهو يخدم مصالحه ويحميها.
يقول
المفكر الفرنسي جان بيار شاتيلو عندما سئل علن النظام العالمي الجديد:" هذا
المصطلح خال في رأيي من أي مضمون، فهو مجرد تغطية.. والأحسن أن نتكلم عن نظام
أمريكي جديد."
لن
يكون هناك نظام عالمي جيد تجد الشعوب في أفيائه العدل والإخاء والحرية إلاّ إذا
تخلص المسلمون مما أسماه المفكر الراحل مالك بن نبي في كتابه القيم " وجهة
العالم الإسلامي" " القابلية للاستعمار" وليس هذا فقط فقد فاته أن
يكتشف قابلية أمتنا للاستبداد والخداع أيضاً.. لن يكون هناك نظام عالمي جديد إلاّ
تحت راية الإسلام، وإن من الجهل بالإسلام والخيانة للأمة أن نعتقد أو نروج لنظام
تسود فيه القيم العظيمة على أيدي " المغضوب عليهم" و"
الضالين."
تعليق:
هذه المقالة التي نشرت قبل أكثر من تسع
سنوات ما زالت تصدق على وضعنا الحالي وقد تطور الأمر في الغرب بابتداع مصطلح جديد
غير النظام العالمي الجديد وهو (العولمة) ثم قسمت العولمة إلى عولمة اقتصادية
وعولمة سياسية وعولمة ثقافية وغير ذلك. ومن الطريف أن المؤتمر العالمي الأول حول
الإسلام والقرن الواحد والعشرين الذي عقد في ليدن بهولندا في صيف عام 1996 جعل
العولمة أحد محاوره، وما زال الحديث دائراً حول العولمة حتى إنه كتبت كتب حولها
فهناك كتابات غربية تنتقد العولمة منها على سبيل المثال كتاب فخ العولمة
والسؤال الذي لا بد أن يسأل دوماً أين دور المسلمين في هذه المصطلحات الغربية؟ هل
نكتفي نحن بأن نكون مستهلكين (وأحياناً أقول بفتح اللام: مُستهلَكين) لهذه
التقليعات الفكرية الغربية.
فكأن
الغرب في إنتاج هذه المصطلحات كما قال المتنبي عن شعره (أنام ملء عيوني عن شواردها
ويسهر القوم جراها ويختصموا) وقد أصدر الغرب قبل أعوام مصطلح (صراع الحضارات)
وحبّرت مئات الصفحات في الحديث عن هذا الصراع الذي ابتدعه صموئيل هتنفتون.
إن
العالم بحاجة إلى أن يعود المسلمون إلى إسلامهم فيجعلوه واقعاً في حياتهم السياسية
والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وفي الوقت نفسه يجب عليهم أن يثبتوا حضورهم في
المنتديات الثقافية العالمية ليرشدوهم إلى الإسلام دين العدل الحقيقي والمحبة
والتسامح.
تعليقات
إرسال تعليق