جئت إليها عام
1388هـ (1968م) متلهفاً وخرجت منها عام 1439ه ـ(2018م) متلهفاً، والتلهف الأول غير
التلهف الثاني وبين التلهفين تلهفات.
كنت متلهفاً
المرة الأولى للحصول على بعثة دراسية من وزارة الدفاع لدراسة الطب أو الهندسة بعد
أن تسلم والدي رحمه الله برقية من ابن عمه العقيد صلاح بن محمد مطبقاني، وبعد
تقديم الأوراق اللازمة ومقابلة أحد الشخصيات المسؤولة في وزارة الدفاع وهو العقيد
(لواء فيما بعد) صالح السديس وسألني ماذا كان يعمل والدك في الأردن قلت موظفاً في
الحكومة الأردنية، فأضاف ألم يكن تاجراً، قلت لا. وانتهت المقابلة ورُفض طلبي
وربما كان هناك أسباب أخرى لا أعلمها.
مكثت في بيت عمّتي
غالية (زوج العقيد) مدة التقديم التي كانت كافية لأتعرف على الرياض عام 1388هـ
(1968م) فعرفت في الرياض شارعين رئيسيين هما البطحاء والوزير (شارع الملك فيصل)
وعرفت أيضاً الملز وشارع المطار أو شارع الوزارات وفي الملز شارع جرير وشارع
الفرزدق. وعرفت أن نزهة أهل الرياض كانت في خريص التي تعد من قلب الرياض حالياً.
وكان في الرياض منطقة اسمها المرسلات حيث مرسلات الإذاعة، وأيضاً المغرزات حيث
كانت الأرض رملية وتغرز فيها السيارات. والمرسلات والمغرزات حيّان في الرياض اليوم
عامران بالسكان وبالمحلات التجارية والأسواق.
كانت المواصلات
في ذاك الزمن هي خط البلدة (سيارات التويوتا الكوستر وربما غيرها) والأجرة أربعة
قروش أما سيارات الأجرة (التاكسي) فالمشوار بريالين لا أكثر. ومن أسماء الأحياء في
الرياض في ذلك الزمن المربّع والشميسي والديرة والمقيبرة (والمزيبرة) وحلة العبيد
وقصر المصمك والوشم.
ولا أذكر كثيراً
من تلك الرحلة سوى فلل الضباط وكانت في نظر القادم من المدينة المنورة قصوراً وإن
كانت في الحقيقة بيوتاً صغيرة ولكنها أكبر بكثير من بيوتنا في المدينة المنورة حيث
كان مسكننا في المشرفية بيتاً من الإسمنت المسلح مكوناً من عدة غرف ليست كبيرة وفي
البيت بئر ولكنه مهجور وكنّا ننام على السطح بعد رشّه بالماء. وقد سكنّا قبل ذلك
في أحد بيوت وقف المطبقاني المبني من الطين والحجارة. أما أول بيت بنيناه فكان
مكوناً من 10في عشرة أي مائة متر ولكن كان لدينا دكّة خارجية وحوش زرعنا فيه من
الأشجار والنباتات ما يبعث البهجة في النفس.
ولا بد أن أذكر
أن السفر إلى الرياض كان في طائرات د ي سي 6 أو داكوتا، وهي طائرات مروحية وكان
لموظفي الخطوط وسائل في بيع المقاعد حتى يركب الراكب باسم شخص آخر سافر في رحلة
سابقة وبثمن أقل كثيراً من ثمن التذكرة العادية ولكن لا يسمح له بصعود الطائرة
إلّا في آخر لحظة وفي ذلك من الإهانة والإذلال ما فيها وقاتل الله الحاجة.
عدت من الرياض
بلا بعثة وإن كنت عدت إليها لإتمام إجراءات بعثة أخرى لدراسة الإدارة الصناعية
مبتعثاً من قِبل إدارة التعليم الفني، وكان معي في البعثة كل من حسين عبد الله أبو
الطالب وأحمد حسن سمباوة من مكة وحسين من المدينة المنورة. لكن لم تكن رحلة طويلة.
أما الرحلة
الثالثة للرياض فكانت بعد أن التحقت بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية واختلفت مع
مدير المعهد على تسجيل رسالة الدكتوراه فقد كان اختياري مواصلة لمشوار رسالة
الماجستير الذي كان في التاريخ الجزائري الحديث وبالذات في جمعية العلماء المسلمين
ولكن كانت قناعته أن هذا مثل "غنم جحا" ثم جاء المبرر أنني كنت أقدم
مادة السيرة النبوية الشريفة وصادف يوم 12 ربيع الأول فقلت للطلاب إن أردتم معرفة
الموالد وهذه الاحتفالات التي في نظر الجامعة من البدع فعليكم بالحضور في مزرعة
فلان والاحتفال فيما أعتقد مفتوح للجميع وتستطيعون أن تحكموا على الموالد بعد
المشاهدة والحضور. وبلغ الأمر إلى رئيس قسم الدعوة الدكتور علي الغامدي فاستدعاني
وقال ما هذا الكلام يا مازن كيف تدعو إلى البدعة في جامعة سلفية؟ قلت له لم أدع
للبدعة ولكني أخبرت الطلاب أنه في مكان ما في المدينة يقام فيها المولد وإن أحبوا
أن يتعرفوا على المسألة والحكم عليها بعد معاينتها. ولكني سأعود في محاضرة قادمة
فأخبر الطلاب بالحكم الذي تراه الجامعة في هذه المسائل. وأعتقد أن المسألة انتهت
هنا.
ولكن يبدو كما
قيل إنها القشة التي قصمت ظهر البعير أو كانت المبرر لإطلاق الطلقة الأولى في خصام
لم ينته بيني وبين المعهد (زمن عبد الله الرحيلي وحتى بعد رحيله) حيث إن المعهد
استخدم كل أساليب الكذب والخداع ليثنيني عن مواصلة البحث في الاستشراق الفرنسي بعد
أن أعددت الخطة ووافق عليها القسم ووصلت إلى مجلس المعهد.
لا شك أنني قلت
إن في المعهد استبداد ودكتاتورية وظلم، كما إن مدير المعهد كانت لديه قائمة
باتهامات يوجهها لمن أراد أن يُخرجه من المعهد فكان أن أصدر مدير الجامعة بعد أن
أرسل لجنة لتقصي الحقائق وكان فيها عبد الله بن عرفة ومحمد العجلان وكان تقريرهما
فيما علمت منصفاً، ولم يكن من توصياتهما نقلي إلى الرياض. ولكن البيئة الإدارية في
بلادنا لا تسمح للمرؤوس أن يعارض رئيسه أو يتحداه حتى لو كان محقاً ولذلك فلا بد
من معاقبة المرؤوس حتى يكون عبرة لغيره من الموظفين.
وفي مسألة حقد
الرئيس على المرؤوس عندما علم والدي بمشكلاتي مع العميد وأنه يأبى أن أواصل
الدراسة في فرنسا لتعلم اللغة وجمع المادة العلمية وكان من أعذار العميد أنه لا
يسمح لي بالسفر للبقاء في المدينة المنورة ورعاية والدي. فلما زاره أبي قال له
العميد أو المدير مازن يتهمني بأنني ديكتاتور ومستبد فقال أبي رحمه الله: أنت رئيس
ومازن مرؤوس وفي هذه الحالة يجب أن تكون متسامحاً كما قال الشاعر: لا يحملُ الحقدَ
من تعلو به الرتبُ ولا ينال العلا من طبعه الغضب. وانتهى اللقاء بعد أن أوضح له
أبي رحمه الله أنه لا يحتاجني وأن صحته وصحة الوالدة جيدة ولن يقف في طريق طلبي
للعلم. ولكن العميد بيت نية أن يحاربني ما استطاع إلى ذلك سبيلاً
فصدر الأمر
بنقلي إلى الرياض وأن أباشر خلال يومين أو ثلاثة وكأنني صندوق أو عفش أو متاع يمكن
نقله بهذه السرعة، وفي أمر النقل إن لم أباشر خلال خمسة عشر يوماً يعدونني
مفصولاً.
قبل النقل
التعسفي كنت قد زرت الرياض رفقة عدد من طلاب قسم الاستشراق وكان لدينا برنامج
زيارات حافل وهو من الأشياء التي صابني فيها فقدان الذاكرة الإرادي ولكن علمت فيما
بعد أننا تركنا انطباعاً جيداً لدى الجهات التي زرناها.
وفي عام
1407هـ حضرت في مركز الملك فيصل مع الزميل الدكتور عبد العزيز المحويتي ندوة الدراسات
العربية والإسلامية في فرنسا، وقد كتبت عنها تقريراً أثبته في كتابي عن اهتمام
المملكة الرائد بالاستشراق وفيه حديث عن كبار المستشرقين الفرنسيين وأعجبني
الأساتذة من الطرف العربي كانوا أقوياء وأنداداً للفرنسيين بل كالوا لهم التهم على
وضع تلك الدراسات في فرنسا وأعجبني الدكتور أحمد التويجري ومعروف الدواليبي
وغيرهما.
وأعود غلى
الحديث عن النفي الأول الذي كنت أقول فيه "فرّاش في المدينة المنورة ولا وزير
في الرياض" وكان أمر مدير الجامعة أن ينقل بحث الدكتوراه إلى قسم الثقافة
الإسلامية بكلية الشريعة ووافق القسم مشترطاً أن أدرس بعض المساقات العلمية وأختبر
فيها ، ولكن مجلس كلية الشريعة وقد وصلته دعاية مدير المعهد (خصمي اللدود) لم
يوافق على نقل الموضوع مع أنني شرعت بالاتصال بالدكتور السيد محمد الشاهد وبدأت
العمل في الرسالة. ولكن جاء رفض كلية الشريعة محبطاً لكل الخطط أن أكمل الدكتوراه
في كلية الشريعة قسم الثقافة الإسلامية. وعندما علمت برفض الكلية علمت أيضاً بأن
الدعاية ضدي قد كلفت مدير المعهد أكثر من الجهد الذي بذله في بحث الدكتوراه.
وكان قرار
النقل التعسفي إلى الرياض يقضي بأن أعمل في مركز بحوث الرياض التابع لعمادة البحث
العلمي وكان العميد حينذاك محمد بن عبد الرحمن الربيّع الذي استقبلني استقبالاً
حسناً وقد فهمت أنه لم يكن يستسغ مدير المعهد. وبدأت العمل بتنفيذ ما يُطلب مني في
وقت لم تتعوده العمادة والسبب أنني كنت متفرغاً بلا زوجة ولا أولاد وثانية لأنها
طبيعتي في الإنجاز وعدم المماطلة والتأخير مما أزعج الزميل الدكتور عبد العزيز عبد
الغني إبراهيم (من السودان ومتخصص في تاريخ الجزيرة العربية) فقال لي ذات مرة
لماذا تنجز ما يُطلب منك بسرعة فأنت تُظهرنا كسالى، وقال مضيفاً مثلك مثل المرأة
التي كانت تبكي بصوت جميل وقد سمعها الملك فقال إئتوني بها فلما حضرت قالوا لها
الملك أعجبه صوت بكائك فلا بد أن تبكي الآن، فقالت باللهجة السودانية ما بيّ وجد،
فقال الملك اضربوها حتى تبكي. وأنت يا مازن تريد العودة للمدينة المنورة ولكن تفعل
ما يجعلهم يتمسكون بك.
وفي هذه
الأيام كنت أعود للمدينة المنورة كل أسبوعين تقريباً وفي أوقات الإجازات وربما
سافرت إلى المدينة أكثر مما ينبغي مما أزعج العميد الربيّع، ولكني شعرت أن أولادي
لم يجدوا من يرعاهم حق الرعاية في غيابي حتى من أقرب المقربين لي.
وبحثت عن
شفاعة من كل حدب وصوب وادعى أناس أنهم قادرون على الشفاعة وهم ليسوا أهلاً لها،
قابلت عشرات الأشخاص دون جدوى، ولا أخفي سراً أن باباً لم أطرقه بطريقة صحيحة وهو
باب الدعاء.
وكان من
أسوأ اللحظات التي عشتها في الرياض في مقابلة مع وكيل الجامعة للشؤون التعليمية
صالح سعود آل علي (من حكّام حائل السابقين) وكان قد تقرر أو ثمة أخبار عن عودتي
للمدينة المنورة فقال لي: أعتقد أن هذه السنّة التي قضيتها في الرياض كانت كفيلة
بتأديبك، فقلت لا حول ولا قوة إلّا بالله، حتى أنت يا صالح. وقصده من التأديب أن
لا تعاند الرؤساء وكن مطيعاً بل خانعاً ذليلاً، ومعاذ الله أن أكون كذلك)
تعليقات
إرسال تعليق