دكتور مازن المطبقاني
مقدمة
مع أن هزيمة (نكسة) عام 1967 للجيوش
العربية في حربها مع إسرائيل كانت حدثًا كارثيًّا في التاريخ الحديث للبلاد العربية،
فإنها في الوقت نفسه كانت روحًا ساعدت في بعث الصحوة الإسلامية. وقد وَجَدَت
الحركات الإسلامية— التي حُوربت في مصر وسوريا ودول عربية أخرى— ملاذًا فيما كان يُسمَّى
بـ"الأنظمة الرجعية"([1])
أو الأنظمة الملكية المتبقية. وتساءل العرب عن السبب الذي أدى إلى هزيمتنا رغم
التصريحات الصاخبة لوسائل الإعلام المصرية: أن مصر لديها جيش لا يمكن هزيمته، وهي (في
الوقت نفسه) تقود هي الأنظمة الاشتراكية التقدمية. ظهرت العديد من الآراء لتحليل
تلك الهزيمة، كان أحدها: أن عدم الالتزام بتعاليم الإسلام هو السبب الرئيسي لهذه
الهزيمة. وبالطبع اعتقد صادق جلال العظم والشيوعيون العرب، وربما الملحدون، أن
الدين هو السبب الرئيسي. لكنَّ الكثيرين أدركوا أن هذه (الهزيمة) هي نقطة انطلاق
موجة جديدة من الحركة الإسلامية لتزدهر في جميع أنحاء البلاد العربية. ويُقال إن
السادات دعَّم الحركة الإسلامية في مصر، خاصة الإخوان المسلمين، لمحاربة الناصريين
والاشتراكيين، لكن هذا الدعم لهذه الحركات لم يكن كبيرًا؛ فالحقيقة أن هذه الحركات
كانت لا تزال على قيد الحياة، رغم الهجوم العنيف الذي واجهته في أثناء حكم الرئيس
المصري "جمال عبد الناصر".
عندما عدتُ
من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1973، كانت الحياة في المملكة العربية السعودية،
وخاصة في منطقة الحجاز، تتجه بقوة نحو التغريب (تقليد الغرب)، مما يعني أيضًا
أسلوب حياة أكثر مادية. وفي السبعينيات شهدت المملكة العربية السعودية أول طفرة
اقتصادية لها، مما أدى إلى امتلاء البلاد بمئات الآلاف من العمالة الوافدة
وعائلاتهم. وبدأ بعض السعوديين في تجميع الثروة، مما أتاح لهم المزيد من الفرص
للسفر خارج المملكة العربية السعودية. (في هذا الوضع) لا يمكن رؤية أي مؤشر على
أنه ستوجد صحوة إسلامية. ومع ذلك، كان هناك الكثير من الأمور التي تجري بعيدًا عن
المُلاحَظة؛ فأولئك الذين فروا من الأنظمة الثورية في سوريا والعراق ومصر تولَّوْا
مناصب تدريس في بعض المؤسسات السعودية. معظمهم، إن لم يكن جميعهم، ينتمون إلى
جماعة الإخوان المسلمين. وإلى جانب التدريس، أقاموا حلقات دعوة، وباشروا التدريس
الخاص، بل درسوا للشباب السعوديين، هذا بالإضافة إلى دور العلماء السعوديين الذين
شعروا بضرورة محاربة الدعوة إلى التغريب وعدم التمسك بالإسلام.
وفي عام
1972، أو قبل ذلك بقليل، بدأ الشيخ محمد متولي الشعراوي، (رحمه الله) العالم
المصري البارز (وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية حينها)، محاضراته في تفسير القرآن.
وكان حضور هذه المحاضرات أناس من جميع مناحي الحياة. عندما غادر السعودية أخذ
مكانه الشيخ محمد قطب، ولاقى شعبية مثل الشعراوي وربما أكثر
وفي هذه الأثناء وصلت شرائط كاسيت الشيخ عبد
الحميد كشك إلى السعودية في ذلك الوقت. يومها كانت متاجر شرائط الكاسيت تبيع شرائط
المطربين فقط، ولكن مع شعبية كشك، دخلت هذه المتاجر المنافسة عن طريق نسخ وبيع
أشرطة الشيخ كشك.
كان للصحوة
عوامل وأشكال أخرى، وتعتزم هذه الورقة دراسة هذا الموضوع على النحو الآتي، أولًا: تقديم
خلفية تاريخية للمناخ الفكري والديني في المملكة العربية السعودية قبل ظهور الصحوة.
ثانيًا: تسليط الضوء على الشخصيات الرئيسية التي كان لها تأثير مباشر على هذه الصحوة.
ثالثًا: تناقش الورقة حصار جهيمان العتيبي للحرم المكي الشريف. سننظر بعد ذلك في
الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لإبطاء هذه الصحوة، وكيف اكتسبت الحركة الإسلامية
مكانة ووصلت إلى ذروتها قبل حرب الخليج الثانية مباشرة.
ستعتمد هذه
الورقة اعتمادًا أساسيًّا على تجربتي المباشرة كطالب للتاريخ في جامعة الملك عبد
العزيز (1974-1986) ([2])،
ثم ككاتب ومراقب لهذه الصحوة حتى اليوم، إلى جانب هذا سأشير إلى مصادر أخرى تحدثت عن
الصحوة الإسلامية في المملكة العربية السعودية.
الجزء الأول
خلفية تاريخية
لطالما
أعلنت المملكة العربية السعودية تمسكها بالإسلام، وكانت في صراع قوي مع القومية
والعلمانية والشيوعية. المعركة الرئيسية كانت بينها وبين النظامين المصري والبعثي عن
طريق الكتب والصحف والمحطات الإذاعية. وقد وَزَّعت السعودية كتيبات وكتبًا على
الحجاج خلال موسم الحج. ألّف سيد قطب وأخوه محمد رحمهما الله بعضًا من هذه الكتب. وربما
كُلِّف بعض المؤلفين بتأليف بعض الكتب، مثل كتاب "عمر حليق" عن الموقف
الحقيقي للكتلة الشيوعية تجاه القضية الفلسطينية، الذي يوضح كيف كانت هذه الكتلة داعمًا
قويًّا لقيام إسرائيل وبقائها. ([3])
ومع ذلك، وفي
الوقت نفسه، كانت السعودية تمر بعملية طويلة- ولكن مؤكدة- من التغريب والتحديث.
هذا التغريب يسميه بعض الكتاب في الوقت الحاضر "التنوير''، وقد ذكر أحد هؤلاء
الكتاب أمثلة قليلة على ذلك مثل: إنشاء قسم في جامعة الملك سعود للآثار، وعرض
أفلام في بعض مرافق الجامعة، وإقامة حفلات موسيقية وغناء. ووَصَفَ إدخال دورات تعليمية
في الثقافة الإسلامية أنها جزء من مقررات الجامعة لمحاربة التنوير. ([4])
وفي عهد
الملك عبد العزيز، أرسل عددٌ من عائلات سعودية بارزة أبناءهم للدراسة في كلية
فيكتوريا والكلية الأمريكية في بيروت وإلى مدارس أجنبية أخرى. ([5])
ثم بدأت المنح الدراسية إلى أوروبا والولايات المتحدة
الأمريكية في أوائل الستينيات من القرن الماضي بتشجيع كبير من شركة أرامكو على وجه
الخصوص.
. تقلص صرامة وجمود الحياة الاجتماعية بدأت الإذاعة السعودية بالسماح بالغناء. وفي مرحلة
معينة، شَجّعت المدارس أصحاب المواهب في الغناء. عندما أُدخِلت المسجلات الصغيرة إلى
السوق السعودية، حصلت كل أسرة تقريبًا على واحد منها أو أكثر. ثم ظهرت مشغلات
الأسطوانات، ويمكنك أن تجدها في سيارات الأجرة، وظهر عدد كثير من المطربين.
بعد فترة
وجيزة من عام 1950، ومع إطاحة المصريين بالملك فاروق وإنشاء أول جمهورية في مصر،
انقسمت الدول العربية إلى فئتين رئيسيتين: ما سُمِّي الثوار "التقدميين"
و"الرجعيين" المتخلفين عن ركب الحضارة؛ فأصحاب وصف "التقدميين"
اتسموا بكونهم منفتحي الذهن وأكثر تحضرًا وصدقًا، في حين كان الرجعيون منغلقي الذهن،
ومتخلفين، وفاسدين، ومنحطين. ولسنوات عديدة بعد ذلك توقعت الشعوب العربية الإعلان
عن اتفاق جديد يعلن إقامة نظام جديد يحارب الرشوة، والاستبداد، والديكتاتورية. لكن
في معظم الحالات، لم تختلف الأنظمة الجديدة كثيرًا عن الأنظمة السابقة. وبدأت هذه
الأنظمة حملة قوية ضد الحركات الإسلامية، وتحديدًا ضد الإخوان المسلمين في مصر
وسوريا والعراق؛ فسُجِنَ النشطاء المسلمون أو أُعدِموا أو فروا إلى أوروبا أو إلى النظام
الملكي المجاور [المملكة العربية السعودية].
تطور
العداء بين المملكة العربية السعودية وما سُمي الأنظمة "التقدمية" مثل
تلك الموجودة في مصر على وجه الخصوص. كان لجمال عبد الناصر إعلام قوي للغاية،
استخدمه لشن حرب كلامية ضد المملكة العربية السعودية والأردن والعراق واليمن (قبل
أن يصبحا جمهوريتين). مَنحت المملكة العربية السعودية اللجوء لعدد من كبار المثقفين
من البلدان المسماة "التقدمية"، مثل سوريا ومصر والعراق. على سبيل
المثال لا الحصر: محمود الصواف وعلي الطنطاوي ومحمد قطب وسعيد حوّى وناصر الدين
الألباني، وغيرهم كثيرين أقل شهرة وقدرات من هؤلاء. أطلق هؤلاء المثقفون، إلى جانب
عدد قليل جدًّا من السعوديين، حملة ضد القومية والعلمانية والشيوعية. وفي الوقت
نفسه، حاولت الحملة دحض الاتهامات بأن السعودية ودولًا أخرى ملتزمة بالإسلام
موالية لأمريكا. كتب باشميل في أحد كتبه يشكك في الادعاء بأن السعودية حليفة
لأمريكا بقوله: "هل صحيح أن أمريكا وبريطانيا تهتمان كثيرًا بإحياء الحركات
الإسلامية وتقويتها، وأيضًا دعم وتمويل من يدعو إلى الإسلام؟ الوحدة مع الدولار
والجنيه الإسترليني؟"([6]) ثم
يجيب بقوله: إن الذين طرحوا هذه الادعاءات هم أول من يعلم أنها خالية من أي حقيقة،
وأن الحركات الإسلامية هي أبعد الجماعات في أذهان الأمريكيين أو البريطانيين. لو
كتب بشميل هذا الكتاب بعد وفاة عبد الناصر، لكان ذكر على الأرجح أن القوى الغربية،
وخاصة أمريكا، دعمت الحركات الثورية؛ لأنها كانت جريئة في إدخال التحديث أو التغريب.
([7])
قبل عام
1967 ببضع سنوات وبعدها بقليل، كانت هناك جامعة واحدة فقط في المملكة العربية
السعودية وواحدة أو كليتان لتدريب الطلاب ليصبحوا معلمين. عندما تأسست جامعة الملك
عبد العزيز عام 1969، كانت مجرد مؤسسة خاصة ذات مصادر محدودة. لذلك، كان هناك
ارتفاع كبير في إرسال الشباب السعودي إلى الخارج، إلى الدول الأوروبية والولايات
المتحدة الأمريكية. أرسلت هذه البعثات وزارات مختلفة، مثل: وزارة التربية والتعليم
ووزارة الدفاع ووكالات حكومية أخرى. حققت أرامكو (الشركة العربية الأمريكية للنفط)
سجلًّا حافلًا بعدد الطلاب الذين أُرسلوا لمواصلة تعليمهم العالي في الولايات
المتحدة الأمريكية أو أوروبا.
من الواضح أن هذه الجهود لإرسال هذا العدد الكبير من
الطلاب (بعضهم مع عائلاتهم، لكن معظمهم من البكالوريوس) كان لها تأثير على المجتمع
السعودي في السنوات القادمة.
([1]) الباحث هنا يشير إلى ما كان يقوله الإعلام المصري عن المملكة
العربية السعودية ودول ملكية أخرى. (المترجم)
([3]) عمر حليق: "موسكو وإسرائيل عرض مدعم بالوثائق لجهود موسكو
في خلق إسرائيل وإبقائها"، الدار السعودية للنشر، جدة، 1967. (المترجم)
([5]) لا يزال خريجو كلية فيكتوريا السعوديون
يتصل بعضهم ببعض اتصالًا منتظمًا في جدة وربما في مدن سعودية أخرى.
([7]) بعد وفاة عبد الناصر صدرت كتب تُظهِر كيف دعمت وكالة المخابرات المركزية
الثورة المصرية، ومثال على هذه الكتب: كتاب "لعبة الأمم" لمايلز
كوبلاند، انظر أيضًا برنارد لويس. "الإسلام والغرب"، أكسفورد: مطبعة
جامعة أكسفورد، 1993، ص: 31. [ولمحمد جلال كشك (وهو ليس
قريبًا للشيخ كشك) كتابان في هذا الصدد، الأول: "ثورة يوليو الأمريكية"
والثاني: "كلمتي للمغفلين" المترجم.]
تعليقات
إرسال تعليق