مقدمة الطبعة الأولى
الحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة
والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذه وثيقة عن التنصير في الخليج العربي،
أصلها بحث علمي تقدم به صاحبه إلى إحدى الجامعات المشهورة في الولايات المتحدة
الأمريكية ونال به درجة الماجستير في دراسات الشرق الأدنى عام 1977م.
مالي وللتنصير؟ فهو موضوع له رجاله المختصون
فيه. لكن هل المسالة تحتاج إلى اختصاص؟ التنصير هو دعوة الناس للدخول في النصرانية.
فإن لم يدخلوا فيها فليخرجوا عن دينهم وبخاصة المسلمون.
عثرت على هذه الوثيقة في أثناء قيامي بجمع
مادتي العلمية لبحثي للدكتوراه الذي لم يتم بعد (حين صدرت الطبعة الأولى) وأخبرت
بها الأستاذ يوسف رشاد فأشار علي بترجمتها وحثني على ذلك فجزاه الله عني خيرا.
هل
التنصير يحتاج الى اختصاص؟ الجواب نعم ولا!
أذكرمن أيام طفولتي البعيدة في الأردن أنه
كان هناك مدرسة تدعي "مدرسة الأخوات". وهذه المدرسة تفتح أبوابها في
الإجازات لأبناء المسلمين والنصارى على السواء، وكانت تقدم لهم التسلية. وتمتاز
المدرسة بأنها ذات ترتيب لم نعهده في مدارس المسلمين وتجهيزاتها راقية. وهذه وسيلة
قوية جدا لجذب أبناء المسلمين. لكني نفرت منها في تلك السن الصغيرة لأنني وجدت
أبناء النصارى يعاملون معاملة مميزة وكأن هذه حصلة لازمتني منذ ذلك الوقت أن أمقت
الجور مهما قل ومهما كانت صورته. وأحمد الله أن والديّ لم يصرّا على ذهابي إليها
لوعي والديّ رحمهما الله بخطورة مثل هذه المدارس.
وبعد
سنوات ابتعثت إلى الولايات المتحدة للدراسة الجامعية ولما وصلت نيويورك وجهني
الملحق التعليمي إلى معهد اللغة الإنجليزية في لوس أنجلوس. وفي مطار لوس أنجلوس
استقبلني شخص بعثه معهد اللغة لمساعدتي في السكن وفي الأمور الأخرى التي يحتاج إليها
القادم الجديد إلى أمريكا.
ونزلت
أحد الفنادق القريبة من المدرسة، وأخذت أتردد إلى نادٍ للطلبة الأجانب يشرف عليه
هذا الرجل وفي أحد لقاءاتنا عرض علي السكن معه في منزله فرحبت بالفكرة لأنها تتيح
لي فرصة تعلم اللغة، ومعرفة الحياة الاجتماعية والأسرية الأمريكية عن قرب.
وفي أثناء سكني عند هذه العائلة علمت أن رب
الأسرة قضى في إيران أحدى عشرة سنة منصراً حتى أتقن اللغة الفارسية، وأنه عاد إلى
لوس أنجلوس ليرأس كنيسة الباب المفتوح وعقد اتفاقاً مع معهد اللغة يقوم بموجبه
باستقبال الطلاب الأجانب ومساعدتهم والاهتمام بهم في نادي الطلبة الأجانب الذي يقع
بالقرب من معهد اللغة. وهنا عزمت على مغادرة بيته فتهيأ ذلك بعد نقاش دار بيننا
حول قضية فلسطين تشعب فيه الحديث إلى الإسلام والنصرانية فعلمت منه أنه ينكر نبوة
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فأعلنت له قراري بالانتقال إلى سكن آخر. وفعلت.
ولم تكن هذه آخر صلة لي بالتنصير فقد عدت
إليه من خلال بحثي في تاريخ الجزائر الحديث فعلمت أن القدر يقودنا أحياناً إلى
أمور تظل كامنة في النفوس فحمدت الله على ما يسر لي من الاطلاع على هذه الوثيقة
وتقديمها.
ماذا في هذه الوثيقة؟
إنها تؤرخ للبعثة العربية الأمريكية
وتقوِّم جهود هذه البعثة من الداخل. تتحدث عنها من نقطة الانطلاق وتواكب مسيرتها
عبر أربعة وثمانين عاماً. تروي قصة بناء المستشفيات والمدارس ومراكز توزيع الإنجيل.
وتحدثنا عن علاقة المنصرين بالشعب العربي المسلم في الخليج وفي الجزيرة العربية.
تحدد أهداف البعثة التنصيرية وما حققته من هذه الأهداف وما فشلت في الوصول إليه
وأسباب هذا الفشل.
كذلك
تحدثت الدراسة بإيجاز عن علاقة البعثة بالمكان الذي انطلقت منه في أمريكا وهو
مدينة نيوبرونزويك بولاية نيوجيرسي ثم تبنّى مجلس البعثات الخارجية للكنيسة
الإصلاحية الأمريكية لهذه البعثة. ومن هذه الصلة تنطلق الدراسة لتؤكد وجود روابط
قوية بين البعثة والاستعمار الغربي والدول الغربية. كما تشير إلى انتشار المذاهب
المادية الملحدة في الغرب حتى إن هذا الغرب لا يستحق أن يطلق عليه الغرب النصراني
أو الحضارة النصرانية كما اعتاد أوائل المنصرين أن يطلقوا عليهما.
أحسست أثناء الترجمة أو بعد إنجازها أن هذه
الرسالة تفتقر إلى عمق المعالجة والتحليل في قضايا كثيرة أو أنها ينقصها تفاصيل
وحديث في بعض جوانب عمل البعثة لكني لم أجدها. فعلى سبيل المثال لا تتعرض الدراسة
مطلقاً للمناهج الدراسية في المدارس التنصيرية ولا تذكر شيئاً عن حوار المنصرين مع
المسلمين. وشاء الله أن أجد كتاب الدكتور عبد المالك التميمي الموسوم
التبشير في منطقة الخليج العربي يشير إليها بشيء من العمق والتفصيل
فهو كتاب يستحق أن يقرأ وبخاصة أنه يقدم دراسة للتنصير في الخليج قديماً وحديثاً
ويعرض لنشاطاته بالتفصيل الذي ينقص هذه الوثيقة. كما أن هناك رسالة علمية للدكتور
سعيد حارب المهيري بعنوان" الغزو الفكري في الخليج العربي" تناولت
التنصير بصفته واحداً من أساليب الغزو الفكري وقد بذل صاحبها جهدًا عظيماً يستحق
التقدير والثناء
هذه
الوثيقة تؤرخ للبعثة الأمريكية وتطوراتها ولكن يبقى على المسلمين أن يدركوا خطورة عملها،
وأن يتخذوا الموقف المناسب منها وقد قيض الله من الباحثين والعلماء المسلمين من
كتب في التنصير. ولا يفوتني أن أذكر كتيباً هو في قيمه سِفْر جليل ألفه الشيخ
الأستاذ يوسف العظم رحمه الله وعنوانه أين محاضن الجيل المسلم؟ ينذر
الأمة فيه بأخطار التنصير وعمق تخطيطهم وتدبيرهم ومكرهم وينادي بضرورة الاهتمام
بأبناء المسلمين وحمايتهم من الوقوع في مخالب التنصير.
وكما تعرض المشرق الإسلامي من اندونيسيا إلى
الجزيرة العربية لموجات التنصير فكذلك كان للمغرب الإسلامي العربي حظه من هذه
الفتنة والبلاء وقد أحببت أن أعرض بعض نماذج وعي إخوتنا في المغرب لمخاطر التنصير
للتذكير بأننا أمة واحدة وجسد واحد "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء
بالحمى والسهر" وإن كان الاستعمار والجهل قد مزقا هذه الروابط فلابد من
إعادتها ولابد أن يتصدى لإعادة هذه الروابط من" نوّر الله بصيرته ووهبه الإدراك
وأبعد عنه ضيق الأفق".
يقول
أحد الباحثين في حركة التنصير في شمال أفريقيا: "وحركة التبشير من الحركات
التي يجب أن يقف عندها الباحث والمؤرخ على الخصوص. لا لفهم وتفسير الأحداث
والعقلية السائدة فحسب بل يجب أيضاً فهم الأيدلوجية الدينية المسيحية التي كانت
وراء تطلعات الكنيسة بأفريقيا....
وتحدث
الكاتب عن ارتباط التنصير بالاستعمار الغربي وأن بينهما هدفا مشتركا
هو:"القضاء على الطابع الاسلامي لهذه الشعوب خدمة للمسيحية وللإنسانية"[1].
وشاء الله أن تظهر جمعية العلماء المسلمين
الجزائريين عام 1349هـ (1931م) بعد مرور قرن على احتلال الجزائر فعملت على محاربة
التنصير بعد أن سبرت غوره وعرفت أهدافه ووسائله وفي ذلك يقول رئيس الجمعية الشيخ
البشير الإبراهيمي:"الجزائر مركز ممتاز لجماعات التبشير المتعددة التي يصب
عليها المال هباء والتي تتخذ من المال أدوات للتنصير، والاستعمار الفرنسي مسيحي
بالطبع ... ولذلك نجده خلف كل حركة تبشيرية يحميها وييسر لها ويمهد السبل
للانتشار، ومن هذه السبل الشيطانية خلقه للمجاعات في وطن كله خير وفير فماذا عملت
الجمعية؟ يضيف الإبراهيمي قائلا "فرأت أن تيار التبشير المؤيد بأسباب القوة
لا يقاوم بالأقوال وإنه لا يقاوم إلا بتقوية المعاني الدينية في النفوس، ومنها
القيام بحق الله في البائس الفقير والرحمة باليتيم والبر بالمساكين، وشرحت للأمة
المنافذ التي يتسلل منها هؤلاء المبشرون..." [2].
بل
إن جمعية العلماء شاركت الأمة الإسلامية وبخاصة الهيئات الإسلامية التي كانت تدرك مخاطر
التنصير في مقاومته. ومن ذلك قيام صحيفة جمعية العلماء "الصراط"
بإعادة نشر النداء الذي صدر عن مشيخة الأزهر يحذر المسلمين من معاهد التنصير
واستمرت وازدهرت وكأن نداء الأزهر صيحة في واد أو كما قال الشاعر:
لقد أسمعت إذ ناديت حيا
..................
ولا بأس أن نعيد بعض كلمات النداء:
أيها المسلمون
السلام عليكم ورحمه
الله وبركاته.
فقد قامت هيئة كبار العلماء وقادة الرأي في
الأمة يحذرونكم من دور التعليم التبشيرية التي ظاهرها خدمة العلم وباطنها فتنة
المسلمين عن دينهم.
أيها المسلمون.
.......إن من أدخل ولده
أو قريبه هذه الدور وهو يعلم لم يكن الله ليغفر له ولا يهديه سبيلا.[3]
ويواصل النداء تحذيره
من هذه المدارس وما تجره على الأمة من فتنة وبلاء.
وها
أنا أقدم لكم صورة من الجهد الكبير الذي بذلته البعثة العربية الأمريكية طوال
أربعة وثمانين عاما لتجعل النصرانية دينا مقبولا لا دينا محرفا وإنها وإن لم تنجح
في إدخال عدد من المسلمين إلى النصرانية فقد نجحت من وجوه أخرى.
ولذلك أترك هذا العمل المتواضع في ترجمة
الدراسة للقارئ فإن أصبت فلله الحمد والمنة وإن أخطأت فرحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مازن صلاح
المطبقاني
المدينة
المنورة، المعهد العالي للدعوة الإسلامية
قسم الاستشراق
تعليقات
إرسال تعليق