يشكو الكثيرون منّا أننا نواجه هذه الأزمات بردود
الأفعال بدلاً من أن نكون نحن أصحاب الأفعال ونترك لغيرنا ردود الأفعال؟ مهما كان
الأمر فإن قضية العلاقة بين الإسلام والغرب بنصرانيته ويهوديته يتطلب منّا وقفات
وقفات، وإنني في هذه السلسة من المقالات أود أن أتناول كيف يمكننا أن نرسم لأنفسنا
طريقة ونهجاً نسلكه في هذه المواجهة.
لم تبدأ المواجهة بيننا وبين الغرب مع أحداث 11
سبتمبر ولا مع سقوط الاتحاد السوفيتي(السابق) ولا بدأت مع ثورة الخميني في إيران
حينما ظهرت الكتابات الغربية حول ما أطلق عليه الإسلام المسلح (Militant
Islam)، بل بدأت العلاقة بين الإسلام والغرب منذ انطلقت
غزوة تبوك في العام التاسع الهجري حينما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك
الغزوة كانت لغزو الروم، ولعله كان من أهداف تلك الغزوة أن يبعد شبح الرهبة في
نفوس المسلمين من قوة الروم، وجاءت غزوة مؤتة كمرحلة ثانية في إبعاد تلك الرهبة من
إحدى القوتين العظميين في العالم حينذاك( الروم والفرس)
ثم بدأت العلاقة بمواجهات عسكرية حاسمة بين
المسلمين والروم كان النصر فيها حليف المسلمين ذلك لأن الجند الإسلامي كان يقاتل
لإعلاء كلمة الله بينما كان الحكم الروماني في البلاد العربية حكماً استعمارياً
قائماً على استغلال تلك الشعوب والسيطرة عليها والاستبداد بها، ولو لم تخرج جيوش
المسلمين بأوامر الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لكانت جيوش الروم
سبّاقة إلى المدينة المنورة وما كان المسلمون لينسوا حديث المصطفى صلى الله عليه
وسلم ( ما غُزي قوم في عقر دارهم إلاّ أصابهم الذل) وقد ذكرت السيدة عائشة رضي
الله عنها كيف أن موت الرسول صلى الله عليه وسلم كان فرصة للروم والفرس واليهودية
والنصرانية والمجوسية لترفع رأسها بحثاً عن فرصة للانقضاض على دولة الإسلام. ولكن
كان أبو بكر رضي الله عنه لهم بالمرصاد. فأرسل جيش أسامة ثم واجه المرتدين وبعد
ذلك أرسل الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس والروم.
وبعد عدة قرون من انتشار المد الإسلامي في أنحاء
المعمورة وأصبحت الدولة الإسلامية هي القوة العظمى عالمياً – عظمى في العدل
والحضارة والازدهار العلمي-فكرت أوروبا في الهجوم على العالم الإسلامي. فكانت
الحروب الصليبية التي باءت بالفشل ولكن كانت فرصة كبيرة للاحتكاك بين المسلمين
والأوروبيين.
وعرفت أوروبا أن الانتصار العسكري على المسلمين لا
يمكن أن يكون أبدياً فلا بد لهذه الأمة أن تنهض ويظهر فيها صلاح الدين يجمعها على
الإيمان والتقوى والعلم فتنهض نهضة حقيقية فتحارب المحتل الأجنبي، ولكن لاستمرار
السيطرة على العالم الإسلامي لا بد من استخدام سلاح العلم والمعرفة ولا بد للغرب
أن يعرف الإسلام والمسلمين معرفة حقيقية ربما تكون أكثر من معرفة المسلمين أنفسهم.
ومن هنا بدأت أقسام الدراسات العربية والإسلامية أو ما كان يسمى بالاستشراق في
الظهور والانتشار في الغرب لدراستنا.
لسائل أن يسأل لماذا أقحمت دار الأرقم بن أبي
الأرقم رضي الله عنه في عنوان المقالة الماضية عن الإسلام والغرب؟ إن هذه الدار
التاريخية العظيمة كانت المكان الذي انطلقت منه الدعوة في بدايتها وفيها تم
التخطيط لها لسنوات وسنوات. فيها تم التخطيط للهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة
وفيها أسلم معظم الصحابة الأوائل وكان التخطيط الدقيق لمن يهاجر إلى الحبشة ومن
يبقى ومن يكون المتحدث باسم المهاجرين...ونحن بصدد أن نبحث في علاقتنا مع الغرب
فعلينا أن نهتدي بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في التخطيط البعيد المدى،
والتخطيط الاستراتيجي للسنوات القادمة. نعم إن ما قامت به بعض المؤسسات والهيئات
والجهات الرسمية والخاصة أمر مهم ولكننا بحاجة إلى تخطيط طويل المدى.
وإنني
هنا أعترف أن دراستي للاستشراق ولعلاقة الإسلام بالغرب ومتابعة الدراسات العربية
والإسلامية في الجامعات الغربية ومحاولة متابعة نشاطات الجامعات الأوروبية
والأمريكية وأحياناً الإسرائيلية أتاحت لي الفرصة للتأمل في كيفية قيام العلاقة
بيننا وبين الغرب.
عقد
مؤتمر في بيروت بعنوان "الصور النمطية للعرب" فكان من بين الحضور باحث
عربي مسلم متخصص في الاستشراق وقد قدم بحثاً عن مواجهة الصور النمطية من خلال
الإنترنت. فكان أول المعلقين أستاذ متخصص في الدراسات الإسلامية من جامعة واشنطن
بمدينة سياتل الأمريكية فأشاد بتخصص الباحث العربي المسلم في مجال الاستشراق.
وتساءل كم من العرب والمسلمين في الوقت الحاضر من يهتم بهذا الجانب الحيوي الحساس
بالنسبة للعرب والمسلمين والأوروبيين والأمريكيين على حد سواء.
إن
الغرب بدأ بدراسة الإسلام منطلقاً من الكنيسة التي هالها الإقبال الكبير من
النصارى على الدين الجديد فصدرت القرارات البابوية للتأكيد على أهمية دراسة اللغة
العربية والدين الإسلامي، وشرعت المؤسسات الكنسية في تشجيع ترجمة معاني القرآن
الكريم إلى اللغة اللاتينية والتي تم نقله بعدها إلى اللغات الأوروبية الحديثة
انطلاقاً من الترجمات اللاتينية.
وكتب
عن الإسلام الكثير الكثير، وكان الهدف تشويه صورة الإسلام والمسلمين حماية للنصارى
(بزعمهم) من دخول الدين الإسلامي، ثم إعداداً لمنصريهم للانتقال إلى البلاد
العربية الإسلامية لممارسة مهنة التنصير بين أبناء الدين الإسلامي. وقد بلغت
الوقاحة والقبح أشدهما فيما كتبه النصارى في القرون الوسطى الأوروبية حتى ظهر من
كتابهم المعاصرين مع نعى على الغرب أن يكون على هذه الدرجة من الفجاجة وقلة العقل
أن يطعن في الدين الإسلامي بتلك الأساليب الخالية من الأدب ومن هؤلاء ما كتبه
ريتشارد سوذرن في كتابه (صورة الإسلام والمسلمين في أوروبا في العصور الوسطى) وما
كتبه كذلك نورمان دانيال في كتابه (الإسلام والغرب)
وما
كادت عصورهم الوسطى تنتهي وتبدأ أوروبا في نهضتها العلمية والثقافية والفكرية حتى
عادت تبحث عن التراث العربي الإسلامي لتستقي منه النور والهداية والإرشاد؟ حتى إن
تسمية دراسة العالم الإسلامي بكلمة استشراق لا تدل كما قال الدكتور السيد الشاهد
في بحث له في المعاجم الأوروبية حول كلمة استشراق(Orientalism) أن هذه الكلمة لا تعني الشرق الجغرافي أو الفلكي ولكن تعني البحث
عن النور والهداية والرشاد والتوجيه والتعليم. والشرق ارتبط بظهور الضياء بينما
الغروب معناه العتمة والظلام.
وهم
في مسعاهم للنهضة درسوا التراث الإسلامي دراسة مستوعبة فعرفوا كيف نهضت الأمة
الإسلامية بل كان أبناؤهم في وقت من الأوقات يفتخرون بارتداء الملابس الإسلامية
وإتقان اللغة العربية بل وصل بعضهم إلى قول الشعر باللغة العربية بينما لم يكن
يجيد اللغة اللاتينية. وقد اعترض بعض رجال الدين عندهم على هذا التقليد للمسلمين،
وما أشبه الليلة بالبارحة غير إن المقلدين من أبنائنا لم يتعلموا اللغات الأوروبية
حتى يصلوا إلى قول الشعر بها أو فهمها فهماً عميقاً كما تعلم أبناؤهم لغتنا.
تعليقات
إرسال تعليق