بعد
مواجهات عنيفة بين الأمة الإسلامية والغرب النصراني في الحروب الصليبية حتى كان
سقوط الملك الفرنسي لويس التاسع أسيراً في مصر بعد فشل الحملة الثامنة التي قادها،
وفي أثناء أسره فكر طويلاً في أن المواجهة العسكرية مع الأمة الإسلامية لا تجدي
ولذلك لا بد من سلوك سبل أخرى لمواجهة هذه الأمة والتغلب عليها.
ومن
هنا بدأ بالفعل تفكير الغرب النصراني بالغزو الفكري عن طريق بعثات المنصرين
والقناصل الأجنبية الذين كانوا في الظاهر يعملون في المجال السياسي والدبلوماسي
والاقتصادي ولكنهم في الوقت نفسه يسعون إلى نشر الفكر الغربي ومحاربة الإسلام.
وجاءت
حملة نابليون ومعها عدد كبير من العلماء والمفكرين وحملت معها أول مطبعة تطبع
الكتب باللغة العربية. ورغم أن حملة نابليون لم تدم أكثر من ثلاث سنوات لكنها تركت
آثاراً عميقة. فما أن جاء محمد علي حتى أحاط به المستشارون الإنجليز والفرنسيين
فاقترحوا عليه أن يرسل البعثات إلى فرنسا. وقد أرسل بالفعل عدة مئات من الشباب
المصري النابه ليتعلم في فرنسا في المجالات العسكرية والهندسية. ولكن المشرفين على
هذه البعثات اهتموا بأن يتأثر طلاب البعثات بالحياة الفرنسية وبالفكر الفرنسي
وبمحاربة الدين والعلمانية.
ولم
تكن مصر هي الدولة الوحيدة التي بعثت أبناءها إلى فرنسا فإن عدداً من الشباب
التركي والشباب المغربي والإيراني قد التحق بالمدارس الفرنسية. كما أن الحكومة
الفرنسية قامت بإرسال عدد من المدربين في المجالات العسكرية لتدريب الجيش التركي.
وقد حرص هؤلاء المدربون كما يقول المستشرق برنارد لويس على أن يصطحبوا معهم
بالإضافة إلى الكتب الهندسية والعسكرية كتباً أدبية لكبار الأدباء الفرنسيين.
هذه
نبذة موجزة عن الغزو الفكري وبعض أسبابه ومن أسبابه أيضاً أن الأمة التي تتعرض
للغزو تقوم بتقليد الأمة التي غزتها في عاداتها وأخلاقها وملابسها وطرق معيشتها.
وهذا الأمر يهم الغرب حتى يستطيع أن يجد أسواقاً لبضائعه وإنتاجه ليستمر في أخذ
المواد الخام من البلاد الإسلامية وإعادتها إلينا مواد مصنعة بأضعاف الثمن الذي
اشترى به المواد الخام.
وللغزو
الفكري نتائج خطيرة أن الأمة التي تتعرض للغزو تفقد شخصيتها وهويتها وبالتالي لا
يصبح لها كيان يستحق الاحترام والتقدير. ولما كانت الأمة الإسلامية أمة قوية سعت
الشعوب الأخرى وبخاصة الأوروبيون إلى تقليد المسلمين في لغتهم وفي ملابسهم حتى إن
أحد القساوسة اشتكى من أن الشباب النصراني أصبح لا يعرف اللغة اللاتينية وأصبح
يفتخر بمعرفته للغة العربية ويقول فيها الشعر. وأصبح يقلد المسلمين في ملابسهم وفي
أخلاقهم وطباعهم.
وقد
أثر الغزو الفكري في الأمة الإسلامية وما زال له تأثير كبير وبخاصة في الشباب الذي
يقلد الأزياء الغربية في الملبس وقد انتشرت في بلادنا المطاعم الغربية التي تقدم
الطعام السريع الغرب كما انتشرت الأغنيات الغربية. وقد أصيبت الأمة في فكرها فقد
انتشرت كثير من الأفكار المنحرفة كالشيوعية والمادية والإلحاد وانتشر في العالم
الإسلامي الوجودية وغيرها من الفلسفات التي تخالف الإسلام وثوابته في النظر إلى
الحياة والكون ومكانة الإنسان في هذا الكون والهدف من خلقه كما جاء في القرآن
الكريم.
وقد
كتب كثير من العلماء المسلمين في الغزو الفكري فقد رد الدكتور محمد عمارة على من
زعم بعدم وجود الغزو الفكري بحجة أن العالم أصبح قرية صغيرة بسبب وسائل الاتصال
الحديثة فلا حاجة لإقامة الحواجز بين الدول. والحقيقة أن الغزو الفكري حقيقة وإلاّ
لما أنفقت الدول الأموال الطائلة لنشر ثقافتها وفكرها عن طريق الإنتاج الفكري
والسينمائي وعن طريق المراكز الثقافية التي تتبع سفارات تلك الدول.
وهاهي
فرنسا رغم خروجها من كل مستعمراتها –تقريباً- لكنها لا تزال حريصة على نشر
اللغة الفرنسية تحت ستار تشجيع الفرنكفونية. وفرنسا نفسها اشتكت من الغزو الثقافي
الأمريكي بالرغم من أن الدولتين تشتركان في أصول ثقافية وعقدية وتاريخية. وقد
أصدرت فرنسا قرارات بعد السماح باستخدام اللغة الإنجليزية. كما قامت بريطانيا
بتشجيع دور السينما لعرض الإنتاج السينمائي الأوروبي وأن لا يطغى الإنتاج الأمريكي
على السينما الأوروبية.
إن
من أهم وسائل محاربة الغزو الفكري هو التأكيد على الشخصية الإسلامية والاعتزاز
بالإسلام عملاً بقول الله عز وجل (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) ولنعد إلى القرآن
الكريم الذي اهتم بتوضيح خصائص المؤمنين وصفاتهم من الصدق والأمانة والعفة والتقوى
وغير ذلك من الصفات، وبين صفات الكفاّر والمنافقين. فمتى ما تحققت الشخصية
الإسلامية كان في ذلك تحصيناً للأمة من أي غزو كان سواء فكرياً أو عسكرياً. ويمكن
أن يتم هذا الإعداد عن طريق التربية الصحيحة في المنزل وفي المدرسة ومن خلال وسائل
الإعلام المختلفة.
بارك الله فيك استاذ مازن
ردحذف