إغراء،
إغراء في كل مكان
غالباً ما يتقمص الناقد الاجتماعي في
دوره كرسول لما هو خير للمجتمع وأحياناً يتحدث بنبرة أكثر جدية كأنه "نبي
اجتماعي". وعلى خلاف الأنبياء التقليدين فإن النبي الاجتماعي يرن الجرس ويحذر
مجتمعه برسائل تحذيرية. وهذه الرسائل من التنبيه والتحذير لا تلقى بالطبع قبولاً
حسناً دائماً. والطبيعة البشرية كما هي نرحب بالرسائل التي تريحنا وتهدئنا وليس
التي تزعجنا. وهذا يودي لظهور نوع مختلف من النبي الاجتماعي-الذي تجعل صفاته
العفوية والجذابة شعبياً. ومعظم الذين يظهرون على التلفاز ووسائل الإعلام
الجماهيري الأخرى ذات الانتشار الواسع الذين يقدمون الحكمة الشائعة ينتمون لهذا
الصنف المسمى "الأنبياء الزائفين"
سأقوم بدور النوع الأول من أنبياء
المجتمع وأبدأ هذا الكتاب بوصف أمريكا على أنها "مجتمع الإغراء".
وبتسميتها كذلك فإن التعبير يتجاوز كل النقاشات التي لا علاقة لها حول أمريكا
وتتجه مباشرة كما آمل إلى قلب وروح ما هي أمريكا اليوم. قد نحب أن نسمع أن أمريكا
هي "أرض الأحرار" أو "بلد الشجعان" أو "أرض الفرصة"
أو بعض الفرص والأوسمة والمساواة والعدل، وحرية الرأي والدين والعديد من الأشياء
الأخرى. ولكن مثل هذه الأوصاف التقليدية الصحيحة إلى حد ما لا تساعدنا في مهمتنا
لأن هدفنا هو كشف الحجاب عن جوهر المجتمع الأمريكي لا قيمة لها لأنها من الأمور الباعثة
على السرور التي في جوهرها لا تقول شيئاً.
لتبسيط الأمر فنحن أحرار أن نُغرى ونختار
ما يغرينا.نحن "شجعان" بإبداع مع الإغراء، وإنها "الفرصة"
للإغراء التي هي مساواتنا وعدالتنا وحريتنا. ويمكننا أن نضيف أن أمريكا ماهرة جداً
بالإغراء –ربما الأمهر بين كل المغريين الذي وجدوا والأحسن والألمع من بيننا هم
في هذه اللحظة منشغلون في عملية إغراء إخوتهم الأضعف بطريقة أو بأخرى.
ولنواصل الحديث حول الفكرة فأهم شيء أن
الإغراء هو قلب أمريكا وروحها، إنه الهواء الذي نتنفسه والحلم الذي نحلمه، إنه
الحياة نفسها التي نعيشها كل يوم وكل ليلة وما بينهما. ففي كل يوم نرى أن الإغراء
هو كل ما على التلفاز وفي الإنترنت وفي رفوف مراكز التسوق وعلى أرضيات الأسواق
الكبرى وعلى اللوحات وفي كل الفصول وفقرات إنجيل الحياة الطيبة في أمريكا. ففي كل
مكان في أمريكا يوجد شخص يحاول إغراء آخر أو يحاول منع شخص من الوقوع في الإغراء
(نسبياً جهود ضعيفة هنا) أو يحاول مقاومة الإغراء بكل الطرق المعروفة لمقاومة
الشيطان (الأضعف) وفي كل مرة نرى أو نشم أو نسمع أو نلمس أو نحس بشيء فالأقرب أن شخصاً
الإغراء. فكل ما يمنحنا السرور أو الحزن أو الإثارة أو خيبة الأمل –كل نطاق الحياة
والموت في أمريكا-الأقرب أنه يتعلق بجزء من عملية الإغراء. فلم يسبق المجتمع
الأمريكي أي مجتمع أو أي فرد منه أن يكون محاصراً بمقل هذه الأموع والتنوعات من
الإغراء ، إنه الإغراء الذي يجعل حياتنا حيوية وبموتنا يتوقف الإغراء عن اعتدائه
علينا. الأغراء هو أمريكا وأمريكا هي الإغراء وقد قال يوما أحد رؤسائنا السابقين
"الأعمال هي الأعمال" ونستطيع أن نضيف أمريكا هي مهمة الإغراء
فما إذن إغراء المجتمع الأمريكي؟
طبيعة
الإغراء
إن
ضخامة قوة المستهلك الأمريكي تحيّر عقولنا وتدفع قدرات المغري العقلية، ففي اقتصاد
بلغ عشرة تريليونات أي عشرة زائد 12 صفر تجعل أي شيء في تاريخ البشرية يبدو صغيراً
فثمة سبعون بالمائة يعني – 7 زائداً 12 صفر- خاضعة لإنفاق المستهلك. وهذا أضخم
كمية متوفرة من الثروة سجلت في تاريخ التجربة البشرية. إن التطلعات لإمتلاك جزء من
هذا المال يُبقي العقل التجاري في حالة يقظة حادة والآليات التجارية في ألمع
حالاتها والتطلعات التجارية في أوسعها وأبعدها.
وهذه هي الإمكانية فمن بين السبعة
التريليونات فلنقل أن نصفها مخصص لضروريات الحياة-مثل الطعام والإسكان والعلاج
والمصروفات التعليمية. وعلى الرغم من أن التنافسية التي يسعى وراءها المؤسسات
المهتمة فإن نصف هذا الإنفاق أقل غرابة من حيث الطريقة التي ينفق بها لأنه أساساً
بسبب طبيعته الحتمية . فإن عادات إنفاقنا أكثر توقعاً ومكبوحة إذا كانت تتعلق
بالضروريات الروتينية.
ولكنه النصف الآخر من الكمية التي تخضع
لأكبر حرب إغرائية تم الدخول فيها في كرتنا الأرضية التي يطلق عليها الإقتصاديون
المستلزمات الهامشية والتي تعني دخلنا التقديري وأنه ينفق بأي طريقة يرغبها
المستهلك. والكلمات الدالة هنا هي "أي طريقة" و "رغبات" فقد
يكون هناك منطق أو عقل في الطريقة التي ننفق أموالنا على الطعام أو الإسكان أو
التعليم وهكذا. ولكن الطريقة التي ننفق بها بقية دخلنا ليس لها لا نظام ولا منطق.
ففي بنجلاديش الرجل الذي لديه عشرة دولارات لينفقها على معيشة أسرته يستخدم كل منظقه
حكمته الاحتماعية ومهاراته الحسابية ليوازن إنفاقه الإلزامي. وسواء كان هناك إغرء
أو لا على الرجل أن ينفق عشرة دولارات التي تعتمد عليها حياته وحياة أسرته. أما في
أمريكا فالرجل الذي يملك ألف دولار لينفقها على مستلزماته الهامشية ليس مجبراً أن
يستخدم الحكمة أو العلم لكيفية إنفاق ماله. يستطيع أن ينفقها بأي طريقة يريد.
يستطيع أن ينفقها بغباء إن أراد ذلك. يستطيع أن ينفقها مثل طفل عمره خمسة أعوام في
متجر للحلويات إن أراد ذلك. فهو بعد تلبية ضروريات الحياة فكل الباقي إنما هي
لرغباته العشوائية. فعندما تكون رغباتنا هي التي تملي علينا كيف ننفق نرى أن
المستلزمات الهامشية هي التي تتحكم.
والآن فإن رغبات الرجل الذي يملك ألف
دولار والتي يمكن أن ينفقها بأي طريقة على مستلزماته الهامشية إنما هو أقرب
للمعتوه أو الطفل منه إلى الرجل المتيقض حاد الذكاء الذي يبحث عن أفضل سعر في
المدينة. والآن رغباته وليس الضروريات التي يجب إشباعها فإن أمواله يمكن أن ينفقها
بأي طريقة يرغبها وملذاته هي التي يجب تلبيتها بأي طريقة يختارها لإنفاق ماله.
فيستطيع أن ينفق المائة دولار الأولى على برامج حاسوبية أو مباراة رياضية أو رحلة
إلى ديزني أو آلة جديدة أو دفعة أولى لقرص صلب لحاسوبه من بين احتمالات عديدة وذلك
لأن كل تلك الاحتمالات إنما هي مستلزمات هامشية بالنسبة له-وهكذا الاسم- فالكل
يعتمد على رغبته أو هواه أو قراره العفوي. وفي ملاحظة عميقة عن السخرية الأمريكية
فإننا نستخدم كل عبقريتنا لتحصيل المال ولكننا لا نستخدم أيا منها لإنفاقه.
ومن أجل فهم حجم الإغراء في أمريكا
وطبيعته تصور أن لدينا تريليون دولار في أيدي أولئك الذين تعمل عقولهم
ك"المعتوهين" أو "الأطفال" –من الناحية الاقتصادية-الخاضعين
لرغباتهم وهواهم أو الصدفة وعليهم إنفاق كل ذلك المال. هذا ما سوف يحرك المغرين أو
رجال الأعمال أو علماء نفس التسويق يقطين وينفقون كل حياتهم أو يعدون ذلك واجبهم
المقدس ليركضوا خلف هذه الثروة لينالوا نصيباً منها.
بالطبع فإن الإغراء يأتي في العديد من
الأشكال والأنواع في أمريكا كما يسمح بذلك عبقريتنا وإبداعنا. فهل نستطيع تعريف
الإغراءحتى نعرف ما نواجه هنا في أمريكا بصفته أكثر صفة اجتماعية مسيطرة هنا في
أمريكا؟ هل نستطيع؟
وهكذا يصبح تعريف ما الإغراء حقّاً ملحّاً
لأننا نعيش في عصر حيث تعني الرغبات الثقافية والوسائل الاقتصادية لتحقيقها
متداخلة بشكل محير ومتداخل. ففي عصر مضي للمجتمع الأمريكي كانت الرغبات الثقافية
محددة بدقة بالحقيقة البسيطة بأن وسائلنا الاقتصادية كانت محدودة تماماً ومقتصرة
على الضروريات الملّحة للمعيشة اليومية. وفي هذا السياق للإنسانية الأساسية قمنا
بتحديد حياتنا الشخصية ككل مقرونة بالبشر الآخرين بصفتها جوهرية لبشريتنا.
وإلى حد بعيد كان باقي العالم القديم
والعقليات الأكثر تقليدية بين الأمريكان وحتى اليوم لا زالوا يعرفون الحياة بالكفاف
والراحة والحياة المناسبة. ولكن الفكرة الملحة فيما بعد العيش بطريقة مناسبة
ومريحة إنما هو تبديد واستهلاك لا معني له للمادة والفكر. وفي ضمن سياق البقاء
والراحة والملاءمة فإن كل الأشياء في الحياة –سواء عالية أو منخضة شريفة أو مهملة
مقدسة أو مدنسة تناقش و قابلة للجدال ؟ وهكذا فالإنسانية عموما ًوحتى في أمريكا
تتخذ توجهاً نقدياً وجاداً وليس تافهاً ولا غريباً نحو مثل هذه الأمور. ونتيجة
لذلك فالإغراء في أكثر جوانبه النفسانية المتحكمة له دور صغير في مثل هذا الإطار
من الحياة. ولكن السياق الأمريكي المعاصر مع ذلك قد تجاوزت قالب البقاء والراحة
والملاءمة. فإن وفرة مصادرنا الاقتصادية قد أعطت تطلعاتنا الثقافية نطاقاً غير
محدود من المناورة. والآن نعرّف الحياة بصفتها سلسلة من التجارب المتعية والتي لا
علاقة لها لفكرة الحياة وحقيقة الحياة. وما نتخذه الآن بنظرة نقدية وبجدية هي
الأشياء التافهة والغريبة كما تميل إليه كل أمور المتعة. وهكذا ظهر مجتمع الإغراء
في أمريكا.
والآن نستطيع أن نعرف الأغراء هكذا: إنه أي شيء يفرض
علينا – شيء أو فكرة أو شعور- ليس له أي علاقة بالبقاء أو الراحة أو الملاءمة حين
نعيش حياتنا اليومية بصفتنا بشراً أي في مجتمع مع البشر الآخرين. وما الأشياء التي
تصنع مادة الإغراء في عقولنا؟ وبدون ترتيب معين هي الألعاب والترفيه وجمع الثروة
وترويج لقوة ونشاطات مشابهة أخرى التي لا تستلزم أي قيمة اجتماعية. وباختصار
نستطيع أن نقول أن الحياة في أمريكا- على الأقل جوانبها الأكثر إغراءً–مصنوعة من
اسعي وراء هذه النشاطات واحداً واحداً أو متعددة. لماذا هي موضوعات حياتنا وموتنا
وكل ما بينها؟
1- الألعاب فهي من خلال تعريفها وجدت كمصدر لاستهلاك طاقتنا الإضافية أو الوقت. وليس
لها علاقة بحقائق الحياة وهي البقاء-الراحة –الملاءمة والتي تقرب البشر بعضهم
لبعض. إنهم يفتقون القيم "الاجتماعية" لأن مثل هذه الأشياء تخدم الأهداف
العابرة للشخص المعزول. فالإغراءات تصيب الشخص في حالة العزلة فالإعلانات التي
تنتج بكمية كبيرة وتوزع ولكن التأثير يتحقق في العقلية الانعزالية وليس في الفضاء
العام أو في اجتماع المدينة. فكثير من الأشياء المرتبطة بالحاسوب أو مجرد الألعاب
للأطفال تصلح في هذا التصنيف. فعندما نلعب في أشياء مصنّعة نميل إلى عزل أنفسنا من
الآخرين وهو عكس الاعتقاد العام مثلاً فالبريد الإلكتروني لا يقرّب المتراسلين به
لأن البريد الإلكتروني ليس نوع من الاتصال البشري. فنحن لا نعطي أهمية لأي شيء
يظهر أو يختفي بمجرد ضغطة على زر. يؤدي البريد يقوم بعمل فني وهو أمر غير قابل
للنقاش حيث يقرب بين شخصين أو أكثر. إنه أداة مهمة لإدراة الأعمال أو ما يشبه
الأعمال. ومن ناحية العلاقات الاجتماعية إنها بعيدة جداً عن الرسائل اليدوية أو
المحادثات وجهاً لوجه. ودليل واضح لهذا أنه لا شيء جدي يحدث في العلاقات البشرية
عندما نُبعد الحاسوب من معادلاتنا الشرية وإنما تعاني الأعمال وللجدال ضد هذا
الإطار يجب على الواحد أن يبرهم أنّ نوعية حياة المجتمع الأمريكي(المصنوعة من
العلاقات الاجتماعية) قد تطورت بقدوم الحاسوب. وإنما الذي تطوّر هو الألعاب . ولكن
بسبب هذا العبث نفسه فإن الألعاب المرتبطة بالحاسوب وهو معظم ما نستخدم الحاسوب
فيه تؤدي كمية كبرى من نشاطات الإغراء سواء من المغري أو المُغْرى.
2- الترفيه ويعرّف باتساع أنه الجانب الأكثر سيطرة للإغراء في أمريكا لأنه ببساطة لم
يعد هدف الحياة البقاء والراحة والملائمة في المعنى الأساسي وبصفته نشاط خيالياً
كلياً ومفهوم وهنا يبدأ الترفيه وينتهي ويوجد كأمر حرفي. والترفيه كما نفهم
المصطلح اليوم حتى يختلف عن الراحة حين يكون الجسم متعباً. وبالاختلاف عن الراحة
والتي عادة يختلط معناه مع الترفيه فهي لا تغطي أي شيء ولا تعيد أي شيئ لنا. وذلك
لأن الترفيه أصبح صناعة كبيرة كما أصبحت أيضاً اهتماماً ثقافياً في أمريكا حيث
نميل للتفكير بها على أنها مشروع معقد ومكلّف. نميل إلى التفكير بالأحداث
الترفيهية الرائعة مثل مباراة الكرة الكبرى أو ليلة حفلة الأوسكار أو فنون ملايين
الدولارات المتعددة والعلوم والأشياء التكنولوجية الفائقة أو الألعاب والمؤثرات
الخاصة في الأفلام وعلى التلفاز وهكذا بصفتها ترفيه. ولكن لأن الترفيه موجود في
عقولنا فقط فأي شيء أو حتى لا شيء يمكن أن يعد ترفيهاً. إذا كان الواحد يحصل له
الترفيه من خلال أحد عشر رجلاً في كلا الجانبين من خط وهمي يتقدمون أو يوقفون
بعضهم بعضاً من التقدم إلى الأمام(يسمونها كرة القدم) فيمكنه أن يُرفّه عنه
بمشاهدة العشب ينمو أو السحب تتحرك في السماء
تعليقات
إرسال تعليق