جهود مؤسسات عربية وإسلامية ودولية في دعم حوار الحضارات:



1- ملتقيات الفكر الإسلامي بالجزائر:
انطلقت هذه الملتقيات الدولية في الجزائر منذ عام 1390هـ (1970م) بمبادرة من مالك بن نبي (1905- 1973م) رحمه الله، ويستضيف كل ملتقى نخبة من العلماء من جميع أنحاء العالم؛ مما يعد - في الحقيقة - منبراً عظيماً من منابر حوار الحضارات. ويقول الباحث الذي درس هذه الملتقيات إن طروحاتها «اتسمت بالجرأة والعمق، متجاوزة الحدود الإقليمية للجزائر؛ إذ إنها تمس العالم الإسلامي بأكمله». ومن القضايا التي تناولتها تلك الملتقيات: الدين والعلمانية، والاستشراق والتبشير، والغزو الثقافي، والاتجاهات والتيارات الأيديولوجية. وكانت الملتقيات تفسح المجال لجميع التيارات والأفكار.
2- مؤتمر حوار الحضارات الذي أقامته الجامعة العربية في 27 نوفمبر 2001م في القاهرة برعاية أمينها العام:
جاء هذا المؤتمر بوصفه أول مواجهة عربية رسمية للحملة التي استهدفت العرب والمسلمين عقب أحداث 11 سبتمبر 2001م. وفي خطابه أمام المؤتمر؛ طالب الأمين العام للجامعة العربية المفكرين العرب بتحديد الخطوات اللازمة للرد على هذه الحملة، في إطار التمسك بالهوية العربية والإسلامية، والحفاظ عليها.
3- المؤتمر الدولي عن حوار الحضارات والمسارات المتنوعة للمعرفة، الذي عُقد في القاهرة في 10 فبراير 2007م:
عُقد هذا المؤتمر برئاسة الراحل عبد الوهاب المسيري، وبمشاركة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وقُدِّم فيه ما يزيد على السبعين بحثاً من بلدان عربية مختلفة. ودارت بحوث المؤتمر جميعها حول العولمة وحوار الحضارات، وأحادية الثقافة، والصحة النفسية بين العولمة والعالمية، وضرورة تحرر المعرفة البشرية من التحيُّز، ومركزية الثقافة في هوية الإنسان، والعرب وخطاب العقلانية، والهوية والتعليم، وغير ذلك من المحاور المهمة.
4- مؤتمر حوار الحضارات الذي نظمته الأمم المتحدة في 11 نوفمبر 2008م:
حضرت هذا المؤتمر شخصيات سياسية رفيعة المستوى؛ جاء في مقدمتها بعض قادة العالم العربي، والعالم الغربي، وعلى رأسهم: خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، والرئيس الأمريكي (وقتذاك) جورج بوش، وخوان كارلوس ملك إسبانيا، وأمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، والرئيس اللبناني العماد ميشيل سليمان، والعاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين.
5- المؤتمر الدولي حول حوار الحضارات والتنوع الثقافي الذي أقامته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) في تونس بالتعاون مع المنظمة الدولية للفرنكوفونية في 2 يونيو 2009م:
افتتح المؤتمر الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، بمشاركة نحو 100 شخصية عالمية. وقال الرئيس التونسي في كلمته الافتتاحية: «إن الإنسانية في حاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى تأسيس شراكة دولية للحوار والتعاون والسلم والتنمية، تكرس التواصل بين جميع الأمم في كل مكان؛ بقطع النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة». وقال المدير العام للمنظمة الإسلامية عبد العزيز التويجري: «إن منظمته تأمل في أن يساعد المؤتمر في الخروج من دائرة الصراع الذي يهدد الحضارة الإنسانية المعاصرة، ويمهد للعدل والمساواة»، مؤكداً أن «الحوار خيار استراتيجي لبناء عالم جديد، وأن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وبروز أشكال من التمييز الديني، وتنامي آفة الإرهاب؛ عوامل من شأنها عرقلة الحوار بين الحضارات».
6- جهود الأردن في حوار الحضارات من خلال «مؤسسة آل البيت»، والجامعات الأردنية، وما عُرف بـ«رسالة عمان»:
قدم الباحثون في هذه الأوراق تعريفاً بمؤسسة آل البيت، والمؤتمرات والندوات التي عُقدت تحت رعاية هذه المؤسسة، ومنها - على سبيل المثال - تأسيس «المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية». وتحدثوا عن محاولات المجمع التقارب مع الحضارات الأخرى وتَعَرُّفها والتحاور معها. أمَّا «رسالة عمان» فقد قدم باحثان قراءة لمضمونها الفكري، وهذه الرسالة التي تم إقرارها في ليلة السابع والعشرين من رمضان سنة 1425هـ في عمان جاءت لتوضح للعالم: ما الإسلام وقضايا علاقة المسلم مع غيره. وقد أقر الرسالة ووقع عليها عدد كبير من علماء الأمة، وتبنتها كثير من المؤسسات الإسلامية الكبرى.
وكان البحث الثالث حول دور الجامعات الأردنية في دعم حوار الحضارات من خلال مناهجها ونشاطاتها المختلفة.
وتأكيداً لأهمية دور الجامعات؛ قَدَّمَ الباحث مازن مطبقاني، من المملكة العربية السعودية، ورقة حول وجوب قيام الجامعات العربية بتأسيس كليات وأقسام علمية ومراكز بحث لدراسة الشعوب والأمم الأخرى. وتحدث في ورقته عن أهمية المعرفة المتبادلة لترسيخ الحوار الحقيقي، وبَيَّنَ أن قصب السبق في معرفة الشعوب والأمم الأخرى كان لهذه الأمة، كما كانت تفعل قريش في رحلتي الشتاء والصيف، وكما نبَّه القرآن الكريم على ذلك في محكم آياته: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]. ثم جاءت الفتوحات الإسلامية لتؤكد أهمية ذلك الأمر، فكان أن انطلق الرحالة المسلمون يجوبون أقطار الأرض؛ يدرسون شعوبها وحضاراتها وأديانها وعقائدها، ومن أبرز الرحالة: ابن بطوطة، وابن حوقل، وابن فضلان، وابن جبير، وغيرهم. وكذلك كتب أسامة بن منقذ كتاباً رائداً في وصف الصليبيين وأخلاقهم وطباعهم.
ثم استلبت منا تلك المزيَّة شعوب وأمم أخرى، فبدأت دراسة الإسلام والمسلمين في أوروبا. ففي عام 1795م أُنشئت في باريس مدرسة اللغات الشرقية الحية، وأصبحت فرنسا موئل الاستشراق الأوروبي، وكان ذلك برئاسة المستشرق الفرنسي المشهور سيلفستر دي ساسيSilvester de Sacy (1758-1838م). بعد ذلك أسست بريطانيا الجمعية الملكية الآسيوية وتبعتها الجمعية الآسيوية الفرنسية، ثم الجمعية الاستشراقية الأمريكية، وغيرها من الجمعيات. أمَّا الحكومة البريطانية فَكَوَّنَتْ العديد من اللجان لدراسة ما تحتاج إليه بريطانيا من المختصين بالدراسات العربية والإسلامية والشمال أفريقية والأوروبية الشرقية. وبدأت أولى اللجان عملها مطلع القرن العشرين الميلادي (1903م)، ثم كانت اللجنة الثانية عام 1947م برئاسة الإيرل سكاربورو Earl Scarborough، والثالثة عام 1961م برئاسة سير وليام هايتر Sir William Hayter، ثم جـاءت الرابعـة عام 1985م برئاسة سير وليام باركرز Sir William Parkers. ؛ بل إن الحـكـومة البريطانية جعلت الدين الإسلامي موضوعاً استراتيجياً عام 2007م، ورصدت أموالاً ضخمة لدراسة هذا الدين ومتابعة أتباعه في أنحاء بريطانيا؛ بل كان من الدراسات المهمة: مقارنة وضع دراسة الإسلام في الجامعات البريطانية مع دراسة الإسلام في عدد من الدول الأوروبية، مثل: فرنسا وألمانيا وهولندا وتركيا.
وخلص الباحث إلى ضرورة أن تبادر الجهات الرسمية المنوط بها اتخاذ القرارات في البلاد العربية إلى إنشاء كليات وأقسام علمية ومراكز بحثية لدراسة الشعوب والأمم الأخرى.
ومن أبرز الأوراق التي أثارت جدلاً واسعاً: ورقة الدكتور خالد الجبر، من الأردن، الذي جاء إلى المؤتمر تملؤه الحماسة ضد أفكار حوار الحضارات أو تحالف الحضارات. ومن أبرز ما قاله: «إن حوار الحضارات قضية ابتدعها الغرب ليلهي بها الشعوب الضعيفة المستكينة اليائسة؛ بل إنه جعل حوار الحضارات وتقاربها قضية تتلهى بها تلك الشعوب الضعيفة؛ بينما الأقوياء يدعون إلى صدام الحضارات». ومما قاله أيضاً: «تُقَارِبُ الورقة حوار الحضارات بوصفه محاولة يائسة للتغلب على المشكلات الآنية الطارئة، ولاسيما في القرن العشرين من جانب، ومسعى لتوفير الحصانة للذات قبالة مسعى الآخر لتدميرها من جانب آخر، ولاسيما حين تحس الذات بخطر حقيقي قائم أو متوقع. ولم تكن دعوات الأقوياء لصدام الحضارات والضعفاء لحوار الحضارات، أو الثقافات، غير تجسيد لعلاقات قائمة على الإحساس بالقوة والتعالي من جانب، والضعف والتخاذل من الجانب الآخر». وأشار إلى أن هذه الحوارات ينبغي لها أن تركز على المستقبل أكثر من تركيزها على الحاضر والماضي. ثم تناول الدكتور الجبر بعض القضايا التي تتحاور الأمم أو تختلف حولها، مثل: قضية المهدية، والمعارك الكبرى التي ستقوم في نهاية التاريخ، أو نهاية الزمان، والإعداد لها والتحضير لوقوعها.
ومن القضايا التي اهتم بها حوار الحضارات - وكذلك تحالف الحضارات أو تعارف الحضارات -: قضية التسامح والمناهج الدراسية. ونال هذا الموضوع اهتمام أكثر من باحث. ومن هذه البحوث ما قدمه الدكتور محمد الحوامدة، من الأردن، عن «دور المناهج الدراسية في حوار الحضارات من خلال نشر ثقافة التسامح والحوار مع الآخر»، وقد درس الباحث كتب التربية الاجتماعية المقررة في التعليم الأساسي الأردني باحثاً عن درجة «اهتمام كتب التربية الاجتماعية والوطنية - للصفوف الأول والثاني والثالث والرابع في المرحلة الأساسية - بنشر ثقافة التسامح والحوار مع الآخر، ومدى مسايرة محتوى هذه الكتب من قيم ومعارف، ومواكبتها للتغيرات والتحولات الراهنة؛ لجعلها قادرة على التعامل مع متطلبات التنمية بشكل إيجابي وفاعل».
كما قام باحث آخر بدراسة صورة الآخر في كتب التربية الإسلامية لمرحلة التعليم الثانوي في مدارس الأردن، واستشهد بالآية الكريمة عن اختلاف الخلق، وهي قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَـجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ü إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118-119]. ومن القضايا التي تتعلق بالحوار بين الحضارات: تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها؛ فمن خلال تعليم اللغة العربية يمكن أن نقدم الحضارة الإسلامية للآخر، وأن نطلعه على خصائص اللغة العربية وأساليبها الفريدة؛ بما يمنحه القدرة على النفاذ - من خلال اللغة - إلى الحضارة الإسلامية بمادتها النبيلة ومبادئها السامية.
وكان من بين موضوعات المؤتمر: التدريب على المناظرة في المدارس بصفتها وسيلة لتعلم الحوار والتفاهم. وأشار الباحث الماليزي ياسر بن إسماعيل - من قسم اللغة العربية بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا - في بحثه الموسوم: «المناظرة وسيلة للتعايش بين الأفراد والشعوب والحضارات» إلى إبداعات الحضارة الإسلامية في مجال المناظرة التي كانت تقام في كل مكان، وبخاصة في قصور الحكّام والأمراء. وأشار إلى أن المناظرة لها شروطها التي ينبغي للطرفين أن يلتزما بها، وأنها تختلف عن المجادلة التي يحاول كل طرف فيها أن يستعلي ويتغلب على الطرف الآخر؛ بينما تختلف أهداف المناظرة من حيث كونها تسعى إلى تقريب وجهات النظر والوصول إلى الحقيقة. ودعا إلى إدخال مواد في المراحل الدراسية المختلفة - من التعليم العام إلى التعليم الجامعي - لتعليم المناظرة وتدريب الطلاب عليها. وقد أشاد أحد الحضور بالموضوع، وذكر أن المناظرة كانت سائدة عندما كان الحكام على درجة عالية من العلم والاهتمام بالعلماء والمتعلمين، ثم تراجعت المناظرة في ظل تراجع الحريات، وأنه لا يمكن أن تنجح المناظرة دون توافر الحرية الحقيقية. كما نبه على أن المدارس الثانوية في الولايات المتحدة الأمريكية - على سبيل المثال - تشجع طلابها على المناظرة في بعض الدروس.
لمحات من المؤتمر:
- عُقِدَ هذا المؤتمر برعاية الأمير الحسن بن طلال، وألقيت كلمته نيابة عنه، وجاء فيها أن الثقافات تتعدد حتى تصل إلى ألف ثقافة؛ بينما الحضارة واحدة وإنسانية. والحقيقة أن هناك من يعترض على مثل هذا الوصف؛ من حيث إن الحضارة تتعدد؛ ففارقٌ بين حضارة تُبنى على أساس من الوحي والهدي الربّاني، وحضارات يغلب عليها الطابع المادي.
- على الرغم من قوة تناول الدكتور خالد الجبر مسألة كون حوار الحضارات ناتجاً من ضعف العالم العربي الإسلامي وقوة الغرب؛ إلا أن هناك من اعترض بأن الغرب استغل فكرة الدعوة إلى حوار الحضارات فأنشأ المراكز والمؤسسات والهيئات الدولية وأنفق عليها، وكانت له اليد الطولى في هذا الحوار. والمطلوب منا أن نبادر بقوة إلى حضور المؤتمرات والندوات التي تتصل بحوار الحضارات.
- كانت هناك ملاحظة بأن حوار الحضارات لم يُعن به العناية الكافية في العالم العربي؛ بل اتُّخِذَ مجالاً للتمثيل الرسمي؛ مما أسفر عن تقديم أشخاص من العالم العربي والإسلامي ليسوا مؤهلين ـ حقيقة ـ للمشاركة في مثل هذه المنتديات الفكرية. بما يعني أن الشللية والمحسوبية غلبت على بعض المشاركات العربية والإسلامية.
- نبه المؤتمر على كثير من الأبعاد الغائبة في حوار الحضارات، وهو الهدف الأساس من المؤتمر، ومن ذلك: دراسات الأديان، واللغة العربية وتعليمها لغير الناطقين بها، وكذلك الكتابات الإبداعية ودورها في نشر ثقافة الحوار في الداخل وفي الخارج.
- لا يقتصر حوار الحضارات على المؤتمرات والندوات التي تحمل هذا العنوان؛ فإن كل نشاط أكاديمي وعلمي وفكري وثقافي يلتقي فيه ممثلون عن الثقافات والأديان المختلفة هو جزء من حوار الحضارات.
- نالت الورقة التي قدمها ممثل مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، عن ضرورة قيام الجامعات العربية بالاهتمام بدراسة الشعوب والأمم الأخرى، قبولاً من مدير جامعة الإسراء والمسؤولين. وهي الورقة التي نبهت على ضرورة التفكير الجاد في إنشاء مراكز بحثية وأقسام علمية لدراسة الشعوب الأخرى. ولعل بعض الجامعات الأردنية تدرس هذه القضية في خططها المستقبلية، وهو ما ينبغي للجامعات السعودية أن تفكر فيه بالتعاون مع وزارة الخارجية، ووزارة الثقافة والإعلام، ووزارة التجارة والصناعة، وغيرها من الهيئات والمؤسسات التي تحتاج إلى متخصصين في دراسة الشعوب والأمم الأخرى.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية