السيرة النبوية والتاريخ الاسلامي في كتابات المستشرقين

    
   

     يبدأ تاريخ الأمة الاسلامية بالسيرة النبوية الشريفة، فهي أول تطبيق عملي للدين الاسلامي عقيدة وشريعة وأخلاقاً وسلوكاً. ولا بد للمسلمين أن يعتنوا بسيرة نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم. وهم قد فعلوا ذلك فلم تكتب سيرة نبي مرسل ولا ملك ولا عظيم قوم كما كتبت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمعظم أحداثها تجدها في كتب الحديث الشريف الذي نال من عناية العلماء مالم تعرفه أمة من الأمم قبل الأمة الاسلامية ولا بعدها. وبالإضافة الى ذلك فإن كتاب الله عز وجل قد أورد كثيراً من وقائع السيرة النبوية بالتفصيل وأضاف الى ذلك بعض اللمحات عن الحالة النفسية للرسول صلى الله عليه وسلم مما لا يمكن لأحد علمه الا سبحانه الذي يعلم السر وأخفى.
    وتوالت الكتابات في السيرة النبوية الشريفة وتسابق العلماء لينالوا هذا الشرف. ولما بدأ النصارى الاهتمام بالإسلام كان من أول ما فعلوه بعد ترجمة معاني القرآن الكريم الكتابة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فظهرت الكثير من الكتابات، وكانت في البداية غاية في الوقاحة وسوء الأدب مما نكف قلمنا عن الكتابة فيها. وقد جاء من المستشرقين المعاصرين من انتقد أسلافهم في ذلك؛ ومن هؤلاء المستشرق ريتشارد سوذرن في كتابه (صورة الاسلام في العصور الوسطى) وكذلك كتاب نومان دانيال (الاسلام والغرب)
     وقد تناولت كتابة المستشرقين سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من ثلاثة محاور:
أولا: شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه.
ثانيا: أحداث السيرة في العهد المكي والعهد المدني.
ثالثا: تفسير أحداث السيرة.
   وفي هذه المحاور الثلاث تعددت الأخطاء المنهجية في الكتابات الاستشراقية، وقد تناول كثير من العلماء المسلمين المعاصرين الكتابات الاستشراقية بالنقد والتفنيد. ويمكن إجمال الأخطاء الاستشراقية فيما يأتي: التشكيك في أحداث السيرة النبوية دونما دليل أو لمواقف مسبقة فينطلق المستشرق بحثاً عن أي أثر من دليل ولو كان ضعيفاً أو موضوعاً ليؤيده مع عدم الاهتمام بما أثبته علماء الحديث المسلمون من أحداث. أما الخطأ الثاني فهو محاولة تفسير أحداث السيرة وفقا لأهوائهم أو لمواقف سلبية مسبقة. والخطأ الثالث النفي الكيفي لأحداث السيرة دونما دليل أو برهان
    ولو تركنا جانباً الكتابات الاستشراقية التي ظهرت في العصور الوسطى(الأوروبية) فأن الكتابات التي صدرت حديثاً ليست بأفضل حال من السابقة وإن قلت نسبة الفحش والبذاءة في الكتابات المعاصرة. ولعلهم تيقنوا أن القارئ المعاصر لا يقبل مثل هذه الكتابات. وهذه الكتابات السيئة لا تنفي مطلقاً وجود كتابات تتسم بشيء من الاعتدال والانصاف. وقد استطاع الباحثون المسلمون المعاصرون في ردودهم على المستشرقين الاستعانة بكتابات مستشرقين آخرين. ولكن مما يجب الحذر منه أن بعض المستشرقين -كما قال العلاّمة الندْوي- يذكر عشر محاسن حتى يقنعك باعتداله وإنصافه ثم يفتري فرية كبيرة على السيرة تنسبك كل ما ذكره من محاسن سابقة.          
    ومن الأسماء المشهورة في عالم الاستشراق جوستاف فيل الذي كتب (محمد وحياته ((1843) والمستشرق اليوس سبرنجر (1861) وتيودر نولدكه المستشرق الألماني الذي تخصص في دراسة القرآن الكريم فقد زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم" كانت تنتابه نوبات عنيفة من الانفعال جعلته يظن انه تحت تأثير إلهي ويظن أنه يتلقى وحيا." (محمد عبد الله شرقاوي، الاستشراق ص 136) والمستشرق اليهودي صموئيل مرجليوت في كتابه (محمد وظهور الاسلام) والمستشرق وليام ميور والمستشرق ماكدونالد والمستشرق هاملتون جيب في
كتابه:(المحمدية) الذي أعاد طبعه بعنوان(الاسلام)، والمستشرق مونتجمري وات في كتبه "محمد في مكة" و"محمد في المدينة" و"محمد رجل الدولة". وفيليب حتّي اللبناني الذي انتقل الى الولايات المتحدة الأمريكية وكتب باللغة الانجليزية زاعما أن المسلمين كتبوا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كما يرغبون أن تظهر هذه السيرة وليس كما هي في الحقيقة والواقع. :"وخلعوا على مؤسس ديانتهم وباني مجدهم كثيراً من التبجيل والتعظيم، ووضعوا لذلك أحاديث ونحلوه أفعالاً ليس له."(الشرقاوي، ص143)
   ولابد من ذكر المستشرق البلجيكي المتعصب جداً هنري لامانس فقد أنفق حياته للطعن في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان حجة لغيره من المستشرقين في انهم يجعلوه هدفاً لنقدهم فيقولون: انظروا ما فعل لامانس نحن لم نقل مثله ولا ربعه 000. وقد كتب عنه المستشرق الفرنسي الشيوعي ماكسيم رودنسون قائلا:" وقد كان هنري لامانس ممتلئا بالاحتقار الرهيب للإسلام ولمجده "الزائف" ولرسوله"الفاسق" "الداعر" ولعرب الصحراء الذين كانون في تقديره جبناء متبجحين بهبة مخربين."(الشرقاوي ص146-147)
    التاريخ الاسلامي في نظر المستشرقين
    وكما درس المستشرقون السيرة النبوية فقد كتبوا حول التاريخ الاسلامي في جميع عصوره حتى الوقت الحاضر. وقد خصوا عصر الخلافة الراشدة بكثير من افتراءاتهم لأنهم رأوا إذا كان طعنهم في السيرة غير كاف فهذه الفترة التي شهدت أفضل تطبيق للإسلام كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) كما شهدت هذه الفترة انتشار الفتوحات الاسلامية.
      وقد تركزت كتابات بعضهم على الطعن في شخصيات هؤلاء الصحابة الكرام، وفي ظنهم أنهم إذا شككوا في هؤلاء الذين نقلوا الاسلام الينا فإنهم بزعمهم يهدمون هذا الدين. وكانت أولى افتراءاتهم ان الوضع في الحديث الشريف قد بدأ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام:" من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
    وزعم بعض المستشرقين أنه ما أن لحق الرسول عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى حتى تآمر ثلاثة من الصحابة على اقتسام السلطة وتوارثها. وقد كتب هذا المستشرق توماس آرنولد المشهور عند كثير من المسلمين باعتداله في كتابه (الخلافة) ونسبه الى المستشرق الايطالي كايتياني ووصفه بانه من أعظم المؤرخين المعاصرين(له) وشكك المستشرق برنارد لويس بصحة الاسلام الأنصار وطمعهم في الخلافة.
    وعندما تحدث هؤلاء المتعصبون عن الفتوحات الاسلامية حاولوا تفسيرها انطلاقا من تاريخهم الاوروبي ونظرتهم المادية للأمور. فقد كانت الفتوحات في نظرهم بحثاً عن الغنائم والمكاسب المادية. كما وصفها مستشرق آخر بأنها كانت آخر موجات الهجرة من جزيرة العرب التي عرفت مثل هذه الهجرات في السابق حينما تضيق مواردها.
    ولا يكلف المستشرق نفسه البحث في حقيقة دوافع المسلمين في الفتوحات الاسلامية وهي نشر رسالة الاسلام الذي يدعو الى تحرير البشر من العبودية للإمبراطوريات السابقة بل من كل أنواع العبوديات، وفتح الطريق أمام دعوة الله عز وجل. وقد أثبت الفتوحات نفسها مدى بعد الغالبية العظمى من الجيش الاسلامي عن الطمع في الغنائم. وهذا جندي ينقل كنوز كسرى الى المدينة المنورة فيسلمها كما هي فيتعجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أمانته، فيقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" عففت فعفت الرعية، ولو رتعت لرتعوا" وكان جنود المسلمين " رهباناً بالليل فرساناً بالنهار" كما وصفهم أحد جنود الأعداء.
     وقد شكك المستشرقون في الجانب الإيماني الغيبي في الفتوحات فزعموا ان الدولتين الفارسية والرومانية كانتا على درجة كبيرة من الضعف وان جيش المسلمين كان يملك من القوة والعتاد ما يماثل جيوش هاتين الدولتين، بالإضافة الى معرفة العرب بالصحراء ودروبها. وكم هو جاهل هذا المستشرق الذي لم تقنعه كل الروايات التاريخية عن عدد جنود الجيشين الرومي والفارسي وقدرتهما العسكرية. أما المعرفة بالصحراء فما يقول في معركة القادسية في قلب فارس، او معركة الجسر أو معركة اليرموك، فمن كان يعرف البلاد أكثر، وهل هذه الأنهار تجري في الصحاري؟
      أما مراحل التاريخ الأخرى فقد كتب حولها المستشرقون كثيراً وقد اهتموا بالفرق الضالة المنحرفة فأكثروا من الكتابة عن الشيعة والاسماعيلية والحشاشين. وعد بعضهم المنافقين حزب المعارضة في دولة المدينة. ويتأسف أحدهم أنه لم يعثر على المصادر التي توضح له العبقرية السياسية والفكرية لزعيم فرقة الحشاشين، ويصفه بالبطل. كما كتبوا عن ثورة الزنج حتى ظهر من الحداثيين أتباع أدونيس من يربط نفسه بالقرامطة والزنج وغيرهم من رواد الفكر المنحرف في التاريخ الاسلامي.
   لا شك أن التاريخ الاسلامي ليس كله صفحة بيضاء نقية، فهو تاريخ بشر يصيبون ويخطئون أما أن ينسب إليهم ما لم يفعلوه او تلصق بهم تهماً باطلة أو تزيف نياتهم فيما عملوا فأمر لا يقبله العقل والمنطق، ولا تقبله الموضوعية التي يزعم المستشرقون أنهم روادها كما هم رواد البحث العلمي الموضوعي الذي يجب أن نتعلمه منهم.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية