الرد على شبهات المستشرقين ومن شايعهم من المعاصرين حول السنة -أحمد محمد بوقرين قسم أصول الدين – بالجامعة الأمريكية المفتوحة





المقدمة

ظهرت في بعض الفترات من تاريخنا الإسلامي فرق وطوائف منحرفة أنكرت السنة والاحتجاج بها ، فمنهم من أنكر السنة النبوية صراحة ودعا إلى نبذها بالكلية , زعماً منهم أنه لا حاجة إليها , وأن في القرآن ما يغني عنها  ، وفريق آخر  رأى الحجية في نوع منها دون غيره , وكلا الأمرين بلا شك انحراف عن جادة الطريق ولقد كان أول من تعرض لهذه المذاهب المنحرفة وردَّ على أصحابها ودحض شبهاتهم هو الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء حيث عقد فصلاً خاصاً في كتاب " الأم " ذكر فيه مناظرة بينه وبين بعض من يرون ردَّ السنة كلِّها ، كما عقد في كتاب " الرسالة "فصلاً طويلاً في حجية خبر الآحاد , وقد كادت تلك الطوائف التي أنكرت السنة جملة وطعنت فيها أن تنقرض ، حتى ظهرت فئة من المستشرقون و أشياعهم في بلادنا العربية و الإسلامية و الذين لم يألو جهدا في محاولة القضاء على الإسلام وهدم أصوله وأركانه ولقد بحث هؤلاء المستشرقون في كل جوانب الإسلام , فلم يغب عنهم أهمية السنة النبوية من حيث أنها المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن الكريم ، وفيها توضيحه وبيانه ، ولذا تناولوها بالطعن والتشويه وتلفيق الشبهات حولها, وخلال الفترة ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين كان الاستشراق في ذروته لأنه كان مدعوماً من قبل الحكومات الغربية التي كانت توفر له الأسباب المعينة على دراسة العلوم الإسلامية حتى يتمكن الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية ، فبحث هؤلاء في كل ما يتصل بالإسلام من تاريخ وفقه وتفسير وحديث وأدب وحضارة حتى غزت تلك البحوث العالم الإسلامي في مؤسساته الفكرية والتربوية ومناهج التعليم ، وكان العديد من المسلمين قد تتلمذوا على أيدي أولئك المستشرقين و قد نجح كثير من هؤلاء المستشرقين في التأثير على عقول بعض المسلمين ، فانخدعوا بكتاباتهم ودراساتهم حول الإسلام ، وهماً منهم أنها قامت على الموضوعية والحياد والإنصاف والتجرد في البحث العلمي ، ومن ثم اقتفوا آثارهم ، ورددوا دعاواهم التي لم يقيموا عليها أي بينة بل زادوا عليها من أنفسهم ، وكل هؤلاء وأولئك نفثوا سمومهم باسم البحث والمعرفة وحرية النقد وهم أبعد ما يكونوا عن العلم الصحيح والبحث القويم والنقد النزيه وبذلك جاءت كتابات هذا الفريق من تلامذة المستشرقين حول الإسلام عموماً والحديث النبوي خصوصاً لا تقلٌّ عن كتابات المستشرقين في إثارة الشبه والتشكيك في مصادر الشريعة الإسلامية .
وسنقوم بإذن الله تعالى في هذا البحث بالرد على شبهات هؤلاء المستشرقين ومن شايعهم
ونعرج قبل ذلك على تعريف السنة ثم نتحدث عن مفهوم الاستشراق وأهدافه ثم نختم بذكر بعض النتائج والحقائق التي تم التوصل إليها من خلال هذا البحث الذي نسأل الله التوفيق فيه والسداد.




الباب الأول:
التعريف بالسنة النبوية

أولاً: السنة في اللغة، هي: الطريقة، وهي السيرة حميدة كانت أو غير حميدة. ومن ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "(1)
ثانياً: السنة في الاصطلاح: هناك تعريف السنة النبوية عند المحدِّثون، وهناك تعريف السنة عند الأصوليون، وهناك تعريف السنة الفقهاء.
       أما علماء الحديث أو المحدِّثون فإنما يبحثون في السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإمام الهادي، النبي الرسول، الذي أخبرنا ربنا - سبحانه وتعالى - أنه أسوتنا وقدوتنا، ومن ثم فقد نقلوا كل ما يتصل به - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال وتقريرات، سواء أثبت ذلك حكما شرعياً أم لم يثبت. كما نقلوا عنه - عليه الصلاة والسلام - أخباره وشمائله وقصصه وصفاته خَلْقاً وخُلُقاً. وهذا ما قررته كتب الحديث، وأنتجته مجهودات المحدثين. ومن هنا فقد عرفوا السنة بأنها: " كل ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خَلْقِية أو خُلُقية، سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها ".
       وأما علماء الأصول، فإنما يبحثون في السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشرع الذي يضع القواعد، ويوضح الطريق أمام المجتهدين من بعده، ويبين للناس دستور الحياة، فاهتموا من السنة بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته التي تستقي منها الأحكام على أفعال العباد من حيث الوجوب والحرمة والإباحة، وغير ذلك.. ولذلك عرفوا السنة بأنها: (ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير ". مثال القول؛ قوله – عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات ).
ومثال الفعل، ما نقل إلينا من فعله – صلى الله عليه وسلم – في الصلوات من وقتها وهيئتها. ومناسك الحج وغير ذلك. ومثال التقرير؛ إقراره - عليه الصلاة والسلام - لاجتهاد الصحابة في أمر صلاة العصر في غزوة بني قريظة حيث قال لهم: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) (2) ففهم بعضهم النهي على ظاهره فأخَّر الصلاة فلم يصلِّها حتى فات وقتها، وفهم بعضهم أن المقصود حث الصحابة على الإسراع، فصلوها في وقتها قبل الوصول إلى بني قريظة. وبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعل الفريقان فأقرهما جميعا
       وأما علماء الفقه فيبحثون في السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا تخرج أقواله وأفعاله عن الدلالة على حكم من الأحكام الشرعية. ومن هنا كانت السنة عندهم هي: " ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمراً غير جازم". أو " ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير افتراض ولا وجوب". أو " ما في فعله ثواب، وفي تركه ملامة وعتاب لا عقاب ". وهي تقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة لدى الفقهاء.. وقد تطلق السنة عندهم على ما يقابل البدعة، فيقال: فلان على سنة إذا كان يعمل على وفق ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقال: فلان على بدعة، إذا عمل على خلاف ذلك. ويطلق لفظ السنة عندهم - كذلك - على ما عمل عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - وجد ذلك في القرآن المجيد أو لم يوجد، لكونه اتباعاً لسنة ثبتت عندهم، لم تنقل إلينا، أو اجتهاداً مجتمعاً عليه منهم أو من خلفائهم. لقوله - صلى الله عليه وسلم: - " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".
       هذه معاني السنة، أو تعريفاتها والمراد بها في مصطلح العلماء، وقد تبين لنا أن علماء كل علم من العلوم لهم اهتمام وعمل في السنة يتناسب مع اهتمامهم، ويحقق ما يهدفون إليه في علومهم، دون أن تتعارض هذه العلوم، فالصحيح أنها كلها في خدمة السنة النبوية وتيسير التعرف عليها والعمل بها، ومن أشرف أهداف القائمين على هذه العلوم هو جمع السنة النبوية وتمحيصها، وتنقيتها مما قد يكون دخيلاً عليها، ثم الدفاع عنها ضد الساغبين عليها، المعارضين لها، الساعين إلى تشويهها وطرحها.
وبعد أن أشرنا إلى تعريفات العلماء للسنة النبوية الشريفة ننتقل إلى الباب الثاني والذي نتحدث فيه عن مفهوم الاستشراق وبعض أهدافه.



الباب الثاني:
الاستشراق مفهومه وأهدافه

الاستشراق هو عبارة عن اتجاه فكري يعنى بدراسة حضارة الأمم الشرقية بصفة عامة وحضارة الإسلام والعرب بصفة خاصة، وقد كان مقتصراً في بداية ظهوره على دراسة الإسلام واللغة العربية فقط، ثم اتسع ليشمل دراسة الشرق كله، بلغاته وتقاليده وآدابه   فالمستشرقون إذن هم علماء الغرب الذين اعتنوا عناية كبيرة بدراسة الإسلام واللغة العربية، ولغات الشرق وأديانه وآدابه. ولقد كانت الأبحاث والكتب والدراسات التي كتبها هؤلاء المستشرقون عن الإسلام كبيرة جدا، وكانوا يهدفون من وراء هذه الكتب والأبحاث والدراسات إلى ما يلي ما يلي:
أولا: حماية الإنسان الغربي من أن يرى نور الإسلام، فيؤمن به، ويحمل رايته، ويجاهد في سبيله، كما كان من المسيحيين في الشام، ومصر، والشمال الإفريقي، وأسبانيا، من قبل، حين دخل الإسلام هذه الأصقاع، فدخل أهلها في دين الله أفواجا، وصاروا من دعاة هذا الدين الحنيف، وحماته والمنافحين عنه. بل أعجب من ذلك أيضًا أن دخلوا في العربية دخولا غريبًا، وصار لسانهم لسانها، وخرج من أصلابهم كثرة كاثرة من العلماء الكبار (3).

ثانيا: معرفة الشرق، ودراسته، أرضه، ومياهه وطقسه، وجباله وأنهاره، وزروعه وثماره، وأهله، ورجاله، وعلمه وعلمائه ودينه، وعقائده، وعاداته، وتقاليده، ولغاته و ... و ... كل ذلك لكي يعرف كيف يصل إليه، فقد ظلت دار الإسلام مرهوبة مخوفة، لم يستطع أحد اختراقها لعدة قرون، وكانت المناوشات، والاحتكاكات على الثغور والأطراف تحسم دائمًا لصالح الإسلام والمسلمين وترجع قوى الشر مقهورة مدحورة.
ولكنها ما فتئت هذه القوى تدبر وتقدر ، وتحاول الالتفاف حول ديار الإسلام ، لما استعصى عليها اختراقها ، وكان الاستشراق هو رائدها الذي يرتاد لها الطريق وهذا الأمر باعترافهم هم بأنفسهم فهذا المستشرق الأمريكي (روبرت بين) يقول في مقدمه كتابه (السيف المقدس) : إن لدينا أسبابا قوية لدراسة العرب ، والتعرف على طريقتهم ، فقد غزوا الدنيا كلها من قبل ، وقد يفعلونها مرة ثانيـة ، إن النار التي أشعلها محمد لا تزال تشتعل بقوة ، وهناك ألف سبب للاعتقاد بأنها شعلة غير قابلة للانطفاء)  (4) , ويقول الأمير (كايتاني) ذلك الأمير الإيطالي الذي (جهز على نفقته الخاصة ثلاث قوافل ، لترتاد مناطق الفتح الإسلامي ، وترسمها جغرافيا ، وجمع كل الدوريات والأخبار الواردة عن حركة الفتح في اللغات القديمة .. واستخلص تاريخ الفتح في تسعة مجلدات ضخمة بعنوان (حوليات الإسلام) بلغ بها سنة أربعين هجرية.. قال هذا الأمير الذي استهلك كل ثروته الطائلة في هذه الأبحاث، حتى أفلس تماما، قال في مقدمة كتابه (حوليات الإسلام) هذه: إنه إنما يريد بهذا العمل أن يفهم سرَّ المصيبة الإسلامية التي انتزعت من الدين المسيحي ملايين من الأتباع في شتى أنحاء الأرض، ما يزالون حتى اليوم يؤمنون برسالة محمد، ويدينون به نبيًّا ورسولاً) (5)
فهو بهذا يعلن عن هدفه بغاية الصراحة والوضوح: (أن يفهم سر المصيبة الإسلامية) أي سر الإسلام، ومصدر قوته. ويكتب المستشرق الألماني (باول شمتز) كتابًا يتناول فيه عناصر القوة الكامنة في العالم الإسلامي، والإسلام، فيسمي هذا الكتاب (الإسلام قوة الغد العالميـة) فلماذا كتب هــذا الكتاب، وقـام بهذه الدراسة ؟، إنه لا يتورع أن يعلن صراحة وبدون مواربة عن هدفه، الذي هو تبصير أوروبا الغافلة عن هذه القوة التي هي (صوت نذير لأوروبا، وهتاف يجوب آفاقها، يدعو إلى التجمع والتساند الأوروبي لمواجهة هذا العملاق، الذي بدأ يصحو، وينفض النوم عن عينيه.


يتضح من خلال ما تقدم مفهوم الاستشراق وبعض أهداف هؤلاء المستشرقين في طعنهم في الإسلام وشخص النبي صلى الله عليه وسلم وطعنهم في السنة النبوية المشرفة، وننتقل الآن إلى الحديث عن صلب موضوعنا وهو الشبهات التي يرددها هؤلاء المستشرقين وتلاميذهم ونقوم بالرد عليها بإذن الله تعالى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية