عندما تصبح القيم فريسة للمادة!!


منذ أن عرف الإنسان كلمة الحضارة وهو جاد في تعريفها ودعم هذا التعريف بقوى تحافظ عليها من المعتدين، أولئك الذين ملك الحسد عليهم قلوبهم وعقولهم فذهبوا مذاهب شتّى في خلق المبررات لاجتياز هذا الحاجز وتحطيم حضارة كان بإمكانهم الأخذ منها وتقديم العطاء لها، ولكنهم بطبعهم الشرس التفوا حول هذا السور آتين مرة طالبين العلم ومرة أخرى هرباً من جحيم عاشوه ومرة ثالثة بقصد التعامل المادي وتبادل المنافع ومرة رابعة شاهرين أسلحتهم معلنين العداء ولكنهم في أي الأحوال يحملون معهم أدوات تطفئ النور إذا اشتعل وتقتل أنواراً مشتعلة وهم لا بد مصيبون بعض النجاح وإلّا لما بادت حضارة وازدهرت أخرى من بعدها.
وحضارتنا الإسلامية حين خبا نورها كانت عرضة لمن ادعوا حب المشرق فتعلموا علومة وكادوا له لأنهم على دراية تامة بأسراره.
وجاء أصحاب الصليب يزعمون أن القدس لهم فاحتلوها ولكنهم أخفقوا في الحفاظ عليها وظل الشرق طويلاً في يدي الغرب يلعب به كيف شاء.
يقال إن أمريكا اكتشفت، ولكن هل تكتشف أرض فيها تاريخ وحضارة ولهم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والدينية؟ إذن لنقل بأن الأوربيين في فترة ما من نهضتهم عنوا بالرحلات الاستكشافية والبحث عن خيرات غير تلك التي في بلادهم فوصلت سفينة كولمبس إلى شواطئ أمريكا وتبعه بعد ذلك الكثير من المهاجرين إلى ما يسمّى العالم الجديد وكوّنوا مستوطنات في أماكن مختلفة وكثير منهم ظل على السواحل الشرقية إما خوفاً من التوغل في هذه الأرض العجيبة أو طلباً للراحة من عناء رحلتهم الطويلة.
وكانت بريطانية في عز وزعامة حكمت العالم وجعلته مستعمرة لها إلى أن ثارت ثائرة الأمريكان فطردوها ..ثم اجتمع قادة هذا الشعب المتحرر حديثاً وقرروا اتخاذ دستور ليحكمهم وينير لهم الطريق وينظم شؤون حياتهم ..كان هؤلاء "الآباء المؤسسسين" لا زالوا على اتصال طيب بالدين ففي الدستور كثير مما يبرهن على ذلك فالقاعدة الذهبية تقول" اعمل لغيرك ما تحب أن يعملوه لك" ولا تخالف حديث رسولنا صلّى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه)، ثم كانت هناك صلاة يؤديها أطفال المدارس كل صباح ، وكان لهم عيد للشكر، يوماً تتجه فيه القلوب إلى الله بالحمد والثناء أن منّ الله عليهم بهذه الأرض الطيبة، والكنائس كانت مزدهرة، وغير ذلك مما يدل على أن هناك قيماً أخلاقية عالية وأمانة صادقة، ولكن وُجد الذهب واكتشف البترول وجادت الأرض وهاجرت الأدمغة من كل حدب وصوب فانتعشت المادة وضاع غيرها، فالحضارة أي حضارة لها مراحل معروفة تمر بها إلى ان يُقال بأن تلك الحضارة بادت.
فللحضارة مقومات تقوم على تطويرها واتساع رقعتها كما تساعد على استمرارها ومن أهم هذه المقومات القيم العليا التي لا أروع من الإسلام مفسراً لها فقال تعالى (وإنّك على خلق عظيم) وقوله صلّى الله عليه وسلم (إنّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)
ولا داعي هنا لأطيل في الموضوع فغايتي أن أقدم صورة لما رأيت في الولايات المتحدة من ضياع مميت ، ضياع لا بد منه، فالشمعة أصبحت نيراناً محرقة ولا قدرة لمن استنار بها واستدفأ على أن يسيطر عليها ولا هي بقادرة على مساعدتهم.
وسواء طال الأمد أم قصر فتلك القيم التي كانت خير منبت للحضارة الأمريكية بدأت في التراجع وسلوك طريق الخيبة فألغيت الصلاة في المدارس وراحت القاعدة الذهبية في مغاور النسيان وملابس النساء التي كانت تلامس الأرض بدأت في التراجع إلى الأعلى بالتدريج إلى الركبة ثم إلى ما فوق الركبة، ثم طالب من طالب بإلغاء القسم الديني في المحاكم ، ثم نادت جماعة بإنشاء كنائس للملحدين وكذلك بإعطا تبرعاتهم إلى هذه الكنائس معفاة من الضرائب أسوة بالتبرعات الأخرى.
ودخل إلى المجتمع تقليعات مختلفة فطالت الشعور عناداً ومكراً وانتشر الحشيش سراً وعلناً واستوردت المخدرات وسرقت غصباً وعنفاً وازدادت الجريمة.
قيل إن العلم قد تقدّم والتقنية قد بلغت القمة فكان عملاً مرهقاً في السابق أصبحت تؤديه الآلات فقلت أعمال ربّات البيوت فخرجن للعمل بجانب الرجل فكان إغراؤهن يفوق المنفعة فكان من نتيجة هذا التقدم أن زاد تلوّث الجو والماء، وأسرعت الحياة فلا وقت للتحية ولا وقت للعلاقات الإنسانية أن تنشأ بل إنها بدأت تتحطم وعمّت الجريمة وهذا بول هارفي المعلق التلفزيوني الشهير يقدم إحصاء يقول بأن الشباب في شيكاغو بين سن الثامنة عشر والرابعة والعشرين يموتون لأسباب أولها القتل ..ولا يقتل المجرم إنساناً يعرفه ويحقد عليا سابقاً بل إنه يقتل إنساناً لا تربطة به أية رابطة.
كل هذا وأكثر حاصل في أمريكا يريد بها نزول سلم الحضارة نزول سلم الإنسانية الرحيمة التي لا يمكن أن تكون إلّا بقيم عالية.
وهنا بدأ البحث عن العلاج والبحث طويل فليس للكنيسة أي اعتبار كذلك الذي كان في الخمسينيات أو قبلها ولا أباً يحمل نفس الحب الذي حمله له أبوه ولا مدرسة تعني بطلابها كما عنيت في السابق، فالمدارس الآن تعرف طلابها بالأرقام فقد فقد تضخمت ولا يعرف فيها إلّا من شذّ والشواذ أصبحوا كثيرين.
بدأ البحث عن عقيدة ..بدأ البحث عن مهرب من هذا الجحيم أتاهم البهائيون من الخارج وقالوا بوجدة الأسرة البشرية وجعلوا الرسالات كلها واحدة؛ الرسالات السماوية والدنيوية. خلطوها جميعاً فضاعت جميعاً وتبع الأمريكان وهكذا ازدهرت البهائية وأسست لها مراكز عدة وبدأت تجمع المال بالطرق الأمريكية المعروفة.
ثم أتى أولئك الذين يؤلهون "كرشنا" يلبسون قطعتين من القماش البرتقالي حالقي رؤوسهم إلّا من شعر قليل في المقدمة أو المؤخرة ونقطة بيضاء على جباههم كأنها قطرة حليب قد سالت وجفت ويدورون في الشوارع بأفكار غريبة يبيعون الكتاب تلو الآخر وهي كتب لا تحمل سوى صور زاهية الألوان، ثم هناك ولائمهم الكبيرة التي يسمونها بالأعياد يدعون إليها الناس ويطلبوا منهم التبرعات حال حضورهم. ويقول الخبيرون بالأمر إن هؤلاء شحاذون محترفون يملكون أموالاً طائلة.
أما هم في الحرم الجامعي فطبول تُقرع وأغان تردد "هاري كرشنا، هاري هاري. ما هي وما مغزاها  ولكن هناك من الأمريكان من يسقط في حبائلهم ويرددون معهم كالببغاء لا تفهم ما تقول.
وحركة أخرى لا بد لي من ذكرها تلك هي حركة اليسوعيين في هستيريا لا شبيه لها ولا يستطيع أحد الهرب من شرورها فما وجد أحدهم طالباً يجلس وحده إلّا وذهب للحديث معه مخرجاً إنجيله من جيبه ليقرأ ويقرأ فو تبين أن الضحية تؤمن بدين آخر لانبرى مبيناً له أخطاء كل الأديان عدا اليسوعية.
وطريقة أخرى هي مهاجمة الطالب المنغمر في دراسته بقصد إجراء إحصاء ما فيقول الطالب في نفسه ما هي إلّا دقائق معدودة ويذهبون ولكنه سرعان ما يكتشف خطأه حين يبدؤون بقراءة الإنجيل وقص قصتهم مع هذه العقيدة التي أنارت لهم الطريق فأبعدت عنهم الأمراض النفسية وأخذت بأيديهم في الدراسة وحببت فيهم النساء وما إلى ذلك.
وطريق ثالث هو كتيب صغير يحوي أربع قواعد تقرب الإنسان من ربّه فسؤالهم الأول هل سمعت بهذه القواعد الأربع فربما يكون الجواب لا، فبسرعة خاطفة يتناول الكتيب ويبدأ في شرحها مستعيناً بإنجيل بين يديه.
وهم في هذه الطرق وتلك يؤمنون إيماناً تاماً بأن من لم يتبع طريقهم إنسان ضائع مريض نفسياً وغير ذلك مما لا يحب أحد أن يوصف به.
إن حركة اليسوعيين جعلت من المسيح إلهاً عوضهم عن الخمر والمخدرات وعوضهم عن كثير من البحث والضياع لكنها جعلتهم يركنون إليه في حل مشكلاتهم وتدبير أمورهم فلا جهاد ولا اجتهاد.
ثم يأتي إلى أمريكا وهي في عصر الفضاء جماعة من السحرة والمشعوذين يقولون إن هذا الشعب يريد الملذات بدون أي نوازع دينية أو عقلية أو إنسانية فيهيئون له المكان والجو الملائمين ويجرون الأتباع وراءهم.
ولا تقف مرحلة الضياع عند هذا فما بالك بمن سجد لصورة وهم كذلك فاعلون فقد أرسل الشاب الهندي (15 سنة) الملقب بالسيد الكامل ممثلين عنه إلى إحدى الجامعات ليدعوا الناس إلى أفكاره والحديث عنه وكانت معهم صورة له ففي بداية الاجتماع وقف الممثلون أمام الصورة صاغرين خاشعين وسجدوا لها.
ولكن هناك من الأمريكان من يعارضهم في اجتماعهم هذا حيث سأل أحدهم ولكن ما بالكم تسجدون لصورة وما هذه البقعة الحمراء في جباهكم، هل لي أن أعرف من هو إلهكم؟ وحاروا في الأجابة.
هذا ليس كل ما رأيت وعرفت ولكني أعدكم بأنا أعاود الحديث بتفصيل حتى أُثبت لإولئك الذاهبين في جنون خلف الغرب وضياعه بأن لدينا ما يغنينا عنه ألا هو الإسلام.


نشرت في جريدة المدينة المنورة العدد (2888) في 30 شعبان 1393هـ الموافق 27سبتمبر 1973م


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية