كلمة في افتتاح مركز الفكر الغربي

                                                   بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
      أبدأ بتهنئة نفسي وكل من له يد في إنشاء هذا المركز المبارك وبخاصة الأخ الكريم الأستاذ فيصل الكاملي الذي عرفته من سنوات وحرّك قلمي للكتابة والترجمة وها هو يثير الأشجان مرة أخرى بدعوتي للمشاركة في حفل تدشين مركز الفكر الغربي.
     لماذا مركز الفكر الغربي؟ لا شك أنه لتحقيق قوله تعالى (لتعارفوا) وقوله تعالى (لتكونوا شهداء على الناس) وسوف تسمعون التفاصيل إن شاء الله في مطبوعات المركز، ولكني سأجول معكم في اهتمام العالم بالعالم
     سأبدأ بنا نحن المسلمين فقد كنّا على وعي بالعالم حولنا فرحلتا الشتاء والصيف لم تكونا مجرد رحلات تجارية قوافل تحمل بضائع ولكن عقول وأنظار تتعرف إلى ما حولها وتدرسه وتفهمه حتى كانت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر بالهجرة إلى الحبشة وقال إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، فلا بد أنها كانت تدل على وعي الرسول صلى الله عليه وسلم بما حول الجزيرة من دول وأوضاع.
     وخرج المسلمون في الفتوحات فتوالت رسل الجيش الإسلامي على كسرى فدخل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على رستم ومما قال له: " إنّا كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولكني أراكم أسفهَ قوم، وكان أجدرَ بكم أن تقولوا لنا إنما يعبد بعضكم بعضًا، أدركتُ أن أمركم مضمحلٌّ، وأن أمر الغَلَبَة والملك لا يقوم على مثل ما أنتم عليه."
     وفي كتاب الفتن من صحيح مسلم ذُكر الروم أمام عمرو بن العاص رضي الله عنه فوصفهم بما يأتي " أما لئن قلت ذلك إن فيهم خصالا ً أربعا: «إنهم لأحلم الناس عند فتنة... وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة... وأوشكهم كرة بعد فرة... وأرحمهم لمسكين ويتيم وضعيف... وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك"
     وبقيت الأمة واعية بالعالم حولها والقصة تطول ولكن أكتفي بذكر من كتب عن الملل والنحل ومنها كتاب الشهرستاني وابن حزم الأندلسي والبغدادي وغيرهم
     ومن وعي الأمة بالعالم أن انطلق الرحالة المسلمون وإن لم يكونوا رحّالة بالمعنى الذي استحدثه الأوروبيون رحّالة للتنصير وللتجسس والتخريب وإنما كانوا رسلاً وعلماء، ولكنهم على درجة عالية من الفهم والدراية فكان منهم ابن فضلان وابن حوقل وابن جبير وابن بطوطة والإدريسي والمسعودي وأحمد بن ماجد وغيرهم
     وجاء بعد الرحّالة سفراء الدولة العثمانية والسفراء المغاربة في أوروبا أيضاً فقدموا لنا مادة خام كما يقال في التاريخ لدراسة الغرب دراسة عميقة.
ولا بد أن أذكر الدكتور علي زكي صاحب كتاب (هذه هي الشعوب البيضاء) الذي لم يُترجم بعد إلى العربية
     ولا ننسى أن الغرب حينما حلّ في ديارنا غازياً كان الفارس الشاعر الأديب أسامة بن منقذ ينظر في أحوال الصليبيين وطباعهم وأخلاقهم ورصدها لنا في كتابة الرائع (الاعتبار)
     وهناك عالم مسلم سبق المستشرقين والاستشراق بقرون وهو أبو الريحان البيروني الذي كان عالماً في الفيزياء والرياضيات، ونتعجب اليوم أن يخرج من بين المستشرقين من تخصص في هذه العلوم ثم تحول إلى دراسة الشرق، فقد كان البيروني سبّاقاً حيث كان صاحب عقلية علمية فذّة ومع ذلك عشق السفر والتعرف إلى العالم فقضى في الهند عشر سنوات أو أكثر وخرج بمؤلفه العظيم: تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولةٍ في العقل أو مرذولة.
     وكما قال الدكتور عز الدين موسى في تعليقه على محاضرتي عن مسؤولية الجامعات السعودية في إنشاء أقسام الدراسات الإقليمية: كنّا أمة تمتاز بالتوق المعرفي فعرفنا العالم من حولنا، ولما خبا ذلك التوق صرنا نجهل حتى أنفسنا.
     أما اهتمام الغرب بنا في العالم الإسلامي فمنذ بداية القرن العشرين وهي تؤلف اللجنة تلو اللجنة لدراسة احتياجات البلاد من المتخصصين في الدراسات السلافية والأوربية الشرقية والأسيوية والشمال أفريقية فكانت اللجنة الأولى عام 1907 ثم في عام  1947وفي العام 1961 تألفت لجنة أخرى برئاسة السير وليام هايتر وأعدت تقريراً ورصدت أموالاً سُمّيت بأموال هايتر لتمويل الدراسات الأسيوية والشمال أفريقية في الجامعات البريطانية ومنها تقديم منح وتمويل دراسات وبحوث حول العالم العربي والإسلامي والأسيوي بعامة وشمال أفريقيا.
     ولم تتوقف اللجان ولكني أكتفي بهذا لأنتقل إلى الولايات المتحدة التي أرادت أن تحل محل بريطانيا في النفوذ في العالم بعد أن أفَلت إمبراطورية بريطانيا فاحتاجت إلى من يعرف العالم فأصدرت المرسوم الدفاعي الجمهوري عام 1957 لدعم الدراسات الشرق أوسطية واستقدمت عدداً من كبار المستشرقين الأوروبيين ليقدموا لها المعرفة بالشعوب والبلاد العربية الإسلامية.
     وكذلك كان الاستشراق في بقية الدول الأوربية لا ينفصل عن خدمة الحكومات من فرنسا وهولندا وألمانيا وغيرها.
     وتأسيس مركز الفكر الغربي يأتي في وقت نحن بأمس الحاجة لمعرفة هذا الغرب ولأضرب المثال بالدراسات الأمريكية فقد بدأت هذه الدراسات في اليابان مثلاً عام 1939 في جامعة ركيو، وبدأت المحاضرات أو حلقات البحث الأمريكية في جامعة دوشيشا بكيوتو عام 1951ومنها انطلقت الدراسات الأمريكية حتى أصبحت هناك رابطة لهذه الدراسات. وقد حاولت مع الملحق الثقافي الأمريكي أن يستضيف مركز الملك فيصل بالتعاون مع جامعة الملك سعود سلسلة المحاضرات الأمريكية في الرياض نسبر أغوار الفكر الغربي نستضيف بعض أبرز العلماء والمفكرين الغربيين والعرب المسلمين ولكنها خطوة لم يتح لها التنفيذ.
     أما أوروبا ففيها شبكة للدراسات الأمريكية تضم أكثر من تسعة عشر مركزاً لهذه الدراسات ولها مؤتمر سنوي ورابطة وجائزة سنوية لأفضل بحث عن الدراسات الأمريكية وجامعة لندن كانت في التسعينيات تضم معهداً للدراسات الأمريكية يقدم الماجستير والدكتوراه وتطور إلى معهد لدراسة الأمريكيتين وما الدراسات الأمريكية إلّا مثال وإلّا فهناك الدراسات الأوروبية في الهند وفي اليابان وفي ماليزيا.
     وفي عالمنا العربي تقدم أستاذ في الثقافة الإسلامية بمشروع إنشاء كلية الدراسات الأوروبية لإحدى الجامعات ولم تستجب تلك الجامعة، كما دعا الدكتور حسن حنفي لدراسة الاستغراب حتى نتحول من ذات موضع الدرس إلى ذات دارسة ونقضي على مركب الاستعلاء لدى الغرب وعلى مركب النقص لدينا ولكن في دراسات حسن حنفي بعض الدخن الذي يجب أن نتجنبه. وهناك محاولات أخرى لن أتطرق لها وإن كانت جهد يستحق التقدير والتقويم.
     إنني سعيد بتدشين مركز الفكر الغربي في الرياض الذي أتطلع إلى أن يكون له نشاط واسع في معرفة هذا الفكر ودراسته ودراسة الغرب بعمق وفهم ودقة وموضوعية وإنصاف وأن تصل دراساته وتوصياته إلى أعلى مراكز اتخاذ القرار وأن يصل إلى عامة الناس الذين أثر الإعلام ويؤثر فيهم بأن الغرب جنة الله في الأرض ولا يعرف حقائق الأمور.
     لدي أفكار كثيرة حول دراسة الفكر الغربي أؤجلها حتى ينطلق المركز في العمل قريباً بإذن الله
     والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية