الفصل الأول: الكَرَك كانت البداية

 

     في أحد أحياء الكرك الذي لا أذكرة وإن كنت سمعت باسمه فلم أهتم بحفظه وفي يوم الأربعاء الثالث من جمادى الآخرة عام 1369هـ الموافق ل 22 مارس (آذار) 1950 وفي الصباح الباكر بعد أن أشرقت الشمس أحست أمي بآلام المخاض فذهب من يستدعي القابلة أم يوسف الحباشنة وليس من وسيلة سوى المشي السريع وإن كان المكلّف صغيراً فقد كان يركض. فما أن وصلت حتى وجدتني في الأرض قد سبقتها، فأخذت تلوم أمي على أنها تأخرت في إبلاغها، فما كان من جدتي أم عصام رحمها الله أن قالت لها قومي بعملك واتركي اللوم. أما أنّ أمي رحمها الله تأخرت في الإبلاغ عن آلام المخاض فأمر غير ممكن حيث كنت الابن الثالث أو المولود الثالث أو حتى الرابع لأن أختي خولة كانت شق التوأم وسبقتني، وكنت الثالث في عدد الولادات فهي رحمها الله عليمة بآلام المخاض ولكني أنا الذي كنت مستعجلاً، وكانت أمي رحمها الله تقول إن حملي كان سهلاً وكذلك كانت ولادتي.

        كان في البيت فرحة فقد ظل والدي رحمه الله يكنّى بأبي أسماء حتى جئت فصار يكنّى بأبي مازن وكان يحفظ الأبيات الآتية التي جعلته يختار اسم مازن وهي:

من شعر قُريظ بن أُنيف (من "ديوان الحماسة" الذي اختاره أبو تمام)

     لوكنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللّقيطة من ذهل بن شيبانا

    إذن لقام بنصري معشر خشنٌ عند الكريهة إن ذو لوثةٍ لانا

     قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم         طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا

    لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد    ليسوا من الشرّ في شيء وإنا هانا

     يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً    ومن إساءة أهل السوء إحسانا

    كأنّ ربّك لم يخلق لخشيته         سواهم من جميع الناس إنسانا

     فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا         شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا

     لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

      لكن يطيرون أشتاتاً إذا فزعوا    وينفرون إلى الغارات وحدانا

      وكانت فرحة أبي رحمه الله كبيرة حتى أن أمي رحمها الله كانت تقول إنه كان يلاعبني ويلعب معي حتى أصبح مريضاً فيأخذني إلى الطبيب، وكانت أمي تنتظر أن يولد لها ابن لتُلبسه الملابس البيضاء وأنها مستعدة لبذل أي جهد للمحافظة على نظافته، وكنت أتعبها حتى إنني كنت لا أنام حتى أستحم، ومهما كانت برودة الجو حتى إذا رآها أحد من الأقارب اتهما بقلة الحرص على صحة ابنها، لكنها كانت ترد أنني لا أعرف النوم حتى أتذوق الماء.

        ومرت أشهر أصيبت أمي بحمّى التيفوئيد وكان لا بد من إبعادي عنها وتوقفت الرضاعة فحاولت اثنتان من زوجات أعمامي إرضاعي فرفضت، واضطروا لإرضاعي بحليب البقر بعد تخفيفه، وشاء الله أن تشفى أمي من الحمّي فيعود لها حليبها كما كان، وتعجب طبيب صديق العائلة وربما كان الدكتور توفيق رحمه الله كيف يعود الحليب بعد شهرين لأنهم يعرفون أن الأم إن انقطعت عن الرضاعة عدة أيام جفّ حليبها ولكنها إرادة الله عز وجل لأحصل على نصيبي من الرضاعة الطبيعية سنتان كاملتان كانت أمي في جزء منهما قد حملت بأخي عبد الكريم.

        مرت طفولتي عادية جداً ليس فيها ترف ولا رفاهية ولكنها فيها حب وحنان ورعاية وحنان من أمي وأبي رحمهما الله. وأذكر من المساكن التي نزلنا فيها دار أم يحي الموصلي بالقرب من بركة محمد زين أبو الفيلات (الخليلي) وجارتنا أم رسمي أبو الفيلات (كان الأب سائق شاحنة) وجارتنا من جهة الشارع أم حامد الذي كان قريباً من عمري وكذلك رسمي، وكان أمام البيت بئر مهجور وكان قريب من البركة غرفة تسكنها امرأة كفيفة اسمها أم حمدة وقريباً منّا حارة البرارشة ومسكن للمعلّمات.

        وعلى مسافة من بيتنا الميدان (لم يعد ميداناً) والمستشفى الإيطالي ومقبرة الكرك (التي تسمى النبي نوح نسبة لضريح موجود فيها، وهو عبارة عن غرفة صغيرة فيها ضريح مغطى بالأخضر، وكان يجري فيها بدع لم أعرفها ولا أزال لا أعرفها) وتطل على المقبرة قلعة صلاح الدين وفي زاوية من المقبرة وفي مكان مرتفع قبر جدي حامد رحمه الله. وتحت المستشفى الإيطالي مغارة كبيرة أو هو نفق صنعه المسلمون وقيل إن المستشفى الإيطالي استولى على النفق، وليس من حقّه.

        وجاء أخي عبد الكريم (رحمه الله) بعدي بسنتين عشت فيهما بين البنات، وكانت شخصيتي قد غلب عليها المسالمة بل حتّى الضعف بينما كان هو أقوى مني شخصية ولكني سمعت مثلاً شعبيا من والدي رحمه الله (عليك بهادي الصبيان، وحر الإبل) فهل كانوا يقصدون أن الصبي الهادي يصبح شخصية قوية فيما بعد لا أدري.

        ولم يعجب أمي رحمها الله ضعفي وسكوني فقررت–وانظر إلى الأم تقرر-أن ترسلني مع عمتي سلمى رحمها الله لأقضي معها ومع أبنائها (وهم أكبر مني بسنتين وخمس سنوات، وست سنوات، محمد أمين وإبراهيم وإسماعيل، بضعة أشهر في غور الصافي امتدت إلى سنة كاملة درست فيها الصف الأول ابتدائي. ويبعد غور الصافي ستين كيلو عن الكرك، وهي نزول لأن الغور هو أخفض منطقة في العالم حيث البحر الميت.

        وكان زوج عمتي الحاج يحيى الموصلي رحمه الله يملك أراض زراعية شاسعة في الغور، والغور نفسه أرض زراعية تأتيه مياه السيول من أنحاء الأردن لتصب في البحر الميت، وقد عمل لها الأردنيون عدة برك تجمعها لتستغل في الري، وللمزارعين طريقة في توزيع المياه، وكانوا يختلفون في الماضي فيحتاجون إلى من يتدخل للصلح بينهم وكان أبي رحمه الله بما عرف عنه من الحكمة والحنكة يقضي بينهم. ولكن يبدو أنهم الآن توصلوا إلى طريقة عادلة للجميع.

        وكانت المواصلات الوحيدة والرئيسة هي المشي وقد يكون التراكتور أو الحرّاثة، ولكن المشي أكثر، ولا زلت أذكر العصاة التي يمسك بها الحاج يحيى بطرفيها وممتدة فوق كتفه، أما نحن الصغار فنركض بين يديه محاولين اللحاق بالكبار.. والغور يزرع فيه في الغالب الخضروات أما الفواكه فقد أدخلت حديثاً وكانت رائحة البندورة أو الطماطم هي التي تفوح في أنحاء الغور وهي التي يسميها أهل الغور أو الغوارنة تفاحاً، وفي الغور أراض شاسعة للعب بالإضافة إلى اللعب في قنوات المياه ، وكانت عمتي سلمى رحمها الله تحذر من اللعب في القنوات، حتى إنها حذرتنا ذات مرة وحين عدنا في المساء أتيت بالعصى وقلت لها عمتي اضربينا فقد خالفنا أمرك، وربما ضحكت عمتي من هذه البراءة والصدق، فعفت عنّا ..والصدق فيما أعتقد هو أحد أسباب متاعبي في الحياة ..فقد تعلمت فيما بعد أن الناس اخترعوا ما سمّوه (المجاملة) أو(الكذب الأبيض) حتى إن والدي رحمه الله قال لي ذات يوم وهو يطالع رسالتي للماجستير ومكتبتي "أنت لا تعرف من أين تؤكل الكتف، ستكون عالماً حقاً، وإنتاجك يدل على ذلك"

        لا أذكر كم قضيت في الغور الصافي من شهور وقد عرفت أنني درست الصف الأول ابتدائي كله فيها، ولكنها مرحلة ممتعة وبخاصة حين تقف على شاطئ البحر الميت لترى أنوار دولة يهود ولم يكن في الغور من الجانب الأردني كهرباء عامة.

        ومرت سنوات المرحلة الابتدائية دون أحداث كبيرة سوى أنني زرت مدرسة الأخوات في حي الحباشنة ورأيت ما يقدم لأطفال النصارى من ترفيه وتسلية حتى إن بعض الألعاب لم تكن موجودة إلّا عندهم، ومنها مثلاً لعبة الحية أو الثعبان والسلّم التي يتم لعبها بحجر الزهر، وفي تلك الأثناء شعرت بمعاملة فيها تحيز للنصارى فقررت أن أترك المكان ولعل هذه طبيعة لازمتني منذ الصغر أن أكره الظلم والإذلال أو أن أسعى أن أكون حراً محافظاً على كرامتي...وأتعجب أحياناً لماذا تركني والدي أذهب إلى تلك الأماكن. أو إن والدي رحمه الله حرص على غرس الثقة فيّ حتى أكون أنا من يتخذ القرار وليس هو وتلك سياسة تربوية عجيبة لرجل لم يدخل المدارس بعد الأول الإعدادي ولم يحصل على درجات علمية.

        وتعرضت لظلم آخر من أستاذ وأنا في الصف الخامس ابتدائي حيث سمح الأستاذ لنفسه أن يساعد طالباً نصرانياً وربما كان اسمه صباح في رسم أحد الواجبات فحصل على درجة أعلى من درجتي فتقدّم عليّ حيث كنّا نتنافس على الترتيب الأول في الصف فتعقبت الأستاذ خارج المدرسة وهو مار بالقرب من بيت عمتي فرشقته بالطماطم، ولا أدري إن هي أصابته أو لا فقد نسيت الموضوع. كما ذكرني أبناء عمتي أنني كنت معهم في المسجد لدراسة القرآن الكريم فانزعج الأستاذ من سلوك أحدهم فطرده فقررت التضامن معه وأصررت على مغادرة المسجد.

       وها هو ابني يكمل السنة الأولى–الآن في الصف الثالث- فلا أرى درجات ولا منافسه بينه وبين زملاءه لأن نظام التعليم الحالي قائم على ما يُطلق عليه التقويم المستمر الذي أطلق عليه الأستاذ التربوي عوض الزايدي (التدمير المستمر).

    وفي سنوات دراستي الابتدائية سُرق منّي كتاب "الديانة" وكان السارق طالباً نصرانياً فبقيت عدّة أشهر دون كتاب، وكانت تجربة مؤلمة فليس هناك كتب مستعملة ولا قديمة حيث كان الطالب يعيد الكتب للمدرسة وعدد الكتب محدود ولا أدري كيث أعيد إليّ الكتاب، وخفت على مستواي العلمي ونتائجي الدراسية بسبب فقدان الكتاب. ولا أذكر أننا طالبنا بعقوبة الطالب أو الانتقام منه بل اكتفيت برجوع الكتاب.

    وأذكر من سنوات دراسي الابتدائية أنني كنت في الصف الثالث الابتدائي وكان لدينا أستاذ للتربية البدنية وفجأة قررت المدرسة أن يقوم بتدريس المواد جميعاً، فلمّا عُدت إلى البيت ذكرت ذلك لأبي فزار المدرسة في اليوم التالي لينقل للمدير انتقادي لقرار المدرسة فاستدعاني المدير إلى غرفته وطلب مني أن أعبّر عن انتقادي أمام الأساتذة ووالدي رحمه الله ورحم الله من مات منهم. وأجد في هذا العمل من والدي رحمه الله أنه كان لتشجيع الشجاعة الأدبية لدي ومن جهة أخرى كان والدي يعتز بنباهة ابنه وفطنته وأنه صاحب رأي مستقل وروح نقدية.

     وفي تلك السنة وفي مادة الحساب كان لدينا اختبار مكون من مسألة واحدة وهي طريق طوله مائة متر يراد غرس أشجار على جانبيه وبين كل شجرة وأخرى بضعة أمتار فكم نحتاج من شجرة؟ فأخطأت في الإجابة لأنني لم أحسب الشجرة التي توضع في نهاية المسافة فكانت درجتي صفراً وهنا قام الأستاذ (ولعله الأستاذ محمد خليف رحمه الله) بإلغاء الامتحان مما جعل بعض الطلاب يعتقدون أن الأستاذ متحيز لي.

      وكنت في الصف الثاني أو الثالث وأستطيع قراءة كتب الرابع، وكان هذا مثار استغراب زملائي لأن المعتاد أن الطالب لا يعرف قراءة أي شيء سوى الدروس التي يدرسها وما كنت أرى في ذلك تميزاً، ومن اللمحات الجميلة في هذه المرحلة أنه كان فيها تربية صارمة فحين كنّا ندرس قصيدة عنترة بن شداد:

 

    إذا كشف الزمان لك القناعا      ومد إليك صرف الدهر باعا

      فلا تخش المنية والتقيها        ودافع ما استطعت لها دفاعا

      يقول لك الطبيب دواك عندي إذا ما جس كفك والذراعا

      ولو عرف الطبيب دواء داءٍ   يرد الموت ما قاسى النزاعا

    حصاني كان دلال المنايا      وخاض غمارها وشرى و باعا

     وسيفي كان في الهيجا طبيباً  يداوي رأس من يشكو الصداعا

     ولو أرسلت رمحي مع جبان    لكان بهيبتي يلقى السباعا

      أنا العبد الذي خبرت عنه   وقد عاينتني فدع السماعا

      فكنت أقرؤها بصوت مرتفع وحماسة شديدة تسمع في جنبات المدرسة وهذا عكس ما كان عليه التعيم في مدارس المدينة المنورة فأذكر أن أخي عبد الكريم كان يدرس في الخامس الابتدائي وكان مطلوباً منهم حفظ قصيدة :

  

أنا في الحربِ العوان غيرُ مجهول المكان

أينما نادَى المنادي في دُجى النَّقْع يرَاني

وحسامي مع قناتي لفعالي شاهدان

أنني أطعنُ خصمي وَهْو يَقْظانُ الجَنانِ

أسقِهِ كاسَ المنايا وقِراها منهُ دَاني

أشعلُ النَّار ببأسي وأطاها بجناني

إنني ليثٌ عبُوسٌ ليسَ لي في الخلْق ثاني

خلق الرِّمحُ لكفي والحسامُ الهندواني

ومعي في المَهْدِ كانا فوْق صدْري يُؤْنِساني

فإذا ما الأَرضُ صارتْ وردة مثل الدّهان

والدّما تجري عليها لونها أحمرُ قاني

ورأيتُ الخيلَ تهوي في نَوَاحي الصَّحْصحان

فاسْقياني لا بكأْسٍ من دمٍ كالأرجوان

واسمعاني نغمة  الأس ـيافِ حتى تُطرباني

أطيبُ الأصواتِ عندي حُسْنُ صوْت الهنْدواني

وصريرُ الرُّمحِ جهراً في الوغى يومَ الطَّعان

وصِياحُ القوْمِ فيه وهْو للأَبْطال داني

     فكان الأستاذ يجعلهم يحفظونها باللحن كأنها أغنية عاطفية، بل إن مدرسة سعد بن معاذ وعلى رأسها أستاذ قدير كانت تقيم حفلاً سنوياً وفي إحدى المناسبات صعد طفل صغير ليغني أغنية عاطفية هي :

يا غايتي يا مرادي يا أم العيون الجميلة....إلخ.

        وكان هذا مثار تعجب والدي رحمه الله كيف تكون الأغاني العاطفية في المدارس.

        وفي نهاية المرحلة الابتدائية وقبيل نهاية السنة انتقلت الأسرة كلها من الكَرَك إلى المدينة المنورة ، ولم أُكمل المرحلة الابتدائية في الأردن، وكانت الابتدائية في ذلك الحين (عام 1382هـ/1962م) نهاية مرحلة وهناك اختبار الشهادة الابتدائية الذي كان يعقد في مدرسة غير التي يدرس فيها الطالب، ويعطى له رقم جلوس ورقم سري حتى لا يعرف المصحح اسم الطالب.

     فما أن وصلنا المدينة المنورة في شهر ذي القعدة  عام 1381هـ حتى كان علي أن أقدم أوراقي لدخول امتحان الشهادة الابتدائية ولكن في الدور الثاني وليس الدور الأول لأن الوقت قد فات على التقديم، وكان علي أن أستعد للامتحان خلال شهرين وكان الأمر صعباً حيث كانت المناهج متقاربة عدا في بعض الدروس وزيادة بعض المواد مثل الحديث والفقه والقرآن، فكان عليّ أن أحفظ بعض سور القرآن الكريم وعدداً من الأحاديث من الأربعين النووية التي اول حديث فيها:

    عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امريء مانوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه) رواه البخاري ومسلم في صحيحهما، والحديث الثاني : عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال : -يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم و آخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم و آخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه -رواه مسلم. وأحاديث أخرى أحفظ للآن حديث العرباض بن سارية رشي الله عنه، وحديث البشير بن نعمان، وغيرها من الأحاديث، وكأنّ الحفظ في تلك السن مهما طال عليه الأمد يظل قوياً. ودخلت الامتحان ونجحت والحمد لله.

        بدأت قصتي مع القراءة في المرحلة الابتدائية حيث أحضر أبي رحمه الله عدداً من قصص الأنبياء لعبد الحميد جودة السحار  ولم تكن هذه قراءتي الوحيدة بل كنت أقرأ  كل ما تصل إليه يدي من كتب ومجلات وبخاصة كتب إخواتي الدراسية وكانت أختى خولة تكبرني بعامين وأسماء بخمسة أعوام بل أحياناً أحفظ منهما ما كانا يحفظان من نصوص وبخاصة عندما تقرآن بصوت مرتفع. ومما حفظته من أختي أسماء في دراسة أدب عصور الانحطاط والإغراق في السجع (يالها سفينة على الأرواح أمينة ذات دس وألواح تجري مع الرياح) وهو سجع متكلف لا طعم له وليس فيه خيال ولا صور بديعة.

        وبدأت في المرحلة المتوسطة أو الإعدادية بقراءة مجلات مثل العربي والصحف اليومية مثل المدينة والندوة والبلاد وعكاظ، وكنت أجد أعداداً من بعض المجلات كالأسرة وحواء وبعض المجلات اللبنانية الممنوعة التي يستطيع البعض تهريبها.

     ومن أسباب إقبالي على القراءة أن والدي رحمه الله روى لي نصيحة عن أحد أساتذته أنه قال إن وجدت ورقة في الطريق فالتقطها ولست بحاجة لقراءة كل ما فيها بل اقرأ أول كلمة من كل سطر فلو كانت ثلاثة أسطر فيمكنك أن تكسب ثلاثة كلمات أو ثلاث تعبيرات.

     ومن الكتب التي كانت قريبة في ذلك الزمن جواهر الأدب لأحمد الهاشمي والنظرات والعبرات وغيرها.

      وفي تلك المرحلة وفي المرحلة الثانوية اطلعت على روايات يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله وبعض الروايات العالمية مثل الدون الهادئ لميخائيل شولوخوف وكنت في أثناء القراءة أتهرب من قراءة الوصف للمشاهد أو تحليل الشخصيات ظناً منّي أنها من الحشو وأبحث عن أحداث القصة ولكني قرأت بعض هذه المواضع وهو ما أسهم في تطوير ملكة التصوير والوصف والتحليل لدي.

      وجاءت المرحلة الثانوية وكان في المدرسة مكتبة جيدة قيل أسسها من أسس مسرح المدرسة وهو الأستاذ أحمد بشناق على حسابه الخاص، وكنت أجد الجلوس في المكتبة في أثناء الفسحة التي كانت لا تزيد على نصف ساعة، وكنت أستعير كتباً من المكتبة..ولم يكن ذهابي فقط للقراءة ولكن كانت هذه الفسخة فرصة للنزول للمقصف لشراء الطعام وتناول المرطبات، ولم يكن لدي مصروف ثابت وكانت هيبة أبي رحمه الله على الرغم من أريحيته في الغالب وسماحه لنا بإبداء الرأي لكن هذه الهيبة كانت تمنع من المطالبة بمصروف ثابت، وكان الطلاب يضيّف بعضهم بعضاً وكنت لا أستطيع أن أقبل من أحد شيئاً دون أن أستطيع أن أرد الجميل وهو أمر علمني إيّاه أبي وهو أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن من قدم لك معروفاً لا بد أن ترد له جميله، فقرأت كثيراً في هذه المرحلة

       ولكن أعاقني عن القراءة أنني التحقت بالقسم العلمي لأن المجتمع كان ينظر إليه باحترام وتقدير وأن المستقبل هو لمن درس العلوم، ولذلك لا بد أن يتوجه التفكير لتصبح طبيباً أو مهندساً فكأنّ المجتمع وكذلك الأسرة بصفة خاصة تعلي من شأن العلوم فأعمامي منهم الطبيب والمهندس والصيدلي وكان عليّ أن أسير في هذا الخط.

     لكن نقطة التحول كانت في السنة الثانوية الأولى حيث كان حظي أن أكون في فصل دال وهو فصل خاص بالطلاب المتميزين وطبقة اجتماعية معينة، وكنت قد وضعت في صف أ أو ب، فاعترضت وشكوت ثم وسّطت عمي عصام رحمه الله لدى الأستاذ محمود اسكندراني مراقب المدرسة رحمه الله فنقلت للفصل دال، ولكن أستاذ الرياضيات على الرغم من شهادته العالية كان غير قادر على الشرح الجيد، كما أنه لم يكن صارماً في الواجبات وكان يقوم بتدريس بعض الطلاب دروساً خصوصية من أول السنة فإن كلفنا بواجب لم يزد على تمرينين أو ثلاثة وجاء في اليوم التالي وقال قم يا عدنان قم يا حسين وأما الباقون فلا يسألهم ولا يهتم بهم، بينما عرفت عن الأستاذ عصام في الفصول الأخرى يصر على حل جميع التمارين الفردية في الفصل والزوجية واجب أو العكس ويستخدم العصا لمن لا يأتي بالواجب فأبدع الطلاب هناك في الرياضيات وكرهناها نحن ....

      عرفت حبّي للغة العربية في أثناء السنة الأولى الثانوي حيث أستاذ اللغة العربية خالد الملوحي يطلب منّي أن أقرأ القطعة المقررة في المطالعة ويأخد في السير في أنحاء الفصل حتى إنه يكاد ينسي أن طالباً بدأ بالقراءة فلا يصحح لي إلّا قليلاً..كما أن الأستاذ في مادة النحو يسأل الطلاب إعراب أبيات من الشعر مما يصعب علينا وأذكر أنه طلب إعراب بيت من الشعر

أظلومٌ إن مصابَكم رجلاً    أهدى السلام تحية ظُلُمِ

أظلوم إن مصابكم رجلاً

أظلوم: الهمزة للنداء، وظلوم: اسم امرأة منادى،

ومصابكم: اسم إنَّ، وهو مصدر بمعنى إصابتكم

ورجلاً: مفعول بالمصدر، وأهدى السلام: جملة في موضع نصب على أنها صفة ل"رجلاً"

تحية: مفعول مطلق منصوب ، نائب عن المصدر للفعل :أهدى ، لأنه مرادف له ، من باب :«قعدت جلوسًا» وظلم: خبر إنَّ، مرفوع وعلامة رفعه الضمة

ولما سأل الطلاب  من يعرف إعراب البيت تطوعت فبدأت بالهمزة أنها للنداء وأكملت فكان الجواب صحيحاً، والباقي كما أعلاه.

     أما في السنة الثانية ثانوي فكان أستاذ اللغة العربية هو الأستاذ عبد الرحيم بكر رحمه الله ، وكان هذا الأستاذ يختار بعض الطلبة لقراءة نصوص المطالعة ونجده قد نام وكأني به كان يسهر ليلاً لأنه يعد رسالة الماجستير وبحثت عمن يتدخل لدى الإدارة ليطلب منه أن يعدل بين الطلاب في القراءة ولم نستفد منه رحمه الله كثيراً.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية