السفر إلى أمريكا عام 1388هـ (1968م)

الوعي السياسي والتطلع للسعر والابتعاث
كانت الثمانينيات من القرن الرابع عشر والستينيات من القرن العشرين في العالم العربي مشحونة سياسياً، فقد كانت الدعوات والتيارات أشبه بسوق ضخم مليئ بالضجيج مئات الباعة أو حتى آلافهم كل ينادي على بضاعته، صحيح أن الدعوة إلى القومية العربية والعروبة تتصدر أو تسبق أو تتفوق على غيرها فكان جمال عبد الناصر يملك أضخم مكينة أو آلة إعلامية في العالم العربي وكانت شخصية يمتلك تأثيراً كارزمياً أو تأثيرا طاغياً، أصيبت جماهير الأمة العربية بحبه حباً بلغ درجة العشق والوله ولا أبالغ إن قلت حتى درحة العبادة
كان يتقن فن الخطابة بالعامية والفصحى وكان يخطب لساعات يركز في خطاباته على الأمة العربية والقومية ومن مفرادته التقدم والتفدمية والرجعية والكرامة والتحرير وفلسطين  ، عرف كيف يدغدغ عواطف الشعب العربي ومشاعره ، استولى على العقول والأفئدة، أحبه كثيرون حباً أعمى ومنهم كان جدي لأمي صالح مطبقاني رحمه الله، وكانت خصومته مع عددمن الزعماء العرب تدفعه إلى استخدام أساليب بعيدة عن التهذيب في مخاطبتهم مما لا يليق مع مكانته كرئيس دولة.
وكانت أقوى صدمة أن حرب الأيام الستة أو الساعات الستة جعلتنا نعيش أياماً في أحلام النصر والقضاء النهائي على دولة إسرائيل وتحرير فلسطين، وكان أحمد سعيد المذيع العربي المشهور يذيع البيانات الحربية أو البلاغات الحربية بأن القوات المصرية أسقطت عشر طائرات إسرائيلية ثم  تصبح بعد قليل عشرين ثم ثلاثين وهكذا دواليك وتنقل هذه الأخبار الكاذبة بقيت الإذاعات فتصبح عند الإذاعة السعودية أسقطنا عشرين حبة ثلاثين حبة إلخ وكأنها حبات فول أو حمص.
يا لها من أحلام لم تمض أيام حتى عرفنا أننا لم نسقط طائرة واحدة وإنما كانت طائراتنا هي التي دمرت في الفجر حين كان الطيارون يقضون سهرات ماجنة.
لقد مضى على هذه المأساة أو الكارثة أربعاً وأربعين سنة ولم تحاكم الشعوب العربية حكامها بعد وضاعت أسرار تلك الهزيمة  أو الهزائم المختلفة، وتلتها هزائم أخرى نفسية أشد قسوة.
حارب العرب والمسلمون الاحتلال الأجنبي الذي كان يسمى استعماراً  ولكن كما قال الأستاذ محمد قطب خرج المستعمر الأبيض وحلّ محله المستعمر الأسمر الذي كان أشد قسوة واستعباداً وإذلالاً ، والعبد عبدٌ تغير السيد أو انتقل من سيد إلى سيد . وها أنا أكتب عام 1434ه، أو 2013 وقد تحركت الشعوب العربية وأسقطت ثلاثة طغاة والحمد لله.
المرحلة الجامعية:
نجحت في اختبار الثانوية العامة بتقدير 71% وكان ترتيبي هو 99 مكرر من الناجحين وعددهم سبعمائة وهو نصف من تقدم للامتحان أي أن النجاح في تلك الأيام الخوالي لم يكن سهلاً، كما أن الاختبارات تجرى في لجان عامة خارج المدرسة ويعطى كل طالب رقم جلوس ولكل طالب رقم سري يرتبط به، وعلى الرغم من أن مستواي العادي كان فوق ذلك لكن هيبة الاختبارات العامة كان يجعلني أتراجع عن مستواي الحقيقي.
وبعد النجاح كان لا بد من البحث عن الابتعاث فوصلتني برقية من زوج عمتى العقيد صلاح محمد مطبقاني يقول فيها يوجد بعثة لمازن فليحضر للرياض لتقديم أوراقه. وجملت أوراقي وركبت الطائرة وكانت إما داكوتا أو دي سي 6 DC6وطريقة شراء التذكرة ملتوية كأن يعطوك كعب تذكرة مستعمل وتركب الطائرة باسم شخص آخر فلا تدخل في عدد الركان ولا تدخل التذكرة خزينة الخطوط وكانت الطريقة مهينة إلى حد كبير، حيث يظل الراكب المختلس مقعداً ينتظر حتى آخر لحظة وقد يسافر أو لا يسافر، وكانت الطائرات تتأخر كثيراً ولذلك فبعض الناس كانوا لا يأتون إلى المطار إلّا بعد أن يتلقوا خبراً بوصول الطائر فالمطار لم يكن بعيدا ًوكانت ربع ساعة تكفي للوصول إلى المطار.
كانت البعثات لدراسة الطب في النمسا والهندسة في أوروبا وأمريكا والبعثات التي تقدمت إليها كانت من وزارة الدفاع  وبدأت الإجراءات وكان من ضمنها مقابلات شخصية وتحريات لا أول لها من آخر... وكان من ضمن المقابلات واحدة مع العقيد (اللواء فيما بعد) صالح السديس وسألني أنت مولود في الأردن فهل كان أبوك يعمل مع الحكومة السعودية أو هل كان تاجراً قلت  له لا هذه ولا تلك والدي خدم في الحكومة الأردنية، فربما كان هذا هو السبب أنني لم أحصل على البعثة أو كان ملفي فيه ما يمنع قبولي عندهم وربما كان السبب أنني تحدثت ذات يوم عن العدالة الاجتماعية في المملكة وتوزيع الثروة وعدد المخبرين في ذلك الزمن كثير (وربما لا  يزالون) ولعلهم لم ينقصوا بعد أربعين سنة أو هم يزيدون دائماً
وأتساءل ويحق لي أن أتساءل ما تأثير المخبرين في المجتمع؟ هل هناك دراسات اجتماعية عن المخبربين وعلى المجتمعات التي تُبتلى بهم وبكثرتهم وعلى العلاقات بين أفراد المجتمع الذي يكثر فيه هؤلاء، كما أتساءل حول تأثير هذه الصناعة أو المهنة في المجتمع...
وحتى لا أطيل في هذه القصة فقد أخفقت في الحصول على المنحة من وزارة الدفاع وأحمد الله عز وجل أنني فشلت أو على الأصح أخفقت لأن الانخراط في وزارة الدفاع يعني أنني بعد الحصول على المؤهل سأصبح ضابطاً فأكون شخصاً آخر.
وهنا قام عمي محمد وقد كان يعمل في وظيفة مدير عام التعليم الفني بالسعي لدى وكيل وزارة المعارف صديقة أحمد عبد الوهاب واسع لابتعاثي لدراسة الإدارة الصناعية وكان معي في البعثة حسين أبو الطاهر وأحمد حسن سمباوة ، فأتممت إجراءات البعثة وحصلت على جواز السفر ، وعندما كنت في إدارة الجوازات كتب الموظف اسمي بالحرف اللاتينية دون أن يسألني فقد أخرج دفتراً كان لديه بأسماء أسر المدينة الذين  سبق أن مُنحوا جوازات سفر فكتب أسمي Mazin Salah Motabbagani
وأقيمت حفلة لتوديعي في بيتنا في قباء حيث كانت لنا دكّة هي عبارة عن مجلس صغير أمام الباب يطل على حديقة صغيرة وقدمت إلي هدايا عبارة عن بضع مئات من الدولارات وكانت ثروة ضخمة بالنسبة لي حيث لم يزد المبلغ الذي في جيبي في أي وقت من الأوقات عن عشرة ريالات، وبدأت الرحلة إلى جدة حيث أقمنا أنا وحسين أبو الطاهر في فندق الحرمين في باب شريف قريباً من البحر وبعد حصولنا على التأشيرة انطلقنا إلى بيروت ومنها إلى جنيف بسويسرا ثم لندن.
كان التوقف الأول في بيروت وكان شهر أكتوبر وفي ساحة الشهداء نزلنا بفندق متواضع، وكان من مظاهر بيروت ملاحقة المصورين للسياح فيلتقطون الصورة شئت أم أبيت وقد تدفع المال ولا تحصل على صور ولا غيره وأتذكر من بيروت المطاعم اللبنانية والفطور الشهي فما زلت أذكر صحن الفول والحمص حتى إنني أعتقد منذ ذلك الحين أن صحن الفول في بيروت يساوي كوزي في بلد آخر حيث يصحبه أوراق النعنع والبصل الأخضر والفجل وغيره.
وانطلقنا من بيروت إلى جنيف ولم نمكث سوى ليلة واحدة رأيت فيها الخضرة فبقيت عالقة بذهني حتى إنني عندما أرى هجوم العمال لزراعة الورود في شوارع الرياض أقول سوسرة الرياض، ولكن في الرياض سرعان ما تبدأ المشروعات بالهدم والتحفير فتذهب كل الجهود سدى.
وبعد جنيف توجهنا إلى لندن وكان مع رفيقي حسين عناوين شقق في شارع كوينز وي فنزلنا في أحداها ولا أذكر كثيراً من تلك الرحلة.
وصلنا أخيراً نيويورك فكانت الملاحظة الأولى في نيويورك ارتفاع المباني الارتفاع الشاهق وكثرتها والشوارع الواسعة. فما نزلنا الفندق حتى اتجهت أبحث عن مكتب البرقيات وكان في ذلك الزمن هذا النوع من الخدمة فأرسلت  لوالدي برقية تقول وصلنا سالمين وكانت باللغة الإنجليزية we reached New York safely والتاريخ هو 18 أكتوبر 1968(25 رجب 1388هـ)
وكان علينا أن نزور مكتب الملحق الثقافي وكان اسمه Saudi Arabian Educational Mission فقام الملحق بترتيب التحاقنا بمعهد اللغة في مدينة لوس أنجلوس وتسمى تلك المدارس التي أصبحت الآن امبراطورية كبرى ELS خدمات اللغة الإنجليزية واسم البرنامج دورات مكثفة في الإنجليزية Intensive Course in English.

قابلنا في مطار لوس أنجلوس رجل من كنيسة الباب المفتوح اسمه إميري فرحّب بنا وأخذنا إلى الفندق في سيارته الكبيرة وكان لطيفاً ، وجاءنا في اليوم التالي لإيداع ما لدينا في البنك والحصول على دفتر شيكات كما أوصلنا إلى المدرسة وعنوانها 511 S. Bonnie Breaوبعد أن أوصلنا إلى المدرسة وأجرت لنا الاختبارات اللازمة وتحديد المستوى لكل طالب كان مستواي أعلى من بقية الطلاب فدخلت المستوى الثالث بينما قُبلوا في المستوى الثاني، وكان قد بقي أسبوعان على المستوى فالتحقت بعدها بالمستوى الثالث وكنت مجتهداً فكتب الأستاذ يمكنه أن ينتقل للمستوى الخامس دون المرور بالمستوى الرابع، ولكن المدرسة أصرت على أن أدرس المستوى الرابع فلم أستفد كثيراً وقبل أن تنهتي السنة كنت أنجزت دراسة اللغة وحققت درجة عالية في اختبار ميتشغان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية