بين التعبئة والتصنيع

دخلت الى مكتب رئيسي في العمل قبل سنوات وكان عنده ضيف قدمه إلي باسم الدكتور فلان ودعاني إلى مشاركتهما الحديث الذي لم يكن له علاقة بالوظيفة فإذ بالدكتور يتحدث عن استيراد معدات لتنظيف العمارات الشاهقة والفنادق بحيث تقف السيارات التي تحمل معدات التنظيف خارج العمارة وتمدد الخراطيم وتنصب العربات وتتم عملية التنظيف كلها من خارج العمارة. وتحدث الدكتور وهو فرح مسرور بهذا الانجاز الذي لم تتوصل اليه شركة اخرى في البلاد.
استأذنت في الكلام، فقلت للدكتور هل يمكن أن تخبرني عن الدور الذي نقوم به نحن ابناء البلاد في هذه العملية؟ قال متعجبا – وكأنه شك في فهمي وذكائي-ماذا تقصد؟ إننا نستورد هذه الالات ونستقدم العمال يشغلونها ونحن نشرف على العملية. ثم ان هذه المعدات لم يسبق لاحد استخدامها في بلادنا. قلت له أفهم هذا كله ولكننا لانفعل شيئا فالمعدات مستوردة فاذا ما تعطل مسمار في هذه الالات توقفنا عن العمل وأسرعنا نرسل (التلكسات) (في ذلك الزمن البعيد) – لم يكن الفاكس شائعا حينذاك ولا الهاتف ولا البريد الإلكتروني-ودفعنا مبلغا ضخما وربما رأت الشركة ان ترسل خبيرا لإصلاح الآلة فاحتاج الخبير الى تذاكر بالدرجة الأولى واقامة بفندق راق واجرة مرتفعة!
ان هذه الشركات التي اغرتنا باستيراد معداتها وأوهمتنا بالأرباح الخيالية لم توضح لنا تكاليف تشغيلها أو صيانتها واضفت: اننا حينما نستورد هذه المعدات انما نسهم في قتل الطاقات الابداعية لدينا ونقدم المال لغيرنا لاستخدامه في تشجيع الشباب لديه للإبداع والاختراع!
لم يقتنع الدكتور بما قلت فهو لا يهمه الا كيف تتضخم ارصدته في البنوك. اما رئيسي فربما ندم على دعوتي لمشاركتهما في الحديث!
لاشك ان التصنيع ليس بالأمر الهين فهو بحاجة لدراسات عميقة للجدوى وتوفر المواد الخام والاحتياج من الايدي العاملة والسوق المحتملة ولابد من معرفة مصدر معدات المصنع وقطع غيراه ... ان التصنيع مغامرة كبرى لا يقدم عليها الا من فكر في بلاده وامته واراد لها العزة والرقي بين الامم.
ولقد خطت بلادنا والحمد لله خطوات رائدة حين اسست اولا صندوق التنمية الصناعي الذي يقدم القروض السخية لأصحاب المشروعات الصناعية كما أسهمت الحكومة في شركات صناعية كبرى وان المجمعين الصناعيين في الجبيل وينبع يعدان بحق مفخرة لهذه البلاد ولحكومتها. فليست ثمة عذر لأصحاب رؤوس الاموال في التردد في التصنيع.
فهذه الخامات في باطن الارض وظاهرها، وها هي المواد المستخرجة من البترول ومشتقاته بين ايديهم فأين الهمم لصناعة الدواء والغذاء والملبس؟ لقد آن الأوان ليعمل شبابنا في المصانع والمعامل والمختبرات يعرفون الجليل والدقيق من خبايا الصناعة. ولا يكفي أن تكون صناعتنا تركيبا بل لابد ان نصنع الآلات والمعدات ابتداء من مساميرها وبراغيها حتى أكبر قطعة فيها... كما اتمنى ان يأتي اليوم فلا تكون عبارة صنع في السعودية على عصير او مناديل بل على السيارات والمعدات الثقيلة والطائرات وغيرها....
وقبل أسابيع كتب الأستاذ عبد الله عمر كامل عن الاقتصاد الإسلامي وجاء على ذكر الانفاق، وبيّن كيف ان الاسلام حث على الانفاق وبين ان ذلك لا يكون فقط في الصدقة والاحسان بل انشاء المصانع وتوفير فرص العمل من الانفاق لأن عكسه هو الامساك وحبس المال وكنزه فهل يتحرك أثرياؤنا لمثل هذا الانفاق المبارك.
المقال (113) المدينة المنورة   العدد 9711 في   7رجب14141ه، 20/ 12/ 1993م


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية