الاستشراق وكلية الدراسات الاوروبية

تناولت في مقالتين سابقتين مسألة دراسة الاستشراق من حيث انتاج المستشرقين ومدارسهم ومعاهدهم وأهدافهم وخلفياتهم الثقافية والعقدية وأوضحت ريادة جامعة الإمام بإنشائها وحدة الاستشراق والتنصير بعمادة البحث العلمي بالرياض ثم إنشاء قسم جامعي هو قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة، وبينت بعض إنجازات هذا القسم الفريد من نوعه في الجامعات الإسلامية، ولما تفضل علي بعض الاخوة بقراءة المقالتين تلقيت مقترحات عديدة لمواصلة الحديث في هذا الجانب المهم وكان من بين المقترحات لماذا لا يكون عندنا كليات لدراسة الغرب دراسة علمية عميقة فقسم واحد او عدة اقسام لا تكفي لمثل هذه المهمة الخطيرة.
لقد ذكرت في مقالتي الاولى ان الدكتور السيد محمد الشاهد قد أعد اقتراحا بدراسة الغرب دراسة موسعة من جميع الجوانب الفكرية والثقافية والعقدية والاجتماعية والسياسية وحاولت العثور على هذه الدراسة فلم اهتد إليها لذلك قررت أن أتناول هذا الموضوع من خلال ما يتيسر لدي من مراجع.
ان الحرص على دراسة الغرب تنطلق أولا من أننا أمة الشهادة والأمة الوسط ومن مسؤولياتنا أن نعرف الأمم الاخرى معرفة وثيقة ليكون بين أيدينا الحجج والبراهين حينما ندعوهم الى الإسلام، وهذا هو هدي القرآن الكريم حينما بسط الحديث في معتقدات المشركين من العرب وعيوب حياتهم اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ... وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على علم بمجتمع قريش ولكن القرآن جادل المشركين ليكون درسا لهذه الامة في دعوتها لغيرها من الأمم، وقد أوضح القرآن كذلك تاريخ بني إسرائيل والنصارى وانحرافاتهم العقدية والسياسية والاجتماعية.
وعندما هب الغرب من سباته على انطلاقة الاسلام وفتوحاته العظيمة سعى إلى دراسة الإسلام والمسلمين فظهرت اولا ترجمات القرآن الكريم إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية المختلفة، واستمر القوم يتوسعون في دراساتهم للإسلام تاريخا واجتماعا وسياسة وثقافة وعادات وتقاليد حتى لم يبق صغيرة ولا كبيرة في حياة الامة الإسلامية وشعوبها إلا أخضعوه للدراسة والفحص.
وبعد أن كان الاستشراق حكرا على مجموعة من علماء اللغة الذين تصوروا أن باستطاعتهم دراسة كل شيء من التاريخ إلى العقيدة إلى علم الاجتماع تغير الحال فأخضعت هذه الدراسات لمختلف التخصصات كعلم الاجتماع والتاريخ وعلم الانسان (الأنثروبولوجي) والسياسة والاقتصاد والقانون بالإضافة إلى علوم اللغة وعلوم الشريعة المختلفة.
وللدلالة على اتساع اهتمام الغرب بالإسلام أنشأت الحكومة البريطانية مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية التي تعد بحق كلية أو أكثر من ذلك حيث تضم عدة اقسام اكاديمية يقدم كل منها تخصصات جامعية في نخصص او أكثر من التخصصات الآتية:
1-             قسم اللغات والثقافة فبالإضافة الى التخصص في لغة واحدة أو لغتين كالعربية والبربرية مثلا ويمكن للطالب الجمع بين تخصصين في مجالات كاللغة والآثار أو اللغة وعلم الانسان الاجتماعي...الخ.
2-             التاريخ ويعد هذا القسم أكبر أقسام الكلية بل هو من أكبر الأقسام في الجامعات البريطانية على الاطلاق ويدرس التاريخ فيه حسب المنطقة او الفترة الزمنية ويمكن دراسة التاريخ مع فرع معرفي آخر كالجغرافيا أو علم الاجتماع أو السياسة والاقتصاد أو القانون ... الخ.
3-             القانون.
4-             علم الانسان وعلم الاجتماع.
5-             الدراسات الاقتصادية والسياسية.
وبالإضافة الى الدراسة الجامعية المتخصصة اهتمت الجامعات الغربية ومراكز البحوث بعقد المؤتمرات والندوات والمحاضرات والحلقات الدراسية، فرابطة دراسة الشرق الاوسط الامريكية تعقد مؤتمرا سنويا يشترك فيه أكثر من خمسمائة عالم وباحث، ويتضمن المؤتمر عقد عشرات الحلقات الدراسية للجان المؤتمر المختلفة.
كما ان مركز دراسات الشرق الادنى والأوسط بجامعة لندن يعقد مؤتمرا سنويا كذلك، ويجب ان لا نغفل مراكز الدراسات الإسلامية في فرنسا ومؤتمراتها السنوية والدورية وبحوثها المستمرة حول دول العالم الاسلامي المختلفة وبخاصة دول شمال افريقيا ... وكذلك دول اوروبا المختلفة.
ويمكن أن نضيف الى ذلك ان الجامعات الغربية نجحت في اجتذاب الدراسات العليا من انحاء العالم الاسلامي وشجعتهم على دراسة قضايا بلادهم ومشكلاتها لتوفير معلومات للغرب لا يستطيع الحصول عليها لولا هذه الدراسات، ويجب ان لا ننسى العدد الضخم من الدوريات والمجلات المتخصصة بقضايا العالم الاسلامي وكذلك الكتب والموسوعات.
لهذا كله فلابد من التفكير الجاد في هذا الاقتراح بإنشاء كليات متخصصة لدراسة الغرب دراسة عميقة، وهذه الدعوة موجهة الى الجامعات الاسلامية بعامة والى الجامعات في بلادنا بخاصة وان جامعة الامام التي كانت سباقة ورائدة في دراسة الاستشراق لقادرة بإذن الله على مثل هذه المشروعات الكبرى بعد دراستها من قبل المتخصصين والله الموفق.

المقال 138 "المدينة المنورة"         العدد 11410 في الاثنين          18/ 1/ 1415هـ                       27/ 6/ 1994م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية