من تجربتي في البحث العلمي


عندما أعددت خطة البحث التي كانت بعنوان (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية من عام 1349-1358هـ/1931-1939م) لم أجد في مكتبة جامعة الملك عبد العزيز سوى أربعة أو خمسة كتب، ولكن استطعت والحمد لله إعداد الخطة في فترة وجيزة، واستطاع المشرف أن يقنع القسم والكلية بالموافقة على الخطة، وتلك ميزة أحسب أنها ممتازة لصالح قسم التاريخ في الأعوام 1402 و1403هـ أعددنا الخطة ثم لمّا بدأت الكتابة لم أجد مادة كافية في فصل أو أكثر فحذفت دون إجراءات مطولة. وكأنّ الأستاذ هنا مؤتمن على أن يقدم الطالب بحثاً جيداً.
     بدأت التفكير بالسفر إلى الجزائر، والجزائر في تلك الأيام وربما حتى الآن، ليست بلداً سياحياً للعرب، الفنادق إما باهظة التكاليف، أو تعيسة قد ينقطع الماء فلا تجد ما تشرب أو تغسل وجهك أو تتوضأ. ولكن لمّا كنت أعمل في الخطوط كنت أطلب من مدير المحطة أن يقوم بالحجز، وربما الاستقبال والمساعدة. ومن الفنادق التي نزلت فيها الأورواسي-وهو الفندق الكبير الذي ينزل فيه ضيوف الدولة-ونزلت في فندق ألبير برميير (يعني ألبرت الأول) (من هو ولماذا يسمي الجزائريون فندقاً باسمه لا أدري) ونزلت في فندق الجزائر وفي فندق السفير. وأذكر مرة أنني نزلت في فندق بلا نجوم أو من الدرجة العاشرة فلم أتمكن من البقاء فيه ساعة لأنه غير مريح، غير نظيف، تعيس بكل معنى الكلمة. وكان لي صديق من الجزائريين فطلبت منه أن يستضيفني في بيته وفعل. وكان يركب التاكسي إلى بيته، فجاء إلى الفندق وحملت حقيبتي وقال تعال نُصلب! أي نقف فترة طويلة ننتظر أن يصل تاكسي، فقد كان عدد سيارات الأجرة قليلاً جداً في الجزائر في عام 1403هـ وكان ذلك في شهر شوال. أي بعد أن أمضيت أيام العيد مع أولادي انطلقت إلى الجزائر.
     وبينما أنا أتجول في شوارع العاصمة مررت بمكتب الخطوط إما لأمر يخص الحجز أو لشيء آخر، وطلبت من الفتاة التي تعمل في المكتب كأس ماء، فكان هناك أستاذ مصري فقال ما دمت تعرفهم فهل تتوسط لي للحصول على الحجز للحج؟ فقلت سأحاول، ودار الحديث بيننا عن سبب مجيئي إلى الجزائر فأخبرته بأنني أبحث في التاريخ الجزائري وبخاصة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. فقال غداً يبدأ ملتقى الفكر الإسلامي السابع عشر في قسنطينة وستجد عدداً من العلماء في المؤتمر، ويمكنك زيارة وزارة الشؤون الدينية ويرتبوا لك الاشتراك في المؤتمر والسفر مع ضيوف المؤتمر في الطائرة الخاصة. وكان معه سيارته الخاصة فاصطحبني إلى الأستاذ حمودة من كبار المسؤولين عن الملتقى، فلما عرف سبب زيارتي رحب بي. وبالفعل كنت في الموعد المحدد في المطار وركبت معهم. وفي أثناء الرحلة سمعت بعض المشايخ يتحدثون عن جمعية العلماء، فالتفت إليهم وقلت أنا طالب ماجستير من السعودية وجئت لأبحث في تاريخ الجمعية. فرحبوا بي وبدأ الحديث لأتعرف منهم على أسماء العلماء الذين مازالوا على قيد الحياة ومن المهم أن أقابله وأخذت معلومات كثيرة.
     وصلنا قسنطينة وهي مدينة تقع شرق العاصمة الجزائر وتبعد حوالي ثلاثمائة كيلومتراً أو أقل قليلاً. بدأ توزيع الضيوف على الفنادق فقيل لي إنك جئت متأخراً فليس لك غرفة في فندق ولكن ستسكن مع بعض ضيوف المؤتمر في سكن الطلاب في مدرسة الإدارة. فقلت لا بأس وكان خيراً حيث في هذا المكان المتواضع تعرفت إلى عدد طيب من الإخوة الجزائريين الذين أصبحوا أصدقاء، ومنهم الأخ الذي استضافني في بيته عدة مرات. وهذا الأخ هو الأستاذ عبد القادر برهومي (درس الفلسفة في بغداد) والآخر محمد شيوخ. وقابلت الشاعر الأخضر وشاعراً آخر هو مصطفى الغماري (وكان شاباً وزار إيران وتحمس للثورة في إيران، ولعله تراجع الآن عن تلك المواقف) وقابلت آخرين – كنت أدون مذكراتي في الرحلات ولا زلت وكثير من الأسماء حينما أبدأ في تنقيح هذه المذكرات إن شاء الله سأسجلها (الدفاتر ليست بين يدي الآن) 
أمضيت أسبوعاً جميلاً حضرت كثيراً من محاضرات الملتقى الذي كان عن الاجتهاد وحضره من السعودية الدكتور عبد الله التركي وقدم بحثاً عن الاجتهاد عند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.

     عدت إلى الجزائر وبدأت في زيارة المكتبة الوطنية للاطلاع على الصحف الجزائرية القديمة والسؤال عن الوثائق. وفي اليوم الأول بعد أن اطلعت على بعض الصحف القديمة وقلبتها أردت أن أصور بعض المقالات. فقيل لي لا يسمح لك بتصوير أكثر من عشر صفحات. فغضبت وانفعلت وقلت له أحضر إلى هنا من السعودية وتسمح لي بعشر صفحات فقط في اليوم فلو كنت أريد تصوير مائة صفحة لاحتجت إلى عشرة أيام، وأنا موظف وليس لدي الإمكانية أن أبقى مدة طويلة. ثم قلت له مستعد أن أشتري لكم الورق. فقال لا نريد منك ورقاً ولا نحتاج لمالك، هذا هو النظام. وبعد محاولات عدة معه سمح لي بأن أصور أكثر واسم هذا الموظف محمد رحومة. وصورت ما استطعت تصويره. ولكن قبل أن أستطيع استخدام المكتبة كان لا بد أن أمر على مدير المكتبة، وكان يأتي يوماً ويغيب الآخر، وأخيراً لما جاء دار بيني وبينه حديث عرفني وعرف رسالتي، فوافق على أن أستخدم المكتبة.
     وأخبرني أحدهم أن الصحف الجزائرية القديمة موجودة في المكتبة الوطنية في باريس في الفرع التجاري وبإمكاني شراؤها. فأخذت ما أستطيع، واشتريت كتباً، وربما قابلت بعض العلماء في هذه الرحلة. وكان لا بد من رحلة أخرى. ولكني علمت أن زميلاً من جامعة الإمام يبحث في الجمعية ويمتاز باللباقة وطيب المعشر، فحصل على كثير من المعلومات التي لم يبخل بتقديم نسخ منها لي كما أنني قدمت له ما حصلت عليه من الجزائر في رحلاتي المتعددة، لأنني كنت موظفاً في الخطوط السعودية، أما هو فمعيد ولا تسمح إمكاناته بأكثر من سفرة واحدة. واسم هذا الباحث الدكتور اسحق عبد الله السعدي. وتخصصه ثقافة إسلامية بينما كنت متخصصاً في التاريخ الحديث. وأشرف عليه أستاذ فاضل هو عمر الخطيب رحمه الله ، وجاءت رسالته في ثلاث مجلدات بينما لم تزد رسالتي عن مائتين وستين صفحة.ولمّا عرف الدكتور أبو القاسم سعد الله أنني قدمت بعض المادة العلمية لزميلي إسحق قال الباحثون في موضوع واحد يستأثر كل منهم بما عنده من وثائق ليأتي بحثه متميزاً. فقلت له أنا لا أؤمن بهذه الفلسفة. وكدت أضيف سيكون بحثي مميزاً مهما كانت الأمور
زرت الجزائر ثانية وثالثة ورابعة أجمع مادتي العلمية وأقابل العلماء وأجري معهم لقاءات علمية أسجلها بالمسجل لأفيد منها في كتابة البحث، وكن من هؤلاء المشايخ محمد خير الدين رحمه الله وهو من الأعضاء المؤسسين للجمعية والشيخ حمزة بوكوشه، وله صوت مميز وكبير في السن ومن الأعضاء القدامى، وقابلت محمد الصالح الصديق، وقابلت محمد صالح رمضان، وقابلت محمد قنانش، وهو من حزب الشعب الذي أسسه مصالي الحاج وهو من المتغربين رحمه الله، وكان قنانش يكيل السباب للجمعية لأنها مؤسسة على الدين وهم لا يرون الدين يصلح أن يكون أساساً للعمل السياسي.
    كما قابلت أمين مكتبة رئاسة الجمهورية، وحاول أن يوهمني بدوره الكبير في أمور الحركة الوطنية، ولكن نبرة صوته كانت تنبي عن غير ما يقول. وكان من أدلتي على ذلك أنه امتدح رجلاً كان يقول: "حيثما تكون ثورة أكون، وحيثما أكون تكون ثورة" ومثل هذا الكلام يقوله المعجب بنفسه. وقديماً قيل" كفى بالمرء جهلاً أن يُعجب بكل ما عمل". وهذا المعجب بذاته أحمد توفيق المدني
وقابلت وزير الشؤون الدينية الشيخ الأستاذ عبد الرحمن شيبان (رحمه الله)-أصبح رئيساً للجمعية بعد إعادة تنشيطها، ولكن شتان بين جمعية حاربت الاستعمار الفرنسي وجمعية تحارب العلمانية والتغرب والتفرنس. ورجال زمان ليسوا مثل رجال اليوم، وإن كنت لم أطلع على نشاطاتهم تماماً ولكني أميل إلى أن الجمعية الأولى كانت أقوى.
وفي لقائي مع الوزير سألته عن رأيه في كاتب صحفي أو رئيس تحرير صحيفة الشعب الجزائرية محمد عباس وكان يكتب مقالات ينتقد الجمعية وينتقص منها ومن رجالها ويسخر. فقال أقول لك بيتين هما ما أقوله فيه: وبدأ يقول الأبيات وأحببت أن أكتب فقال لا لا تكتب. ولكني حفظت، والبيتان هما:
وشادن قلت له ما اسمك يا فتى فقال باللثغة عبّـــاثُ
فصرت من لثغته ألثغ وقلت أين الكاث والطاثُ
وحدثت لي قصص طريفة أذكر واحدة منها أنني كنت في الجزائر في وقت قدوم الحجاج وكانت طائرات السعودية مزدحمة، وتذكرتي المجانية لا قيمة لها، فذهبت إلى الجزائرية، أبحث عن مقعد لأنني مضطر للعودة إلى العمل، فبت الليل كله في المطار أنتظر رحلة الخطوط الجزائرية في صباح اليوم التالي. واشتريت تذكرة بالعملة الصعبة أو ببطاقة الائتمان. ولكن كانت ليلة عصيبة لم أعرف أنني سأعود إلى المملكة بعد يوم أو يومين أو شهر. وركبت الطائرة ولم يكن فيها مقعد واحد شاغر والركاب معظمهم من كبار السن ومن القرى وبعضهم لم يركب الطائرة من قبل فكانت رحلة صعبة، ولكن ما أجمل الرجوع إلى الوطن

وفي أثناء البحث في تاريخ الجمعية زرت مدينة إكس إن بروفانس وباريس وكانت لي تجارب طريفة فيهما.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية