الندوة الأولى للتعليم العالي

        أعلم أن هذه ليست الندوة الأولى التي تعقد في وطننا الحبيب حول التعليم العالي حيث إن رؤساء الجامعات ومدراءها، وعمداء بعض الكليات أو عمداء القبول والتسجيل قد عقدوا ندوات مختلفة في الأعوام الماضية. ولكنها بحق ندوة التعليم العالي الأولى التي تتناول التعليم العالي عموماً فمرحباً بهذا العمل العلمي المبارك.
         فبينما كنت أعد لكتابة هذه المقالات عن التعليم العالي وجدت أن لدي رصيداً طيباً من المقالات الصحفية حول هذا الموضوع حتى إن ابني سألني عن مقالة للدكتور الفوزان نشرت قبل أكثر من سنة ونصف فوجدت أنني أحتفظ بها. وقد قسّمت ما لدي من مقالات إلى قسمين أحدهما يتناول عملية التعليم العالي من حيث إعداد الأستاذ والطالب، والمناهج والكتاب الجامعي والمكتبات والمؤتمرات والندوات، بينما يتناول القسم الثاني البحث العلمي وتأخر العالم العربي في هذا المجال واقتراحات لدعم البحث العلمي.
        وأجد أن أجمل ما أبدا به هذه السلسة من المقالات عبارة اقتبسها من مقالة للدكتور ناصر بن علي الحارثي (عكاظ 19صفر 1418هـ) يقول فيها: "إن ولاة الأمر في بلادنا حريصون كل الحرص على تطور المسيرة التعليمية في بلادنا وإغداقهم على التعليم بتخصيص أكثر من نصف ميزانية الدولة سنوياً يعكس هذا الحرص . وتبقى مسؤولية القائمين على التعليم"
        نعم إن الذي ينظر إلى الصروح العلمية الضخمة التي أقامتها حكومتنا الرشيدة في مختلف أنحاء المملكة بالإضافة إلى أرقام الموازنات السنوية يدرك بكل تأكيد مدى حرص ولاة الأمر على هذا القطاع الذي يعد بحق إحدى الواجهات الحضارية الرائعة لهذه البلاد. حتى إذا حانت الفرصة لعدد من أعضاء هيئات التدريس السعوديين لزيارة سوريا أو المشاركة في المؤتمرات العلمية حتى رأينا ما يثلج الصدر ويدعو إلى الفخر والاعتزاز.
         ولكن التعليم العالي شأنه شأن أي جهد بشري يحتاج بين الحين والآخر إلى المراجعة والتقويم. وهاهي فرصة عظيمة تتيحها وزارة التعليم العالي الموقرة لهذه المراجعة، وإن كان لم يتح لكاتب هذه السطور المشاركة في بحث أو ورقة عمل في الندوة فإنها فرصة مباركة أن أتناول بعض القضايا التي أعتقد أنها ستكون ضمن ما يناقش في هذه الندوة بإذن الله وكذلك تلك التي تناولها الزملاء في الصحف السعودية في السنتين الماضيتين.
         وأبدأ أولاً بالأستاذ الجامعي وظروفه المعيشية فإن اللائحة الجديدة للتعليم العالي صدرت حديثاً ولم يحدث أن تغيير في كادر الرواتب. وليس الراتب هو الهم الأول والوحيد للأستاذ الجامعي وقد أوشكت أن أكتب منذ أكثر من سنتين (حين أثارت بعض الصحف الفرق بين الأستاذ في المراحل المختلفة والأستاذ الجامعي) إنني لا أريد زيادة في راتبي ولكن أرجو أن يتوفر لي السكن المناسب والمكتبة الجيدة والمدارس القريبة لأبنائي وأن أجد المساعدة في مراجعة شؤوني لدى الدوائر الحكومية. ولكني ترددت في كتابة هذا المقال خوفاً من الزملاء الذين يريدون زيادة الرواتب وتوفير الأمور الأخرى.
         أما السكن المناسب فإنني قد رأيته في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن حيث إن الأستاذ المتخرج حديثاً يحصل على منزل جيد يتوفر له الماء والكهرباء والهاتف (وخدمات البريد الإلكتروني) ولا يدفع أكثر من اثني عشر ألف ريال سنوياً بينما يدفع هذا المبلغ أستاذ جامعي يعمل في كلية أو جامعة لا توفر السكن الجامعي لفواتير الكهرباء والماء والهاتف فقط. وقد علمت أن بعض الجامعات كانت تستأجر المنازل وتؤثثها للأستاذ الجامعي ويكون العقد لعدة سنوات. وقد أفاد كثير من الأساتذة من هذه المزايا فمن كان له بيت قام بتأجيره وأفاد من البيت الذي استأجرته له الجامعة.
        كما أن السكن داخل المدن الجامعية التي تتوفر فيها المدارس لمختلف المراحل يوفر كثيراً من المواصلات وتقسيط السيارات وأجور السائقين وغير ذلك من المصروفات كمصروفات الصيانة من سباكة وكهرباء وغير ذلك والوقت الذي يضيع في استدعاء أي فني والمتاعب الناجمة عن ذلك.
        ففي هذا الوقت الذي تنعقد فيه ندوة التعليم العالي نأمل أن تنال هذه الأمور الحياتية فرصتها من النقاش ذلك أن الأستاذ الجامعي إذا ما توفرت له الحياة المريحة كان أكثر قدرة على العطاء والبذل واستطاع أن يستغل وقته فيما يعود على طلابه وعلى جامعته وبالتالي على بلاده بالخير الوفير.
        ومن الأمور التي تطرح في مجال الخدمات التي تقدم للأستاذ الجامعي فهو توفير خدمة البريد الإلكتروني لجميع أعضاء هيئة التدريس أينما كانوا بالإضافة إلى خدمات البريد العادية. فقد تسلمت هدية من أستاذ بجامعة هولندية وكان الظرف من ظروف الجامعة وهي التي تولت دفع مصروفات البريد. فهل يمكن الإفادة من البريد الرسمي للمراسلات العلمية فكم قد بعثت بكتب وبحوث كلفت مبالغ كبيرة. إن توفير هذه الخدمة يوفر للأستاذ الجامعي مصدراً مهماً من مصادر المعرفة فلا يتوقع الإنسان أن يحصل على مادته العلمية دون أن يقدم مقابل لها.
        ولا بد من الإشارة إلى الرسائل العلمية والإغراق في السرية والتكتم عليها لدى بعض الجامعات أو ربما الجامعات السعودية عموماً مع أن الأصل في الرسائل العلمية أن تكون بين أيدي الباحثين. وقد طلبت الاطلاع على بعض الرسائل العلمية في مجال تخصصي فرفض عميد شؤون المكتبات في إحدى الجامعات بحجة أن النظام لا يسمح بذلك. فتساءلت أي نظام؟ إن الرسائل الجامعية في الغرب تصبح في متناول الباحثين بمجرد الانتهاء من مناقشتها. ففي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا مؤسسة الميكروفيلم الجامعي الدولية University Microfilm International. وهذه المؤسسة تطلب من الطالب أن يوقع عقداً يسمح لها بموجبه ببيع نسخ من رسالته لمن يطلبها على أن يرسل له في نهاية كل سنة نصيبه من الإيراد.  فلماذا التخوف من الاطلاع على الرسائل الجامعية هل هو خشية السرقة، إن الكمبيوتر قد ساعد كثيراً في معرفة أصحاب الرسائل ومكانها وملخصاتها. والذي يريد أن يسرق لا يعجزه أن يمنعه النظام الحالي. فهلا أعدنا النظر في هذه المسألة؟  
        لقد نادى أحد الكتاب بأن تعقد ندوة التعليم العالي سنوياً ذلك أنه لا يمكن مناقشة قضايا التعليم العالي كافة في ندوة واحدة. كما أن عقد الندوة سنوياً يتيح الفرصة لعدد أكبر من الباحثين للمساهمة في فعاليات الندوة كما يتيح الفرصة لوزارة التعليم العالي والهيئات المختصة أن تتابع توصيات الندوات وتنفيذها.
        وأود أن أتحدث الآن عن البحث العلمي وأبدأ بمساهمة القطاع الخاص في البحث العلمي؛ فقد صدرت قرارات قبل عدة أعوام تسمح للجامعات ومؤسسات التعليم العالي بقبول التبرعات. وقد كانت خطوة رائعة حيث تتيح الفرصة لأصحاب الأموال والأثرياء أن يكسبوا الأجر ويسهموا في نهضة بلادهم التي وفرت لهم أفضل الأجواء لاستثمار أموالهم. ولكن أخبار التبرعات والأوقاف للتعليم العالي ما تزال نادرة إلاّ ما كان من تبرع أحد الأثرياء لجامعة أجنبية، وتبرع سابك بمبلغ كبير للبحث العلمي. وتساءلت في ذلك الحين ومازلت أتساءل كم من الجامعات أو الكليات أرسلت رسائل إلى الأثرياء تحضهم على التبرع وقدمت إليهم مشروعات محددة ترغب منهم أن يسهموا في دعمها.
        إن حكومتنا الرشيدة حين أعطت الجامعات الإذن بقبول التبرعات إنما تركت الفرصة للجامعات لاتخاذ ما يرونه مناسباً للحصول على التبرعات. ولعله كان من المنتظر أن تدعو الجامعات الأثرياء وتطلعهم على نشاطاتها العلمية ومجالات البحث العلمي الذي يمكن أن يسهموا به. ولما لم يتم ذلك فإن التبرعات لم تأت. ومسألة التبرع للجامعات والبحث العلمي أمر يتعوده رجال المال لأن الباب الوحيد تقريبا هو التبرع للفقراء والمساكين.ولعل الجامعات تبدأ من الآن بعقد لقاءات وندوات عن أعمال الجامعات وما يتطلبه البحث العلمي من إنفاق وبخاصة أن كثيراً من الأثرياء ممن لم يتلقوا العلم في الجامعات، وحتى الذين تلقوا تعليماً جامعياً عالياً وأصبحوا من الأثرياء يحتاج البعض منهم إلى هذه المعلومات. وحاجة الجامعات في الواقع تفوق كثيراً الرواتب والكتب وتتعدى ذلك إلى الدوريات العلمية وحضور المؤتمرات ودعم الرحلات العلمية والنشر.
        والبحث العلمي يحتاج إلى مراجعة شاملة بحيث يتم تيسير سبله، فقد كتب الدكتور مازن بليلة في مقالة له بعنوان: "أنا أرض وراحتاك سماء" تناول فيها استضافة أولاد عارف في قصرهم بقلعة سلامة في الجزائر المؤرخ المعروف ابن خلدون فتهيأت له فرصة تأليف كتابه المشهور(المقدمة). وتناول الدكتور محمد عبد العليم مرسي (صاحب كتاب هجرة العقول المسلمة) في كتاب بعنوان (البحث العلمي عند المسلمين بين ميسّرات الماضي ومعوقات الحاضر) ما كان ينفقه الملوك والأمراء والأثرياء على البحث العلمي حتى ليكاد يتضاءل ما يقوم به الغرب تجاه علمائه، ولا يعد شيئاً مقارنة بمكانة العلماء في هذه الأمة.
        وأشار مرسي (ومرسي فكّ الله أسره) إلى الاهتمام بالبحث العلمي في الغرب وما تقدمه الجامعات من خدمات لأساتذتها لتيسير البحث العلمي ومن ذلك أن يتوفر لكل أستاذ حجرة خاصة به يحتفظ فيها بمكتبة تساعده في البحث وتقدم له خدمات سكرتارية من طباعة، وترتيب المواعيد، واستقبال البريد وإرساله وغير ذلك من الخدمات الخاصة. (لدي رسائل كتبتها منذ أكثر من أسبوعين لم يتيسر لي إرسالها). وفي البحث العلمي لا بد أن أشير إلى مقالة الدكتور علي بن فايز الجحني (وكيل معهد الدراسات العليا بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية) "لمحات في البحث العلمي" حيث أشار إلى أرقام مهمة جداً في مجال البحث العلمي ومن ذلك عدد العلماء في العالم الإسلامي وعددهم في أوروبا وأمريكا، فعددهم في العالم الإسلامي لا يتجاوز خمسة في المائة من عدد العلماء في العالم. وتحدث عما ينفق على البحث العلمي في العالم فذكر أن الإنفاق على البحث العلمي في الولايات المتحدة بلغ أكثر من 35بليون دولار في بداية الثمانينات.
        ومن الذين كتبوا عن البحث العلمي الدكتور جميل محمود مغربي بعنوان "أهمية دعم أبحاث الجامعات" ومما جاء في مقالته قوله: "فإذا كانت الدولة تتولى تمويل الجامعات ورصد ميزانية سنوية ضخمة لكل جامعة فإن هناك أنشطة بحثية بالإمكان التوسع فيها من خلال مد الجامعات بالتمويل اللازم لذلك من قبل الأفراد والمؤسسات والبنوك والشركات ..."  وفي هذا المجال كتب الدكتور عبد العزيز السبيل بعنوان " الجامعات والمؤتمرات والقطاع الخاص" أشار فيه إلى أهمية المؤتمرات العلمية ومما قاله:" إن الحضور الأكاديمي الجاد في المؤتمرات ضرورة علمية ومنهجية لمزيد من التلاقح والتبادل العملي ومشاركة أي باحث في أي مؤتمر علمي ستنعكس دون ريب على عطائه التدريسي والبحثي..."
        وقد كتب الدكتور عبد الواحد الحميد منذ مدة بعيدة حول تبرع أحد الأثرياء بإنشاء كرسي لمجال من المجالات العلمية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. وكنت أنوي حينها التعليق بالسؤال أين الأثرياء لإنشاء عشرة كراس أو أكثر في جامعاتنا المختلفة. وفيما أعلم أن الكرسي يتطلب الإنفاق على الأستاذ وعلى مجالات البحث العلمي الذي يتطلبه إنشاء ذلك الكرسي. وإن البحث العلمي في المجالات التطبيقية مهم جداً وضروري ولكن البحث في الشؤون الثقافية والفكرية والأدبية أمر مطلوب أيضاً.

وبمناسبة البحث العلمي فإن فكرة إنشاء معهد الدراسات الأمريكية الذي تقرر إنشاؤه في مدينة أصيلة بالمغرب فكرة رائعة أتمنى لها التوفيق والنجاح، وأدعو إلى إنشاء كرسي الدراسات الأوروبية والأمريكية في المملكة وبخاصة أننا سبقنا غيرنا في إنشاء قسم الاستشراق- القسم الوحيد في العالم الإسلامي- فإن مكانة المملكة العربية السعودية في العالم الإسلامي من الناحية السياسية والثقافية بالإضافة إلى خبرة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في هذا المجال وفي مجال الدراسات الإسلامية، يدعونا إلى إنشاء هذا الكرسي أو المعهد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية