العلاقة بين التعليم العالي والبحث العلمي


        تابعت باهتمام مقالات الدكتور عبد القادر طاش في صحيفة "المدينة المنورة" عن زياراته للصين الوطنية وكوريا واندونيسيا. وقد لفت انتباهي ما كتبه عن النهضة العلمية التي تعيشها الصين منذ أكثر من أربعين سنة وبخاصة ما تخصصه الصين في ميزانيتها للبحث العلمي، ولعل ما ينطبق على الصين ينطبق على كوريا الجنوبية أيضا. ثم كانت مقالته عن أندونيسيا وصناعة الطائرات. وقد أكدّ الدكتور عبد القادر على أن نجاح اندونيسيا في صناعة الطائرات هو أحد النتائج البارزة لاهتمامها بالبحث العلمي.
     وللبحث العلمي بداية متميزة رائدها وبطلها الحقيقي البروفسور بحر الدين حبيبي والرئيس الاندونيسي سوهارتو الذي قدّم للبروفسور حبيبي كلّ دعم وتأييد. فقد تحدت البروفسور حبيبي في الأمسية التي دعا إليها البنك الإسلامي للتنمية للتوقيع بالأحرف الأولى على إنشاء " المنتدى الإسلامي العالمي للعلوم والتقنية وتنمية الموارد البشرية" وفي هذه الأمسية تناول البروفسور حبيبي ما يزعمه الأعداء بأن الإسلام وتعاليمه تقف عائقاً أما التقدم وضد الإنتاجية والإبداع". فكان مما قاله بأن "العكس هو الصحيح فتعاليم الإسلام تحض على التقدم العلمي وتسخير ثمرات التقنية لإسعاد الإنسان وإعمار الكون، وتعاليم الإسلام تنمّي في نفس الإنسان روح الإنتاجية وتدفعه إلى العمل".
    ويضيف الدكتور حبيبي أن "أبرز عنصرين لتكون العقل العلمي والسلوك الإنتاجي هما: القراءة والانضباط، فهل هناك دين آخر غير الإسلام أعطى هذين العنصرين من اهتمامه ما نلاحظه في تعاليم الدين الحنيف؟"  وقد نجحت اندونيسيا في هذا المجال ومن الأدلة على ذلك ارتفاع ميزان المدفوعات في صالح اندونيسيا في السنوات الأخيرة، ولعل أبرز دليل على نجاح اندونيسيا أنها أصبحت إحدى ست دول تصنع الطائرات التجارية. وقد أورد الدكتور طاش موجزاً لهذه التجربة الرائدة. فقد اتصلت اندونيسيا بالعديد من الشركات الغربية للتعاون معها لصناعة الطائرات ولكن معظم تلك الشركات كانت ترد بالرفض حتى استجابت إحدى الشركات الاسبانية. وها هي اندونيسيا تملك صناعة طائرات يعمل فيها حالياً ألفان وثمانمئة مهندس(2800) وستة عشر ألف عامل (16000) (95%منهم يتوقفون خمس مرات في اليوم والليلة ليلبوا نداء الصلاة)
       فما حال البحث العلمي في العالم العربي الإسلامي؟ لقد كتب الدكتور قسطنيطين زريق (الحياة، عدد 12138في 18صفر 1417م 4يوليه 1996م) يشير إلى أن الدول العربية تعد متخلفة في مجال البحث العلمي سواء اتخذنا عدد حملة الدكتوراه أو عدد المنشورات العلمية ونموها أو عدد مؤسسات النشر مقياساً للمقارنة، لا بالمقارنة بالدول الصناعية المتقدمة ولكن بالمقارنة مع بعض الدول النامية. ويقدم زريق بعض الأرقام عن النسبة المخصصة للبحث العلمي من إجمالي الناتج المحلي لبعض الدول العربية ففي مصر على سبيل المثال لا تزيد هذه النسبة عن 4، في المئة و3. في المئة في الأردن ومثلها في الكويت. وكانت هذه الأرقام وغيرها من التفاصيل قد عرضت في مجلة (المستقبل العربي) لشهر مايو 1996.وقد قدم الدكتور عبد الجليل التميمي في ندوة عقدت في تونس تقريراً عن أحوال البحث العلمي في العلوم الاجتماعية والإنسانية في العالم العربي مما يؤكد ما أورده زريق في مقالته.
    ويقدم الدكتور زريق اقتراحين "لمعالجة هذا الشأن الخطير أولهما: تشجيع مؤسسات البحث العلمي في كل بلد عربي بإمدادها بما تستحق من اهتمام أدبي وعون مادي ...فهذا الجانب من التنمية البشرية وهو الجانب الأساسي لكل تنمية. أما الاقتراح الثاني فهو التنسيق بين الدول العربية في مجال البحث العلمي فما يوجد في بلد عربي قد لا يوجد في بلد عربي آخر. ويمكن "تشجيع أهل العلم والدراية على وضع خريطة عربية متكاملة لهذا النحو من النشاط الحضاري تتوزع فيها المراكز العلمية المتخصصة على الساحة العربية". وقد أورد زريق في بداية مقالته نموذج الجامعات اليهودية في إسرائيل وتعاونها مع مراكز البحث العلمي في العالم كله وبخاصة الباحثين اليهود الذين يقدمون كل دعم وعون للجامعات العبرية. وبمراجعة بعض النشاطات لمراكز البحوث الأمريكية(مثلاً) يتأكد له أن التعاون قائم فعلاً بين هذه المراكز والجامعات العبرية والباحثين اليهود.
       وأود هنا أن أقدم بعض المقترحات العملية لتشجيع البحث العلمي وهو أن تبدأ الجامعات العربية الإسلامية بتكوين أوقاف ومشروعات تدر دخلاً لتمكينها من الإنتاج العلمي والإنفاق على البحث العلمي بسخاء، فهذه جامعة برنستون تملك وقفية تقدر قيمتها بثلاثة بلايين دولار، ولمعهد ماساتشوستس التقني وقفية تقدر 1,6 بليون دولار. وقد شرعت جامعة كمبريدج البريطانية بحملة لجمع 450 مليون جنيه استرلينى لدعم البحث العلمي فيها. فأين المحسنون وأين الباذلون وأين المنفقون ليتقدموا ويجودوا ببعض ما أعطاهم الله ليكون لهم (العلم الذي ينتفع به).
    ومن الاقتراحات العملية في هذا المجال أيضاً رفع مستوى التنسيق الحقيقي بين الجامعات العربية والإسلامية فما زالت الرسائل العلمية تتكرر بين الجامعات في بلد واحد فما بالك بالعالم العربي الإسلامي فأين قواعد المعلومات حول البحوث تحت الإعداد أو البحوث التي تم انجازها. كما إن من المعروف في الولايات المتحدة مثلاً (ومثل ذلك في أوروبا) أن الرسائل العلمية تنشر مستخلصات لها كل سنة. كما إنه من الممكن الاطلاع على أية رسالة علمية بل يمكن شراؤها أيضاً في صورة مايكروفيلم أو شرائح أو بصورة ورقية مجلدة أو غير مجلدة من شركة معروفة (شركة الميكروفيلم الجامعية العالمية) ومقرها الرئيس في مدينة شيكاغو ولها فرع كبير في بريطانيا. وما زالت الرسائل العلمية عندنا لا يمكن الاطلاع عليها.

    وفي ختام هذه الأسطر أود أن أشيد بالاتفاق الذي عقد بين وزارة الدفاع ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية وهي بداية عظيمة تعطى للبحث العلمي دفعة قوية أرجو أن تحذو حذوها جهات أخرى فيكون في ذلك تنشيط للبحث العلمي بإذن الله. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية