لماذا أكره أن أكون متقاعداً أو يُقال لي متقاعد




    عندما أسير في الشارع منتصب القامة مرفوع الرأس وبخطى ثابتة وقوية بل هكذا تطرق أقدامي الأرض بقوة وتتحرك ذراعاي في مشية أقرب إلى المشية العسكرية يحسبني من يراني أنني كنت أعمل ضابطاً في الجيش أو جنديا محترفا، وأنني لا يمكن أن أكون قد تجاوزت الخمسين والحمد لله، وإن سقط مني شيء انحنيت ألتقطه بمرونة فأحمد الله لا أشكو من آلام في الظهر ولا في المفاصل  بل إني والحمد لله قادر على ربط حذائي وأنا واقف دون الحاجة للانحناء أو الإمساك بشيء أو الاستناد إلى شيء...
    أمسك الصحيفة أو الكتاب فأقرأ وأستذكر المعلومات والأرقام كأن ذاكرتي والحمد لله ذاكرة ابن عشر سنين، وقد تعجب الزملاء الذين كنت معهم في رحلة برنامج الزائر الدولي بدعوة من وزارة الخارجية الأمريكية في أواخر شهر مايو 2008م من ذكري لأسماء الكتب والمؤلفين والتواريخ وتواريخ المؤتمرات وأماكن انعقادها، فقال أحدهم سوف يعيد علينا مازن بعد عدة لقاءات ما قاله في اللقاءات الأولى، فإذ به يقدم لنا في كل لقاء معلومات جديدة لم يذكرها من قبل. حتى صرّح الشريف الدكتور عدنان الحارثي  بقوله (عجيب أن الدولة لم تستفد منك أو أن الجهات العليا لم تستفد من خبراتك ومعلوماتك) وأحمد الله أن هذه الذاكرة تعمل بطريقة جيدة.
     ولدي ابنة اسمها فاطمة أكملت عامها الأول قبل ثلاثة أشهر تقريباً (أتمت الآن سبعة أعوام وفي في الصف الثاني وهاشم الذي أتم عامه الرابع قبل أقل من شهر يتم في 5 شعبان عشر سنوات،- فاطمة تكمل اليوم المرحلة الإعدادية وهاشم الثانوية- ونخرج نتجول في شوارع أكسفورد فيطلب هاشم أن أحمله على عنقي قائلاً (فوق رأسي منقا) يعني احملني على رأسك، فأحمله. أما فاطمة فقد استمتعت أشهراً بتدريبها على المشي حتى صارت تمشي، ولكنها لم تمش لأنني دربتها ولكن لأنها وجدت أن ساقيها تحملانها تماماً وأحبت أن تمشي فمشت، وكأن بها عناداً موروثاً وكأنها تقول لن أمشي إلاّ حينما أحس أنني أريد أن أمشي.(فاطمة في الصف الثاني الثانوي، وهاشم طالب في الجامعة من طلبة جامعة الملك عبد الله الشباب الموهوب)
      ولا أريد أن أضيف أشياء أخرى ..
      ومع كل هذا فأنا متقاعد، وقد أحلت إلى التقاعد ولاحظوا عبارة أو مصطلح أحال يعني أن يكون الإنسان في حال ثم يُحوّل إلى حالة  أخرى. وقيل لي إنهم سوف يتعاقدون معي ولكن كيف هذا العقد أو مدته (علمت من رئيس القسم أن المدة سنتان في العادة) ولكن هل يتضمن العقد السماح لي بحضور المؤتمرات أو هل يمولون حضوري المؤتمرات أو أصبح مثل الأساتذة المتعاقدين الذين يحرمون من كل هذه الأمور بل هي قاصرة على الأساتذة السعوديين غير المتعاقدين. وهل هل يهمني مسألة الإذن أو مسألة التمويل؟ سأحضر من المؤتمرات ما أرى أنه مهم في مسيرتي العلمية أما التكاليف فأردد دائماً (والله هو الرزّاق ذو القوة المتين) وقوله تعالى (وفي السماء رزقكم وما توعدون) وتعرفون حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها..) ولم يشغلني في الماضي مسألة تكاليف حضور المؤتمرات فلن يشغلني هذا الأمر الآن بعد أن أصبحت يطلق علي (متقاعد) و(متعاقد)
      ولكن لو كانت هناك قيود هل يحق لي أن أرفض العقد بعد أن طلب منّي أن أكتب أنني أريد أن أتعاقد. وانظروا إلى الطريقة العجيبة لا يقولون هم نحن نريدك أو نحتاجك وإن القسم مهما كثر عدد أعضائه فهو دائماً بحاجة إلى الأساتذة وبخاصة من لهم سمعة علمية معينة.  والعجيب أن هذا الأسلوب متبع أيضاً عندما يفكر الأستاذ أن ينتقل من جامعة إلى جامعة يطلبون منه أن يقدم طلباً على الرغم من أن الجامعة التي سينتقل إليها بحاجته وترغب فيه. فلماذا أسلوب الكبرياء هذا أو الإذلال هذا في التعامل مع الأستاذ الجامعي؟ يتعجبون من الأستاذ عندما يتصرف بكبرياء مع طلابه وهو الذي يعيش في مجتمع لا يسمح له بالكلام إن كان صغيراً في السن حيث يقال له اسكت اسكت اترك الكبار يتكلمون، وإذا كبر قيل له هناك من هو أكبر منك وأعلم وأفهم، وحتى لو كان معيداً أو محاضراً كان تحجيمه سهلاً في النظام وفي التقاليد الجامعية. بل أذكر في مناسبة اجتماعية لم أدع لها وكان التبرير أنت لا تعرف السكوت وخفنا أن يفلت لسانك بكلمة على أحد، قلت والله لهذا هو العذر السخيف. أما إنكم لا تريدون أن تسمعوا من يقول لكم الحقيقة فغير مأسوف على الاجتماع بكم، ولكنكم ستسمعون شئتم أم أبيتم..
     وعرفت كثير من الإجابات فمدة التعاقد سنتان، ويعامل الأستاذ المتعاقد معاملة الأستاذ العادي في مسألة المؤتمرات، ولكني حذفت من دليل أعضاء قسم الثقافة الإسلامية، فيا إخوة ألم يكن ممكناً أن أضاف في آخر القائمة باسم المتعاقدين من السعوديين.
     وكرهت أن أكون متعاقداً لأني يجب علي الحصول على ورقة سخيفة اسمها (إخلاء طرف) حيث يجب علي أن أمر على إدارات لم أزرها في يوم من الأيام لا المطبعة ولا ولا ، وحبذا لو أن عميد شئون أعضاء هيئة التدريس يكلف أحد موظفيه لاستكمال إجراءات هذه الورقة دون أن يضطر الأستاذ إلى اللف والدوران، وإلاّ فإن في ذهني أن أدفع مائة ريال أو أكثر لم يقوم بالمهمة هذه. لقد وفّق الله ابني لؤي لإتمام بعض إجراءات تلك الورقة (المقدّسة)
      وأحب أن أقول كلمة عن عمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس التي زعموا أنهم أنشؤوها لخدمة أعضاء هيئة التدريس بينما هذه الإدارة هي الإدارة السابقة التي كان اسمها إدارة شؤون الموظفين فأضافوا إلى الاسم أعضاء هيئة التدريس وجعلوا لها عميداً. فالعقليات التي كانت تعمل في هذه الإدارات هي هي والتي ترى أن الأستاذ مجرد مراجع في حاجة إلى الموظف العظيم الذي بيده مقاليد الحكم والسلطة والسيطرة، فقد كنت أبحث عن معاملة فأمرني مدير في تلك العمادة أن أزور مكتب الصادر والوارد التي أطلقوا عليه اسماً تحسينيا (الاتصالات الإدارية) ثلاث مرات وهم قد أضاعوا المعاملة لولا أن تجرأت فدخلت على العميد الذي أمرهم بأن يعيدوا المعاملة من جديد (وكأنه يعرفهم ويعرف عقلياتهم)- وهم منزعجون من وجوده لكنه أقوى منهم فأمرهم فاستجابوا. وفي مرات سابقة كانوا يأمرونني أن أذهب إلى مكتب الخطوط لتقدير قيمة التذكر ثم أدور في أوراق معاملة الإركاب فقلت لهم إنني مراسل ولكن بمؤهل أستاذ مشارك، يا عالم عيب أن يتم هذا وأنتم تزعمون احترام الأستاذ....
    ودار حديث بيني وبين العميد عن سبب إحالتي إلى التقاعد بدلاً من التمديد فتمتم وهمهم وغمغم (ما معنى هذه الألفاظ؟) وكأنه يتحدث طلاسماً وكأن الموضوع هو أسرار القنبلة الذرية الذي لا يمكن أن يصل إليه أحد. وإن اعترضت على قرار الإحالة إلى التقاعد كأنك اعترضت على قرار سياسي أو أمني من أعلى مستوى، وكأن الإحالة إلى التقاعد نوع من العقوبة...وكما يقال أن تعجل العقوبة في الدنيا خير من أن يحاسب الإنسان في الآخرة.....
      وعلى كل حال وأخيراً سأستطيع أن أسترد بعض أموالي التي أخذتها مؤسسة التقاعد لتبني بها المجمعات التجارية والأسواق وتكون منها ثروات وثروات حتى كان أحد مقرضي الحكومة في وقت من الأوقات وربما حتى الآن.
    ومع التقاعد فتأتيني رسائل شخصية تستشيرني في مسائل علمية وبدفعهم إلى ذلك عدم قدرة أساتذتهم الإجابة عن أسئلتهم فأتعجب فلماذا تبخلون أن أكون أستاذا زائراً لعدة أيام أو حتى أشهر؟

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية