الغزو الثقافي والمثقفون ومشعل السديري


                                    بسم الله الرحمن الرحيم

             

             قيل في الأمثال العربية "وفي الليل يحمد السُرى" ، وقيل أيضاً " عند الصباح يحمد القوم السُرى" وأقول كذلك وفي القناة الأولى من تلفزيوننا  يحمد النقاش حول هذا الموضوع الذي ما زال يشغل بال المسلمين منذ عدة عقود من الزمن، ويبدو أن بعضنا مازال يتساءل : هل ثمة غزو ثقافي؟ ويزعم أن العالم  أصبح قرية كونية كبيرة والأفكار والثقافة مطروحان أمام الجميع فمن شاء فليأخذ وليتأثر ولن يستطيع أحد أن يمتنع عن التأثر بالعالم من حوله مهما حاول.

      لقد كانت ندوة مباركة تلك التي قدمها التلفزيون في برنامجه ( وجهاً لوجه) الذي يبثه على الهواء مباشرة ، وقد أهمّني كثيراً أن أتابع وقائع البرنامج لتخصصي في مجال الدراسات الإسلامية عند المستشرقين وأنتسب إلى القسم الوحيد في العالم الإسلامي الذي يجعل هذه الدراسات مجالاً للدراسة المنهجية ويمنح فيها درجات الماجستير والدكتوراه.

      نعم تابعت بدقة ما دار في البرنامج وإنني في البداية أكرر شكري للتلفزيون تقديمه مثل هذه البرامج المتميزة في موضوعاتها وطرحها وقد كان اختيار المتحدثين في البرنامج موفقاً حيث عرضوا وجهات النظر المختلفة حول هذه القضية وإن كانت ندوة واحدة لا تكفي مما وجب معه هذا التعليق .

      أبدأ بالقول بأن الغزو الفكري ليس وهماً وهذا ما توصل إليه الدكتور محمد عمارة في كتاب خصصه لهذه القضية بعنوان ( الغزو الفكري :وهم أم حقيقة؟) بل هو حقيقة وقد رجع في كتابه هذا إلى الجذور التاريخية لأوروبا - وما أمريكا إلاّ امتداد لها- حينما شنت أوربا النصرانية الحروب ضد سكان شمال أوروبا - الهمج البرابرة في نظرهم- لإدخالهم في النصرانية . وقد سبقهم اليونانيون في نشر ثقافتهم في البلاد التي احتلوها بدعوى ما سموه الأغرقة ومنها أخذت فرنسا ما سمته فيما بعد "الفرنسة" .

    ويمضي الدكتور عمارة مع الأوروبيين في تاريخهم إلى الحروب الدينية التي اشتعلت في أوروبا عدة قرون بسبب ما سمي عندهم " الإصلاح الديني" حيث لم تتحمل البابوية ظهور مفكرين ينافسونها في تفسير الديانة النصرانية أو ينتقدون فسادها. وكان من نتيجة هذه الحروب الدينية أن انقسمت أوروبا إلى كاثوليكية وبروتستانتية حتى إن الملك البريطاني جعل نفسه رأساً للكنيسة الانجليكانية .

   هذا فيما بين الأوروبيين أنفسهم وهو أمر يحتاج إلى مساحة أطول لتفصيله ولكن ما يهمنا هنا هو  كيف خرجت أوروبا إلى العالم بنظرتها العرقية الاستعلائية تزعم فيما تزعم أنها صاحبة رسالة تفوق "الرجل الأبيض" وأنها مسئولة عن تحضير البشرية. ويعجب المرء حين يرى أن احتلال الدول الأخرى وضعت له نظريات فلسفية واقتصادية وسياسية وجعل الاستعمار أنواعاً متعددة فهذا استعمار اقتصادي وذاك سياسي وثالث ثقافي وديني.

    وحين بدأت هجمة " الرجل الأبيض " على الشعوب الأخرى كانت العملية مدروسة دراسة دقيقة ومنظمة بحيث لم تترك مجالاً للصدف أن يكون لها دور فالغرب يعرف ما يريد من الشعوب الأخرى ويعرف الشعوب الأخرى معرفة دقيقة.بل إن الغرب -كما يقول الدكتور أبو بكر باقادر يعرفنا ويعرف تفاصيل التفاصيل عنّا- ولو رحنا نحصي ما أخرجته المطابع الأوروبية من دراسات -وما تخرجه الآن- عن الشعوب الأخرى لكان ذلك يفوق حتى الدراسات التي تنتجها الشعوب عن نفسها. وأكتفي بنموذج واحد عن دول الخليج العربية وهو دليل لويمر المؤلف من أربع عشرة مجلدة مقسماً إلى قسمين التاريخي والجغرافي . ولا يكاد يترك صغيرة ولا كبيرة في منطقة الخليج إلاّ أشبعها بحثاً ودراسة. 

    ثم كيف وظف هذه المعرفة للغزو الثقافي فأيضا المساحة لا تكفي للتفصيل فيها ولكنّي سأذكر نماذج من هذا الغزو فعندما هجم نابليون في حملته المشهورة وأحضر معه مئات من العلماء والباحثين والفنانين كان يعرف أن العالم الإسلامي مقبل على نهضة مباركة وقد ذكر الأستاذ محمود شاكر مقومات تلك النهضة التي أجهضها نابليون . وعندما اضطر للمغادرة وترك نائباً له أرسل إلى هذا النائب يأمره أن يختار خمسمائة شخصية من شيوخ القبائل والأعيان والأشراف ويرسلهم إلى فرنسا ليعيشوا فيها بعض الوقت ويشبعوا بحضارتها وعندما يعودون إلى بلادهم يكونون أنصاراً لفرنسا.

    ولمّا لم يتحقق هذا لخليفة نابليون جاء محمد علي إلى حكم مصر  والقناصل الأوربيون لا يتركونه يتصرف دون أن يكون لهم كلمة في كل تصرف وبخاصة القنصل الفرنسي الذي أشار عليه أن يبدأ البعثات إلى فرنسا وبدلاً من خمسمائة من الشيوخ وكبار السن حصلت فرنسا على المئات من أنبغ أبناء مصر وأذكاهم ليعيشوا في فرنسا سنوات يعود منهم من يعود بغير الفكر و الرأي الذي ذهب به . حتى رفاعة رافع الطهطاوي إمام البعثة يعود ليمتدح الرقص وغير ذلك من عادات الفرنسيين حتى إنه يطلق على الرقص ( الشلبنة) واستمرت البعثات حتى كان طه حسين الذي دعا إلى الارتماء في أحضان الغرب ورفض كل هوية عربية إسلامية فمصر جزء من أوروبا - ولا أدري كيف أصبح عميداً للأدب العربي-

   ومن أخبار هذه البعثات أن البعثة المغربية حينما أتمت مدة الدراسة أرسل  المشرف على البعثة يطلب تمديد مدة بقاء الطلاب في فرنسا حتى " يتشبعوا بعظمة فرنسا" . أما البعثة التركية فهي وأن كانت لدراسة العلوم الهندسية والفنون الحربية فإن المدربين الفرنسيين الذين تولوا تدريس الضباط الأتراك في فرنسا أو الـذين جاؤوا إلى تركيا حرصوا على توجيه أنظار الطلاب إلى قراءة الأدب الفرنسي بقراءة كتابات فولتيير وموليير وغيرهما.

    ويذكر الأستاذ محمد الصبّاغ أن الابتعاث إلى فرنسا لم يكن مجرد مصادفة فإن فرنسا هي أولى الدول الأوربية التي تخلصت من نفوذ الكنيسة وتحررت من سيطرة البابوات كما أن الحياة الاجتماعية فيها كانت اكثر تحرراً من غيرها من البلاد الأوروبية وهذا ادعى إلى تأثر المبتعثين المسلمين. وأضيف لماذا كانت فرنسا هي التي احتضنت الحركات القومية العربية التي تمردت على الدولة العثمانية؟ هل كان هذا حباً للعرب؟

.    أتعجب كثيراً من الذين يزعمون أن الغزو الثقافي أمر وهمي، هل يعيشون في كوكب آخر أو هل غاب عن أذهانهم أن العالم يتسع لعشرات الهويات والمذاهب والشخصيات وأن الحضارة الغربية مهما كانت قوتها ونفوذها لن تستطيع أن تمحي تلك الهويات والشخصيات؟ هل غاب عنهم ما حاولت الدول الاستعمارية أن تفعله بالشعوب العربية المسلمة التي وقعت تحت نير الاحتلال؟ 

      من السهل أن أحيل القارىء الكريم  إلى عشرات الكتب التي تناولت هذه القضية مثل  كتاب الدكتور محمد محمد حسين -رحمه الله تعالى-(حصوننا مهددة من داخلها ،أو في وكر الهدامين )، أو كتابه (الإسلام والحضارة الغربية ) ، أو كتابة ( الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي الحديث) ، أو كتاب الشيخ محمود شاكر ( رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ) أو كتابه ( أسمار وأباطيل) وغيرها من الكتب ولكنني أود أن أنقل صوراً من واقعنا المعاصر  الذي نعيشه للغزو الفكري الذي ابتلينا به بعد أن رحل المستعمر الأبيض وحلّ محله المستعمِر الأسمر.

        ونبدأ بالجانب العقدي فقد تأثر العالم الإسلامي عقدياً بالغزو الثقافي حيث انتشرت في العالم الإسلامي الطرق الصوفية وابتعد المسلمون عن التمسك بالعقيدة الإسلامية من حيث حقيقة الإيمان بالله عز وجل وأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت. وأتساءل دائماً لماذا تفوق المسلمون الأوائل؟ ولا أجد إجابة أصدق من القول بأن المسألة تتعلق بالعلاقة بين الفرد وربه سبحانه وتعالى. فمتى استقامت العقيدة علم المسلم أن الرزق والحياة والموت بيد الله سبحانه وتعالى. وكم توقفـت عند وصف أحد العرب الذين كانوا في الجيش الروماني في أثناء فتوح الشام حيث قال : جئت من عند قوم رهبان بالليل فرسان بالنهار، الموت أحب إليهم من الحياة. وهذا مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم (توشك أن تداعى عليكم الأمم كتداعي الأكلة إلى قصعتها) قالوا او من قلة نحن يومئذ قال : (لا أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل).

     ألم تتأثر العقيدة الإسلامية بالغزو الثقافي الذي جعل العلاقة بين المسلمين وغيرهم مسألة مصالح وصراع اقتصادي وليس مسألة إيمان أو كفر. وقد تناول مؤلف كتاب (واقعنا المعاصر) مسألة الزعامات الوطنية التي خلت من التوجه الإسلامي وكانت ترى الصراع مع قوى الاحتلال الأجنبي مسألة وطن وتراب ومصالح.

      وظهر الغزو الثقافي في مجال الأدب فكم ظهرت من دعوة في العالم الإسلامي تنادي بتبني المذاهب الأدبية الغربية في الكتابة وفي النقد حتى غفلنا أن لنا تاريخاً عظيماً ولغة من أعظم اللغات في العالم . ومن العجيب أن اللغة العربية التي كتبت وقيلت منذ أكثر من ألف وخمسمئة سنة يمكننا أن نفهمها في العصر الحاضر بينما لا يمكن للناطقين باللغة الإنجليزية مثلاً أن يفهموا ما كتبه  شكسبير أو ملتون. بل إن عند الإنجليز ما يطلقون عليه اللغة الإنجليزية المتوسطة ومنها التي كتـب بها تشوسر " حكايات كونتنبري " . نعم قد يصعب على بعض العرب فهم بعض المفردات العربية في الشعر الجاهلي أو في المقامات أو في بعض ما كتبه الجاحظ وهذا ليس لأن اللغة تغيرت ولكن لأن قدراتنا اللغوية ضعفت كما أننا لم نعلّم أبناءنا استخدام المعاجم. ومن الغريب أن الأوروبيين يعلمون أبناءهم استخدام معاجم اللغة من المرحلة المتوسطة وربما الابتدائية.

       ومن يريد أن يعرف ما حدث في ذائقتنا الأدبية فعليه الرجوع إلى كتاب الشيخ محمود شاكر (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) . وقد أُفسِدت الذائقة أكثر فأكثر عندما شاع ما يطلقون عليه الحداثة وما أسميه أحيانا الكلمات المقطّعة .

      ومن الغزو الثقافي اللغوي أننا في معظم جامعاتنا العربية الإسلامية ما زلنا ندرّس العلوم والطب باللغات الأوروبية ن فهل عجزنا أو عجزت اللغة العربية أن تكتب بها هذه العلوم. وها هو الدكتور زهير السباعي يكتب تجربته في تعليم الطب باللغة العربية فيذكر إحصائيات دقيقة أن المصطلحات الطيبة في الكتب التي تدرس الطب لا تتجاوز ثلاثة بالمائة من المادة العلمية. وقد أدركت هذا وأنا أساعد  ابني في مادة تجهيز المختبرات في كلية التقنية الطبية . فمن العبارات التي وردت باللغة الإنجليزية أن حجرة المختبر يجب أن تكون جدرانها مطلية بلون كذا، وأن تكون سعتها كذا وغير ذلك من المعلومات التي يمكن بكل سهولة قولها باللغة العربية . وكذلك الحال في مواد أخرى.

        ثم ألم يكن غزواً ثقافياً ذلك الذي أدى إلى انتشار المذاهب الشيوعية والاشتراكية في الحكم في العديد من البلاد العربية الإسلامية ، وحتى طغى الفكر الاشتراكي المادي على كثير من المثقفين في عالمـنا الإسلامي. وانتشر التأميم في بعض البلاد الإسلامية وتضخم القطاع العام حتى أصبح معظم الشعب في بعض البلاد يعمل في هذا القطاع وكأن هذا القطاع أنشىء ليس للإنتاج وإنما لتقديم رواتب للبطالة المقنعة. ومن طرائف هذا القطاع أن المكتب الواحد يحتله أكثر من موظف. بل  أصبح شائعاً أن يأتي الناس صباحاً للتوقيع ثم يعودون ظهراً للتوقيع بالانصراف.

       ولعل من الأمثلة على تأثير التفكير المادي ما صرح به الأستاذ مشعل السديري في البرنامج بأنه ليس هناك غزو ثقافي وأن كل ما في الأمر مصالح لدولة في دولة أخرى. فتعجبت مما سمعت وأتمنى أن أكون مخطئاّ فيما سمعت. فكيف نغفل عن هذا التاريخ والواقع الذي أمامنا ثم نصر على حتميات المصالح وقد سقطت الحتميات في البلد الذي نشأت فيه.

      والغزو الثقافي واضح في إغراق أسواق العالم بالإنتاج التلفزيوني بأرخص الأسعار وبخاصة في مجال أفلام الكرتون الموجهة للأطفال وذلك حتى لا يقوم المسلمون والأمم الأخرى بإنتاج ما يناسبها ولتستمر الهيمنة الثقافية الغريبة فهم أيضاً يشجعون السينما المحلية التي تعد في غالبها امتداداً للغزو الثقافي الغربي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية