نحن والغرب: نظرة تاريخية

            
     انتشر في العالم العربي منذ ما يزيد على أربعين سنة حمّى معاداة الغرب الذي كان يقرن دائما بوصف الإمبريالية والاستعمار. وعبارات أخرى مثل الرأسمالية والاستغلال والاستعباد. وقد تولى كبر هذه الحملة القوميون والشيوعيون الذين زعموا أنهم التقدميون. وانحرف نفر من الشباب العربي المسلم فولوا وجوههم شطر موسكو وبكين وجعلوا زعماء الشيوعية أبطالهم، وقرءوا  في كتب ماكسيم غوركي وماركس وانجلز  وبابلو نيرودا وغيرهم فحفظوا من كلام هؤلاء أكثر مما حفظوا من كلام الله عز وجل أو من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم . 
      وكان العداء للغرب يشتد حينما يتعلق الأمر بالصهيونية وقضية فلسطين .فالغرب في نظرهم غارق في دعم الكيان الصهيوني، وأن الصهيونية حركة استعمارية إمبريالية. ولكن هؤلاء كانوا في ظلام دامس من مواقف الشيوعية من إنشاء دولة اليهود ودعمها سياسياً واقتصادياً. وقد كانت هذه البلاد بحمد الله بقيادتها الرشيدة على وعي تام بأنه لا خلاف بين الشيوعية أو الغرب الرأسمالي في تأييد وجود إسرائيل ودعمها. فقد نشرت العديد من الكتب في المملكة توضح موقف الشيوعية من إسرائيل. ومن أبرز هذه المواقف أن مجلس الأمن اختار جمهورية أوكرانيا( إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق) رئيسة لجلساته عام 1947. واتسم موقف رئيس المجلس في تلك الفترة التي كان يتم فيها الحديث عن تقسيم فلسطين بالصلف والوقاحة تجاه مندوبي الدول العربية بينما كان مناصراً ومؤيداً لمواقف اليهود.
       ومن الطريف أن موجة الشيوعية واليسار لم تأتنا من الدول الشيوعية فحسب أي لم يحملها إلى العالم العربي الإسلامي أبناؤنا الذين تتلمذوا على أساتذتهم في موسكو وليننغراد وغيرهما وحدهم بل إنها وصلت إلينا عن طريق بعض من درس في الجامعات الغربية. وما زلت أذكر بعض الطلاب العرب الذين كانوا يدرسون (!) في الجامعات الأمريكية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات يجمعون التبرعات للمنظمات الفلسطينية اليسارية مثل الجبهة الشعبية أو الصاعقة أو غيرهما. وكانوا يفخرون بالنظم العربية "التقدمية" ويصفون الدول الأخرى التي لم تفتح المجال لدعاية اليسار والشيوعية بالدول "الرجعية."
      ومما يؤيد هذا ما ذكره صاحب كتاب واقعنا المعاصر كيف أن الغرب استخدم الشيوعية والاشتراكية لمحاربة الإسلام وضرب لذلك الكثير من الأمثلة ومنها أن طلبة السنة الرابعة في كلية التجارة بجامعة القاهرة كانوا يدرسون كتاباً من تأليف (والت روستو)- الأمريكي- يشجع فيه انتشار الاشتراكية في الدول النامية زاعماً أن التصنيع الثقيل في البلاد المتخلفة لا يمكن أن يقوم به رأس المال الفردي وذلك بإنشاء القطاع العام الذي ظل يتسع تدريجياً حتى احتوى القطاع الخاص في داخله، فتكدست المصانع بالموظفين وانخفضت الأرباح وساء الإنتاج وتدنى إلى درجة لم يستطع أن ينافس الإنتاج المستورد لاسيما حينما جاء عصر الانفتاح.
      وقد رحل الاستعمار من الدول العربية وسُلِّم الحكم في بعضها إلى حكام كانوا يميلون إلى الفكر الاشتراكي فكانت حربهم للإسلام أشد قسوة وضراوة مما عاشته تحت الاحتلال الغربي. وقد أدرك حكام هذه البلاد بقيادة الملك فيصل رحمه الله وإخوته من بعده خطورة الشيوعية ودعوى القومية العربية التي فصلت العرب عن إخوانهم المسلمين فظهرت دعوة (التضامن الإسلامي) فانبرى الشيوعيون والقوميون لمواجهتها بحرب لا هوادة فيها. ومن العجيب أنهم كانوا يملكون أجهزة دعائية ضخمة وإعلاماً أنفقوا عليه ما لم ينفقوا على التنمية الحقيقية. وكانوا يزعمون أن الدعوة إلى التضامن الإسلامي إنما كانت دعوة استعمارية إمبريالية. وقد قيّض الله عز وجل لهذه البلاد علماء أفاضل ردوا على هذه الافتراءات منهم الشيخ محمد بن إبراهيم (مفتي المملكة) والشيخ محمد احمد باشميل، والشيخ محمود الصواف، وغيرهم.
        وسقطت الشيوعية في موطنها الأصلي فهل ضاع اليساريون والشيوعيون الذين كانوا يولون وجوههم صوب ماركس ولينين وتروتسكي وغيرهم؟ إنهم لم يضيعوا ولم يشعروا بالفراغ فقد استضافتهم بعض الجامعات الغربية للتدريس فيها وحضور الندوات والمؤتمرات. وقد أكد إدوارد سعيد في محاضراته التي بثتها هيئة الإذاعة البريطانية باللغة الإنجليزية فكان مما قاله: "إن الذي يبحث عن مثالب المسلمين والعرب ومعايبهم ويحرص على تشويه تراثهم ويعيب تاريخهم فإن لديه دوراً يلعبه ،وهذا يضمن له الأوسمة المنتظرة ويوصف بأنه شجاع صريح وما إلى ذلك…"  
      هذه لمحات تاريخية عن العلاقة بين الإسلام والغرب، وها هو مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة يناقش في ندوته الكبرى للسنة الثانية العلاقة بين الإسلام والغرب حرصاً من القائمين على هذه الندوات الوصول بهذه العلاقة إلى الوضوح والطرح العلمي السديد المبني على المعرفة السليمة. وقد طرح الدكتور جعفر شيخ إدريس في ندوة العام الماضي الموقف الإسلامي الشرعي من غير المسلمين مستنداً للنصوص الشرعية من القرآن والسنّة.
     فشكراً لهذا المهرجان المبارك على هذا الاهتمام وإننا نتطلع إلى أن تنشر هذه المحاضرات مع التعليقات والنقاشات التي تمت؛ ذلك أننا في العالم العربي الإسلامي  نحتاج إلى بناء علاقتنا مع العالم حولنا على أساس من التمسك بهويتنا العربية الإسلامية وأن يكون التعامل بيننا وبين الغرب معاملة الند للند، كما لا بد من مواجهة حالة الانبهار التي أصابت البعض منّا فإنه لا يمكن لهذه الأمة أن تنهض النهضة الحقيقة دون العودة إلى جذورها والتمسك بثوابتها ومسلماتها .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية