الجزء الثاني من قصة نجاح


حدثنا عن بعض تلك التي فقدتها والتي كسبتها من هذه التجربة مشكورا؟.

رحلت إلى الولايات المتحدة وأنا ابن الثامنة عشرة وهي ما يُطلق عليه سنوات التكوين أي التكوين النفسي والعاطفي والفكري والثقافي فكان لا بد أن أتأثر بالبيئة الجديدة فقوّت هذه الرحلة بعض الصفات التي كنت أمتلكها ومنها الشخصية الناقدة وبخاصة في توفر جو من حرية الرأي غير مسبوق، فشاهدت في كثير من المحاضرات من يصرّح برأيه علناً فمارست هذه الحرية حتى النهاية تقريباً وإن كانت مؤلمة فقد اعترضت على أستاذة مادة القصة القصيرة بسبب عرضها آراءها الشخصية حول جون بول سارتر في قصته (الحائط)

قويت عندي مَلَكة القراءة فقد عاشرت عدداً من الأمريكان وكانوا من النوع الحريص على القراءة والثقافة (هناك نوع فارغ كما عندنا كل همّه الرياضة والسيارات والنساء) فقرأت وقرأت وناقشت حتى إنني في السنتين الأخيرتين اشتركت في ورشة الكتّاب مع عدد من الطلاب الأمريكان بإشراف الأستاذ جيمس قرين.

أعطتني هذه الفترة خلالاً سيئة وهي التعود على رؤية مناظر مخالفة للشرع والإنسان إن تعود أمراً قل استنكاره له أو استقباحه وهذه المناظر من الشارع والجامعة وحتى من القراءة ولكن أحمد الله أنني حين عدت إلى المملكة أنفقت سنوات في القراءة الشرعية والفكرية الإسلامية حتى أشعر أنني استعدت كثيراً مما فقدته في تلك الأيام حتى إنني استنكرت منظر فتاتين لم يكن حجابهما ملتزماً وطلبتا مني أن تتقدماني عند المحاسب في متاجر كبرى فقلت لهما أصلحا حجابكما وأسمح لكما.

اكتسبت بعض المادية لأنني عشت سنوات الغربة والمادة طاغية على الجميع تقريباً حتى من ترّبى في عالمنا العربي الإسلامي وأنه (إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب) فصارت لدي بعض الصفات التي لا أحبها من الحرص على المصلحة المادية. وقد أعجبني قول (أنا لا أثق في الشخص الذي يحاسب على الهللات كما تفعل) والمادية تقتل صفات الخير والشهامة والعطاء وقد ذكر ذلك رئيس رابطة علماء السياسة الأمريكية بأن نسيج المجتمع الأمريكي قد تمزق منذ ظهور التلفزيون في الخمسينيات (وأقول قبل ذلك أيضاً فالنزعة المادية قديمة) فلم يعد هناك نبل ولا شهامة ولا فتوة ولا فزعة ولا نخوة (راجعوا كتابي الغرب من الداخل دراسة للظواهر الاجتماعية) ففيه تفصيل ذلك. وكذلك أرجو أن أكون قد تخلّصت من كثير من الماديات. ولكني أحب أن أذكّر هنا بكلمات السيدة خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم (كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين عَلَى نوائب الحق)


دكتور إذا ممكن تحدثنا أكثر عن هذه التجربة (في الخطوط السعودية) لو بشكل موجز؟

كان العمل في الخطوط السعودية يعد ميزة كبيرة للامتيازات التي كان يحصل عليها الموظفون من رواتب ورعاية صحية وغيرها من امتيازات مادية. وكنت سعيداً بالعمل هناك فقد عاشرت أصدقاء وإخوان وأحباب أكنّ لهم كل المحبة والمودة والصفاء، ولكني كنت كالمغرد خارج السرب لأنني كنت أميل إلى الأكاديمية والحياة الجادة ذات الرسالة والهدف وكانت الخطوط مرحلة فيها كسب مادي كبير (لم أُحسن التصرف بالمادة، وذلك عيب مزمن عندي) وفيها في بعض المستويات من الإدارة بعد عن الدين والتدين (وإن كان قد أصبح في الخطوط من المتدينين ربما أكثر من بعض الجامعات المسمّاة بالإسلامية) (مخيم الطيارين مثالاً)

أمضيت اثنتي عشرة سنة أكرمني الله خلالها بالحصول على البكالوريوس والماجستير في التاريخ من جامعة الملك عبد العزيز وعشت في بحبوحة من العيش وفي صحبة إخوان أكنّ لهم كل احترام وتقدير ومحبة. وكان بعض الرؤساء من النقاء و الطهارة ما لم أجد مثله في المراج.

تحمست للخروج من الخطوط السعودية والانتقال للجامعة لأنني مللت من دور التابع فقد لي رئيس وفوقه رئيس وفوقه رئيس وكان الخطوط مثل غيرها من المؤسسات تسير بأوامر الكبار وعلى مبدأ (الشيوخ أبخص) فكم حضرت من اجتماع ومفاوضات وكان عليّ الصمت حتى إنني اخترعت دورة تدريبية في الخطوط الهولندية للتعرف لكيف تعمل تلك الخطوط فوجدت أن أي موظف في مرتبتي (مدير أو حتى أقل يمكن أن يمثل الخطوط ويكون لديه خطوط عريضة يستنير بها وهو حريص على مصلحة شركته (ولكن كان بالإمكان شراء بعض الضمائر الرخيصة وهي تباع وتشترى في كل زمن ومكان)

وهنا قررت أنه آن الأوان أن أكون رئيس نفسي ولكن فوجئت برئيس يشبه اول رئيس لي في الخطوط يرفع مقعدة الكرسي ليكون أعلى من الضيوف أو الموظفين ولدينه عقد لا أول لها ولا آخر.

حدثنا كذلك عن هذه المرحلة:سلبياتها وايجابياتها واهم الصعوبات التي كنت تواجهها ؟ وبالأخص أنك كنت تعمل في مجال يختلف عن المجال الذي تدرسه ؟

        لم يكن للدراسة علاقة بالعمل ولكن الخطوط تشجع من يحصل على شهادة جامعية حتى لو في تقشير البصل، وكنت في التاريخ وكان لدينا الأساتذة الأمالي(يملون على الطلاب مذكرات لا تزيد عن خمسين أو ستين صفحة والدراسة في معظمها سبهللة والحمد لله.فكانت الدراسة الجامعية فيها توسيع للأفق وزيادة في المعلومات وخداع كبير من أجل الحصول على الشهادة ولا أدري هل كانت الجامعة تعلم أو لا تعلم. وقد شكوت في مرحلة الماجستير من ضعف مستوى الدراسة بخطاب لرئيس القسم ولعميد الكلية وحتى كنت ساخراً فقلت أعطوني الشهادة أولاً وسأدرس فيما بعد.

        وكنت أحصل على إجازات للاختبارات ومكافأة عن كل فصل دراسي أو سنة دراسية وتحسب تلك السنوات في الترقيات وأحمد الله أنني حصلت على الإجازات وعلى المكافآت كلها. ولم يكن غريباً في عالم الطيران أن يتخصص الموظف في التاريخ ويعمل في الشؤون الدولية وينجح فلم يكن العمل صعباً بل كان يحتاج إلى ذهن متفتح ووعي بالعمل ورغبة في تطوير الذات حتى إنني أخذت أكثر من عشرة دورات تدريبية.

        ذكرت انك لم تخطط يوما بيوم أو سنة بسنة لما تريد أن تصل إليه
الآن هل تعتقد أنك لو قمت بتلك العملية من قبل وكتبت ما تريده على ورق ، لكان بالإمكان أفضل مما كان ؟ أم أن كل ما ترغب فيه قد تحقق بدون الحاجة الى كتابه ؟

        كما يقولون كل شيخ وله طريقته وقد سارت حياتي وفقاً للتخطيط الشفوي أو الذهني ولكن لأقل ليس التخطيط لإنجاز شي كان مسألة ذهنية وكان التخطيط للأمور الكبرى بمعني أنني لم أكن أتطلع لأكون مؤرخاً مرموقاً ولكن كنت أسعى لأكون مميزاً في المجال الذي اخترته على الرغم من أنني حرصت على التميز في بحث الماجستير فسافرت إلى فرنسا مرتين وإلى الجزائر مرات عديدة وحصلت على مراجع من كندا ومن بريطانيا ومن أمريكا وحتى مقالة لباحث يهودي باللغة الإنجليزية وحصلت عليها من مكتبة الدوريات في باريس في فرساي.

        من الصعب أن أتكهن هل كنت سأنجز ما أنجزت لو كان التخطيط على الورق ثم التنفيذ على أرض الواقع ولكني ربما خططت على الورق وذلك عندما كنت أنطلق في رحلة علمية أبدأ بالخربشة أو الكتابة في دفاتر مذكراتي فتكون هذه المذكرات بمنزلة التخطيط للمستقبل حيث إني في أثناء ركوب الطائرة عدة ساعات يتوفر لي بعض صفاء الذهن والخلوة (والخلوة عندي تتم حتى لو كنت في مقهى أو مطعم أو أي مكان مهما كان مزدحماً) فأفكر وأفكر في الماضي والحاضر والمستقبل وهنا ربما يكون التخطيط المكتوب. ولو كان بالإمكان وضع صور لأضفت بعض الصفحات.




عندما كنت تواجه بعض التحديات بالتأكيد أنك كنت تشعر بإحباط بعض الشيء
كيف كنت تتخذ القرار بإكمال مسيرتك وعدم التوقف عند هذه النقطة؟

أشعر أنني كنت كالسيل أحياناً أكون وديعاً أسير أو أجري بهدوء وأحيانا ً أهدر هديراً فأقتلع الصخور وربما حطمت أشجاراً وحملتها معي ، فإن كانت العقبات فلا أجلس أعض أصابع الندم وأشعر بالإحباط فعندي مقولة ربما أنا أول من قالها (لا يُحبط إلّا من كان عنده قابلية للإحباط) فلا أسمح لأحد مهما كان أن يُحبطني ولا أي ظرف ولا أي حدث. كم تعجبني مقولة (تموت الأشجار واقفة) وهذا الإصرار ربما تعلمته من والدي رحمه الله عندما كان يرى أن بعض نتائجي ليست كما ينبغي كان يشعرني بالقدرة على تجاوزها فلم أسمع منه رحمه الله لوماً ولا عتاباً بل تشجيعاً وثناءً

سؤالي : ما الأشياء التي ندمت على فعلها ؟

        كثيرة هي الأشياء التي ندمت عليها أولها أنني أحياناً أفتقد الشجاعة والجرأة فكم من ظالم ومتجبر خشيت أن أقول له ظالم أو أرفض الظلم وكم كنت أبرر لنفسي بأنني لا بد أن أنحني أمام العاصفة، ولكن الحقيقة أنني كان يجب أن أتوكل على الله ولا أخشى إلّا الله وعلى كل حال فهي قضية مهمة ولكني لست في مجال فتح الملفات القديمة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية