تجربتي في البحث العلمي


 

يا من طلبت منّي أن أحدثك عن تجربتي في الدراسات العليا، تلك قصة طويلة، ومعاناة وصعوبات وعراقيل، وتلك تجربة حب وعشق وسفر ورحلات ومراسلات لا أول لها ولا آخر، ليتني أجد من يستمع ويرغب في معرفة خطوات البحث العلمي التي لا تجدينها مكتوبة في الكتب. لقد اشتريت آلة تصوير لأحتفظ بكل رسالة أبعثها. لقد بدأت تجربتي مع الدراسات العليا عام 1399هـ في جامعة الملك عبد العزيز قسم التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وما أن انطلقت الدراسات العليا حتى أصبت بالحمى الشوكية فغبت عن الدراسة شهرين. وكان عميد الكلية أو رئيس القسم (نسيت الآن) الدكتور سليمان الغنّام حريصاً على استمراري في البرنامج فقبل عذري وطلب من الأساتذة مساعدتي ما أمكن. ولكن الدراسة كانت ضعيفة حيث إنهم ابتدعوا في ذلك الوقت مسألة حلقات البحث، ولو طبقت الفكرة جيداً لكانت مثمرة، وهي أن يقوم كل طالب ببحث معين ويناقشه الطلاب بعد أن يقرأوا مثله أو زيادة. والتالي فكأنهم أعدوا خمسة أو ستة بحوث (بحسب عدد الطلاب) ولكن الدراسة كانت سيئة حتى إنني كنت أصرح لهم أعطوني الشهادة وأنا مستعد للدراسة فيما بعد. أما الآن فأنتم تضيعون وقتناً بدون فائدة. وقد كتبت لرئيس القسم أشكو لهم من ضعف الدراسة وكدت أقول ستكون الشهادة لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به. وبعد أن انتهت الدراسة المنهجية جاء وقت اختيار موضوعات الرسائل واختلف أساتذة قسم التاريخ  التاريخ بين المدرسة الإنجليزية والمدرسة الأمريكية، هل تكون الرسائل كاملة أي تتجاوز المائتي صفحة أو تكون بحثاً تكميليا. وفاز الرأي القائل بأنها رسالة كاملة. وشاء الله بنا خيراً لأننا ما تعلمنا تاريخاً إلاّ في أثناء البحث وكتابة الرسالة.

اخترت في البداية أن أكتب عن ثورة رشيد علي الكيلاني التي قامت في العراق ضد الاحتلال البريطاني عام 1941م، وجمعت مادة علمية وراسلت المكتبة البريطانية وابن خال لي كان يعمل ضابطاً في الجيش الأردني أن يزودني بمادة علمية حول الثورة. وكانت ثورة أقلقت الحكومة البريطانية واستطاعت أن تقبض على بعض من قام بها وتحكم عليهم بالقتل، وشاء الله أن ينجو رشيد عالي الكيلاني ويلجأ إلى الملك عبد العزيز رحمه الله في الرياض ويعطيه الأمان وتحترم بريطانيا ذلك فتتركه وشأنه. وبعد انتظار طويل قرر القسم أن هذا الموضوع فيه تدخل في شأن بلد عربي، وهنا تحدثت مع الدكتور لؤي يونس البحري وهو من أصل عراقي وعاش في الجزائر سنوات فاقترح موضوع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية، فوافقت ووافق القسم، وخلال أسبوعين فقط استطعت أن أكتب مقترحاً تقدمت به إلى مجلس القسم ووافق عليه. وكانت تلك السنة آخر سنوات الدكتور لؤي في القسم فأوكلوا الإشراف للدكتور محمد عبد الرحمن برج وهو أستاذ مصري.

وبدأت أول تجربة لي في العمل مع مشرف ولكن كانت تجربة صعبة ، فما أتعسها من أيام قضيتها معه. لم يكن علمياً ممن يفهم الموضوع فهماً صحيحاً فهو غير متخصص في المنطقة، ولذلك ذهبت إلى الجزائر خمس مرات، كانت الأخيرة لقراءة الرسالة في شكلها الأخير وإعطاء نسخة للأستاذ الكبير الدكتور أبو القاسم سعد الله الذي لم يبخل علي بالمعلومات والمساعدة حتى آخر لحظة. وبالرغم من مساعدته لي كان أيضاً راقياً في نقاشه هادئاً ليس مثل المناقشين المصريين الذين يهمهم أن يستفزوا الطالب ويثيروا أعصابه دون مبرر.

المشرف وما أدراك ما المشرف، لقد مررت بثلاث سنوات تقريباً من الحياة النكدة معه، قال لي اذهب إلى مصر للبحث عن المراجع وذكر لي مكتبة أو اثنتين، ولكنه أرسل معي كيس شبه فارغ هدية لأولاده قائلاً اتصل بهم عندما تصل إلى القاهرة وسيأتونك إلى اللوكندة (الفندق) وعندما اتصلت اعتذرت الأم بأن ابنها يدرس الطب وعنده امتحانات فقالت لمَ لا تأتي أنت. فأخذت تاكسي وحاولت مدة ساعة أن أصل إلى منزلهم في مصر الجديدة في شارع كذا المتفرع من ألماضة وغير ذلك وفشلت  فرجعت إلى الفندق وأخبرتها أنني سأذهب إلى المطار بعد ساعة فما كان منها إلاّ أن أتت لتسلم الهدية. ولم أكن فطناً فالأستاذ الفاضل كان ينتظر أن أملأ الكيس بالهدايا من عندي، ولكن غابت عني كما يقولون.

وذهبت إلى فرنسا للحصول على الوثائق، وأعطاني رسالة لأستاذ مؤرخ فرنسي هو روبرت مانتران وكتب له بضعة أسطر بالفرنسية لاستشارته في الموضوع، ولكني عندما قابلت ذلك الأستاذ قال موضوعك لا يدخل ضمن تخصصي وهو في الدولة العثمانية وأنت تاريخ حديث. وجمعت الكثير من الوثائق من مدينة اكس إن بروفانس ومن مدينة باريس. ثم طلب مني المشرف أن أذهب إلى باريس مرة أخرى بزعمه أنني لم أحضر كل الوثائق، ولكن كان له طلب آخر وهو أن أشتري له قطعة غيار لغسالة الملابس في منزله في مصر. وأصررت أنني لست بحاجة لوثائق فما لدي كاف ولا أستطيع أن أسافر، فغضب وتكفل تلميذ آخر يعرف اللعبة تماماً بإحضار القطعة له من باريس.

وفي مرة من المرات أراد أن أحضر له معلومات عن الجزائر من بعض العلماء في المدينة فاشتريت له تذكرة سفر من جدة إلى المدينة بالدرجة الأولى واتفقنا على أن نسافر سوياً، وفي اليوم المقرر ادعى المرض وقال سافر أنت واحضر لي المعلومات. وكدت أقول له أرجع لي التذكرة ولكنه يتصور أنه ذكي أخذ التذكرة وستأتيه المعلومات دون أن يذهب.

وفي إحدى رحلاتي إلى الجزائر قال لا بد أن أقابلك لأعطيك بعض النصائح والأسماء في الجزائر وكان هو قادم من القاهرة، فذهبت لاستقباله في المطار وكان هناك أكثر من طالب. ولما قابلته لم يعطني أي أسماء أو نصائح فقد كان كل همّه أن يعطيني ورقة لرئيس تحرير مجلة الثقافة يطلب مكافأة عن بعض مقالاته. فقلت أهذه هي النصائح يا بئس الأساتذة من هذا الشكل.

واتصل بي ذات مرة وقال أريدك أن توصلني مشواراً ويكون ذلك الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، فما أن رجعت من العمل لم أستطع تناول طعام الغداء مع أولادي ولكن أخبرتهم أنني سأوصل المشرف مشواراً قصيراً ثم أعود. ولما وصلت إليه في بيته وجدته يرتدي الإحرام يريد أن يذهب إلى مكة. فقلت له أستاذي العزيز لو أخبرتني لكنت اعتمرت معك، ثم إنه ليس في بيتي هاتف في ذلك الحين ولا أستطيع السفر والغياب حتى الليل دون أن أخبر أهلي، فقال لو كان فلان لأوصلني إلى مكة أو أرسل لي سائقه. قلت والله لا أستطيع ولو كنت أعلم من قبل لرافقتك. قال خذني إذن إلى النقل الجماعي، وأضاف لو أخبرت فلاناً (أحد طلابه) لأوصلني أو لأعطاني سائقاً لإيصالي. فأوصلته إلى النقل الجماعي. ولكن كانت نقطة سلبية أخرى في علاقتي به.

عدت من الجزائر بعد أن كنت قد كتبت الرسالة خمس مرات، أي خمس مسوّدات، وتوقعت أنه بعد قراءة الدكتور أبو القاسم سعد الله سيأذن لي المشرف العظيم بطباعة الرسالة. ولكنه بدأ يقرأ من أول الرسالة ويطلب تعديلات جديدة. قلت له أستاذي الرسالة كتبت خمس مرات، وليس لدي استعداد أن أعيد أي شيء، قال وهل أصبح كلامك منزلاّ، قلت له وحتى لو كتبتها عشر مرات فلن تصبح كلاماً منزلاً. وشعرت بالغضب وكنت أسمع أن الغضب نار في الجوف ووالله أحسست بذلك في تلك الجلسة، وبحثت عن رئيس القسم لأشكو له حالي، فإذ برئيس القسم يطلب مني الهدوء والترفق بالأستاذ وربما التذلل للأستاذ والخضوع له. وعرفت فيما بعد أن رئيس  القسم في رتبة علمية أقل فمشرفي يمكن أن يؤثر في حياته العلمية. وصبرت وأراد الله أن يفرج عن الرسالة وتطبع وتناقش، وكان التسجيل عام 1403هـ والمناقشة في عام 1406هـ

وبعد الانتهاء من كتابة الرسالة طلب منيّ أن أعرضها على متخصص في اللغة العربية لتصويبها مقابل مبلغ مالي، وكان يقول أنت تعمل في الخطوط ورواتبكم جيدة فلا تكن بخيلاً. فذهبت إلى المشرف على الصفحة الإسلامية في صحيفة المدينة المنورة الشيخ إبراهيم سرسيق وقلت له هذه الرسالة هل تحتاج إلى مصحح لغوي؟ فقرأ منها ثمان صفحات أعادها إلي وقال قل لمشرفك أن الرسالة لا تحتاج إلى مصوب لغوي، وأضاف الشيخ سرسيق لقد اطلعت على رسائل طلاب دكتوارة في الشريعة وكانت رسائلهم تحتاج فعلاً لمصحح لغوي ورسالتك أحسن من تلك الرسائل.

هذا المشرف إذا زرته في بيته- ومعظم الزيارات هناك- كان لا يستخدم المكيف بحجة أن المكيف يضر بصحته، ولكن القضية أنه يريد التوفير، فجلسة الإشراف كانت جلسة تعذيب. كما أنني إذا ذهبت معه إلى الصلاة ولنقل صلاة المغرب فإنه يصلى السنة في نصف ساعة، بعد أن يرفع من الركوع يقف قريباً من وقت قراءة سورة آل عمران أو زيادة يرفع يديه بالدعاء. فكنت أقول إن أردت أن تدعو فاجعل الأمر بينك وبين الله لا تطلع الآخرين عليه، وأفضل الدعاء في السجود حين يكون المرء أقرب ما يكون إلى ربه، وليس بعد الركوع. وكان المشرف يرتدي حذاءً قديماً مقطعاً حتى إنه لا يصلح أن يكون للصدقة فكيف يرتديه أستاذ دكتور.

وفي يوم من الأيام جاء زكي نجيب محمود ليلقي محاضرة في النادي الأدبي، فقال أريدك أن توصلني إلى مقر المحاضرة، وبخاصة أن النادي يقدم عشاءً بعد المحاضرة. فوجدت مجموعة من الأساتذة الفضلاء والله ما جاءوا إلاّ للعشاء.

ولكن رسالة الماجستير توجت بالمناقشة التي حضرها والدي رحمه الله، وقد انزعج من بعض أسئلة أحد المناقشين وصاح (نشفتوا دم الولد) وبعد المناقشة كان عشاء ً في منزلي حضره عدد كبير من الزملاء والرؤساء وأحد أعمامي ووالدي، فقال لهم لقد فعلتم مثل منكر ونكير ولكنكما لم تكونا تتيحان الفرصة له ليجيب.

ونشرت رسالة الماجستير في كتاب بعد ثلاث سنوات من إنجازها. قدّم لها الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله مقدمة رائعة من أجمل ما كتبه وكُتِب حول الجمعية وقد تعجب الجزائريون كيف يكتب أبو القاسم هذا الكلام في الجمعية، ولكن كان السر في نظرهم هو الرسالة وصاحبها اللذان أثرا في سعد الله هذا التأثير الإيجابي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية