بعض الذكريات عن أمي رحمها الله

عندما ماتت أمي قبل شهرين (صدقوني نسيت التاريخ، لأن موتها أكبر من التاريخ) حاولت أن أخربش حول مشاعري عن أمي وعلاقتي بها فعجز القلم أن يطاوعني وأنا الذي سافرت من الرياض إلى المدينة وعدت في اليوم التالي بالسيارة ليكون الوداع الأخير لأني عندما رجعت إليها لم أسمع منها سوى كلمة الحمد لله. وكتبت بعد شهر تقريباً بعض الكلمات تعبيراً عن تلك العلاقة المميزة التي كانت تربطني بأمي وإليكم ما كتبت:
     تحدثت مرات ومرات عن أمي وفي كل مرة أتوقف دون أن أكمل الحديث وكأني لا أحسن الحديث عنها، كما تحدثت عن وداعي لأبي رحمه الله (وكان حديثي بعد سنوات) وألوم نفسي أنني لم أعرف كيف أكتب عن أمي،
      هل تنقصني الصور والأحداث والعواطف والمشاعر تجاه أمي أو هي كثيرة تزدحم في ذهني مثل طريق مزدحم بالسيارات حتى يتوقف.
أمي كان تقف خلف قدر القمح تسلقه من أجل صناعة البرغل أو أمي تفرد القمح بعد سلقه ليجف وتعطيني صحناً من القمح المسلوق وتضيف إليه بعض السكر، وقدر القمح الذي تستخدمه أمي لسلق القمح كبير جداً حتى إنه يمكن أن تطبخ فيه خروفاً كبيراً، فكيف كانت تحمل القدر وتملأه بالقمح والماء وتضعه على البابور (الدافور) وتجلس لتقوي النار وتستخدم النكاشة لتكون النار أقوى.
وأمي تقف خلف قدر الطبخ تطبخ المليحية لعمل المنسف الأردني المشهور لتكرم ضيوف أبي -وما كان أكثر ضيوفه رحمه الله- ويتعاونان في الطبخ ولكن لن تعرف مطلقاً من الشف أو الطباخ ومن المساعد، فقد كان من مواهب أبي وهواياته الطبخ-ورثت تلك الهواية وبدرجة أقل- ولو كانت أمي وحدها لطبخت أعظم منسف. ولكن لا بد من لمسات أبي رحمه الله في إضافة السمن للرز أو تذوق ملح الطعام.
تعلمت من أمي أن الطبخ نَفَس، وكانت تصف بعض النساء بأنهن يملكن نفساً جميلاً حتى لو وضعت ماء في القدر وغلته لكان لذيذا، تعلمت منها الثناء على الآخرين إن أحسنوا فلم أشعر منها بالغيرة والتنقيص من الآخرين. بل كم سمعت منها الثناء على من قدم لها معروفاً، وبخاصة في أوقات حرجة كان أبي يغيب عن البيت وقتاً طويلاً فتحتاج إلى الطبيب وكان الطب الشعبي والأعشاب وغيرها هي الدواء المتوفر وكانت تذكر نساء من الجيران أو الأقارب، وأذكر منهن الآن أم فوزي رحمها الله التي كانت تجيد علاج بعض الأمراض وبخاصة عمتي سلمى رحمها الله، فقد كانت أخت زوج وقوية الشخصية وحازمة ولكن أمي كانت تقول فعلت لك عمتك كذا وقدمت لنا كذا، وروت لي أن عمتي جاءت لزيارتنا فقلت لعمتي وأنا طفل لا أستطيع أن أراك يا عمتي، وهنا أسرعت عمتي لعمل اللازم إعطائي أسبرين وتغطيتي ولكنها في الوقت نفسه انتقدت أمي على أنها لا تعرف كيف تربي الأطفال. ولم أشعر أن أمي كانت تأخذ تلك الانتقادات بحساسية، وتقول بعد قليل استيقظت وقلت لعمتي الآن أستطيع أن أراك.
وكانت تدرك أن الطفل يجب أن يكون قوي الشخصية فلا يقبل أن يعتدي عليه فلا يرد عن نفسه، وفي الوقت نفسه لا تحب العدوان أو العدائية فقالت لعمتي خذي مازن معك إلى الغور، وكان لزوج عمتي مزارع في غور الصافي، وكان رأيها أن عمتي أقدر على تعليمي الشجاعة والقوة. وكنت أمضى شهراً أو أكثر مع أولاد عمتي الذين يذكرون مواقف من طفولتي قد نسيتها.
وكانت أمي رحمها الله يعجبها عفة النفس والكبرياء، وقد روت أنني خرجت معها من البيت لزيارة بعض الأقارب وكنا جائعين فلما قدمت المضيفة وربما كانت خالتي بعض الطعام ترددت في الأكل بل قلت إني شبعان، ثم سألت أمي هل آكل؟ فقالت نعم ُكل، وتقارن أمي بين موقفي المتعفف رغم الجوع مع أطفال اليوم الذين ما إن يدخلوا بيوت غيرهم حتى يبدؤوا في البحث عن الأكل وربما فتحوا ثلاجة أقاربهم بجشع.
رحم الله أمي فقد كانت تنتظرني حين أعود من المدرسة لتنظر في دفاتري وتصحيح الأستاذ وكانت تعرف الفرق بين علامة الصح وعلامة الخطأ والقلم الأحمر وتسألني عن الخطأ لماذا أخطأت، وتسأل عن الدرجات ولا ترضى بأقل من مائة في المائة فإن قلت خمسة وتسعين قالت لماذا؟ ولكنها لا تضرب ولا تقرص ولا تعاقب حيث تترك ذلك كله لأبي الذي كانت حريصة على حضه دائماً على الحزم في التربية وبخاصة حين تراه يدللني أكثر مما ينبغي - في نظرها- وتردد أنت ستفسد الولد، ولكن كان لأبي رحمه الله نظرة عميقة في التعامل مع أولاده فيعامل كل واحد بالطريقة التي تناسبه، بل إن له مدرسة لا أعرف كيف أفسرها ولكن أقول إنها كانت تربية بالتلميح، فيكفي أن يروي قصة أو ينشد بيتاً من الشعر وكأنه كان يقول: ولقد لحنت لكم كيما تفهموا واللحن تفهمه ذوو الألباب.
أمضيت في رعايتها حتى تخرجت في الثانوية العامة لا أذكر أنني تأخرت يوماً عن المدرسة لأن أمي تأخرت في الاستيقاظ أو لأن ملابسي لم تكن نظيفة وجاهزة أو لأن الفطور لم يكن جاهزاً، وكان أبي رحمه الله يتدخل للمساعدة لا لأنها قصرت ولكن طبيعة والدي رحمه الله في شهامته ونخوته وحبه لأهله فربما كان هو الذي يغلي الحليب أو يعد الشاي ولا يأنف حتى أن يغسل الصحون.
ومرت الأيام وعشت تجربة ما يسمى تحرير المرأة وأن الرجل مطالب بالعمل والمساعدة في أعمال المنزل ووجود صراع بين المرأة والرجل ومن يكون صاحب القرار في البيت، وتردد على مسامعي من يذبح البس ليلة العرس وما عرفت مثل هذا الصراع بين أمي وأبي رحمهما الله رحمة واسعة.
          عشت مع أبي وأمي واخواتي وأخي عبد الكريم في غرفة واحدة طويلة (لا أتذكر كم طولها الآن) مقسمة إلى ثلاثة أجزاء مبنية من الحجر والطين وانتقلنا إلى بيت من عدة غرف فلم أعرف غرفة مغلقة بمفاتيح ولا صندوقاً فيه الأشياء الثمينة (وهل كانت المسكينة تملك أشياء ثمينة أثمن من أولادها) فلا غرف مغلقة ولا صناديق فقد كانت درجة الأدب والعفة عالية جداً، وليست المسألة غباءً ولكن احتراماً لخصوصيات الأم والأب. وكأنها الفطرة.


وفي المقالة القادمة أكمل الحديث عن إصابة أمي بالتيفوئيد أثناء رضاعتي فإلى اللقاء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية