الانتهازية والانتهازيون


      ما كنت أظن أن الانتهازيين يستحقون أن يكتب عنهم كتاب حتى سمعت عرضاً لكتاب حولهـم لمؤلف من مصر هو الأستاذ  سمير عبده في إذاعة لندن باللغة العربية . فقد قدّم المؤلف دراسة واسعة نفسية للانتهازيين. وكنت أستمع لهذا العرض وهو يجول في شتى جوانب المجتمع وفي شتى مجالات الحياة فيقدم صوراً من الانتهازية التي نعرفها جميعاً.

         فتحدث عن الانتهازي إذا كان موظفاً كيف يتزلف إلى رئيسه، ويفشي أسرار زملائه في العمـل، ويتملق ويغش ويخادع ليكسب رضا رئيسه. والانتهازي إذا كان رئيساً يعرف كيف يسيطر على موظفيه بأساليب دنيئة لا تمت إلى الأخلاق أو الفضيلة بصلة. وتحدث عن الزوجة الانتهازية أو الزوج الانتهازي والابن الانتهازي أو الابنة الانتهازية. وما زلت أذكر قول أب عن أحد أبنائه: ابني فلان يعرف من أين تؤكل الكتف. وهذه صفة مشهورة في الانتهازيين.

 وكنت أقول في نفسي نعم أعرف أمثال هؤلاء في حياتنا المعاصرة حينما ابتعد البعض منّا عن تعاليم الإسلام العظيمة أو غرقنا في بحر الماديات وحب الدنيا. وحاولت أن أنظر  إلى هؤلاء الانتهـازيين من خلال نصوص القرآن الكريم،  ومن خلال الحديـث النبوي الشريف، ومن خلال تاريخ هذه الأمة التي حرصت منذ أول يوم أن لا تترك مكاناً للانتهازيين بينها.

     ومن الطريف أن مصطلح الانتهازية أصبح مصطلحاً شائعاً وأضيفت  إليه مجموعة من المصطلحات وقد روّج لها بعض الممثلين- وبخاصة ممثلي الكوميديا السياسية السوداء-  فمن هذه المصطلحات: الفرصويون، الزئبقيون والمتسلقـون، والنفعيون والانبطاحيون وغيرهم..الخ. وانتشار هذه المصطلحات وتكرار الناس لها دلالة على وجود هؤلاء الناس بيننا بكثرة. ولكننا قبل أن نواصل نؤكد أننا نؤمن بحديث المصطفى صلـى الله عليه وسلم (الخير فيّ وفي أمتي إلى أن تقوم الساعة) وقوله صلى الله عليه وسلم ( من قال هلك المسلمون فهو أهلَكُم أو أهلَكَهُم) و حديث  (هذه الأمة كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره)

     ولكن وجود هذه الفئة أمر طبيعي فلا يمكن أن يكون المجتمع كله من النوع التقي الورع ، ولولا القبيح لما عرف الجمال، ولولا الملح لما عرف الحلو، وكما قيل: وبضدها تتميز الأشياء. وقد حرص الإسلام من أول يوم أن يقضي على ظاهرة الانتهازيين فلو نظرنا إلى الصفات التي وصفت بها السيدة خديـجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كلاّ والله لا يخزيك الله أبداً فإنك تصدق الحديث وتصل الرحم وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق. "والانتهازي لا يصدق في الحديث ولا في غيره، ولا يـصل الرحم -إلاّ إذا كان في الصلة مصلحة مادية-والانتهازي لا يحمل الكل ولا يعين على نوائب الحق. وقد وُصف الصديق رضي الله عنه بهذه الصفات من قبل أحد المشركين وكما يقول أصحاب السير على غير تواطؤ بينهم عليها.

    ولما هاجر بعض المسلمين إلى الحبشة وسألهم ملك الحبشة عن دينهم أجاب جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: " كنّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعـرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده..وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات …" فما أعظم هذه الأخلاق وما أبعدها عن الانتهازية بل إنها حرب على الانتهازية .

        و المجتمع المسلم حريص على تربية أفراده على أداء الواجب أولاً قبل المطالبة بالحقوق -دون التنازل عن الحقوق-فالقرآن الكريم امتدح الأنصار الذين ضربوا المثل في الإيثار في قوله تعالى:{والذين والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صـدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}(الحشر 9)  وقد ظهرت حقيقة هذه الصفات عند عقد النبي صلى الله عليه وسلم عقد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصـار حتى كان أحدهما يرث الآخر إلى أن نزل قول الله عز وجل { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}

          وقد جاءت الأحاديث الشريفة التي تؤكد أن من صفات المسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث الصحيح(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وفي الحديث الآخر الذي يصف المؤمنين بأنهم كالبنيان يشد بعضه بعضهم وقوله صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضـاء بالسهر والحمى)(أخرجه مسلم وأحمد) وقوله صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)(البخاري)

     ولا أجد تصنيفاً أقرب للانتهازيين من المنافقين فهم المتلونون المخادعون وقد وصفهم القرآن الكريم في ثلاث عشرة آية في صورة البقرة{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) الآيات .وقد جاءت صورة كاملة توضح صفاتهم حتى سميت الفاضحة. وقد وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم في العديد من الأحاديث الشريفة منها قوله (آية المنافق ثلاث: إذا حـدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)( البخاري) وفي حديث آخر وصف المنافق بأنه إذا خاصم فجر. فنعوذ بالله من الانتهازية والانتهازيين.

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية