صديقي وأستاذي الشيخ إبراهيم سرسيق-عظماء منسيّون


                                بسم الله الرحمن الرحيم

                                الشيخ إبراهيم سرسيق

عندما فكرت بالكتابة عن الشيخ إبراهيم سرسيق ظلت عبارة (مرّ من هنا) ترن في أذني كثيراً ، فالشيخ إبراهيم سرسيق مر من هنا سريعاً رغم السنوات الطويلة التي قضاها في هذه البلاد. فقد بدأ أستاذاً للغة العربية في الجامعة الإسلامية قبل أكثر من عشرين سنة. ثم أخذه حب الصحافة والعمل الميداني الإسلامي إلى جدة حيث التحق بجريدة المدينة المنورة حينما كان مقرها في الكيلو الخامس بجدة، وعمل في قسم المتابعة حيث كان يناط بهذا القسم مراجعة المادة الصحفية كلها وإحالتها إلى الأقسام المختصة بعد إجازتها للنشر.
وكلّف الشيخ إبراهيم بالإشراف على الصفحة الإسلامية في الصحيفة حينما بدأت تظهر هذه الصفحات المتخصصة في صحفنا المحلية ( ربما تقليداً لغيرها من الصحف العربية) ولكنه أشرف على هذه الصفحة بقوة واقتدار فكانت من أقوى الصفحات لما كانت تتضمنه من مادة علمية راقية. ولعل أقوى ما فيها تلك الكلمة القصيرة التي لا تتجاوز عشرة الأسطر بعنوان ( بسم الله) وكانت هذه المقالة تمتاز بالقوة في أسلوبها ولغتها ومضمونها. لقد أوتي الشيخ تمكناً عجيباً في اللغة العربية حتى إن طلاب الجامعة الإسلامية يتذكرون أن الشيخ قادر على التحدث باللغة العربية الفصحى ساعات طويلة لا يتلكأ ولا يتردد كأنما يذكرك بفصاحة عمرو بن العاص رضي الله عنه وفصاحة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفصاحة سحبان وائل التي يضرب بها المثل.
وبالإضافة إلى تمكنه في اللغة كان عالماً بالشريعة الإسلامية فقهاً وشريعة كما كان يتحلى بروح الداعية الذي يعرف كيف يخاطب المدعوين ولذلك دعاه الشيخ أحمد جمجوم ليكون خطيب مسجده في العمّارية بجدة، فكان نعم الخطيب الذي يأخذ بالألباب لفصاحته وعلمه وكان رغم بعض الإطالة في خطبه لكنه كان لا يمل منه الحضور حتى إن المسجد رغم اتساعه كان يمتلئ عن بكرة أبيه منذ وقت مبكر. وكانت خطبه في الغالب تمس القضايا التي تهم المجتمع المسلم في المملكة وغيرها من البلاد الإسلامية.
وفي الصفحة الإسلامية كان الشيخ يهتم بالشأن المحلي كأنه أحد أبناء هذه البلاد حماسة وعاطفة واهتماماً. لقد أقام بين ظهرانينا السنوات الطوال حتى كأنه واحد منّا ، بل لعل ما قدمه الشيخ سرسيق يفوق كثيراً ما قدمه بعضنا. وكان اهتمامه بالشأن الإسلامي على مستوى عال من المتابعة وسعة الاطلاع. فالشيخ يعرف اللغة الإنجليزية معرفة جيدة فكان يطلع على الصحافة الغربية وعلى وسائل الإعلام الغربية المتاحة فيصل إلى المعلومة حول أوضاع العالم بعامة والعالم الإسلامي بخاصة.
وللشيخ أيضاً أياد كبيرة في استكتاب عدد من أبناء هذه البلاد في الصفحة الإسلامية وإن كنت لا أذكر أسماءهم ولكني أحدهم. وكانت له طريقة متميزة في التوجيه فهو حين يقرأ المقالة للكاتب المبتدئ لا يرفضها جملة وتفصيلاً ولا يقبلها على حالها. بل يقوّم الصياغة واللغة والأسلوب. ولكنه فوق ذلك يستخدم الطريقة غير المباشرة في التنبيه إلى أخطاء الكتّاب المبتدئين. فيقول للكاتب ألا ترى مقالتي ( بسم الله) إنها لم تكتب في جلسة واحدة، ولكنها كتبت في عدة أيام. تأتيني الفكرة أو الخاطرة فأدونها في ورقة وأعود إليها بعد عدة أيام وقد نضجت الفكرة واختمرت جيداً فأكتبها. وكأنه يقول للكاتب المبتدئ لا تستعجل في الكتابة ولكن تأنّ وتأن قبل أن تدفع بما تكتب إلى الصحيفة. وكان يلوم بعض الصفحات على الاهتمام بنشر كتابات المبتدئين بشكل بارز لأنه يرى أن الكاتب المبتدئ يظن بهذا النشر أنه أصبح كاتباً مهماً لا يحتاج إلى التعلم.
أما من الناحية الإنسانية فقد كان الشيخ يحفظه الله كالنسيم العليل أو الظل الخفيف الذي مر من هنا. فنحن نتذكره بكل المحبة ولكننا نشعر أن تلك اللحظات كانت قصيرة جداً. وكان الشيخ حفظه الله نبع حب فلا تسمع منه عن الآخرين إلاّ كل خير حتى إذا عاش تجربة صعبة لم يزد على أن قال إن سبب ما حصل يعود إلى الغيرة المهنية ولم يفصل. وما كان بحاجة إلى التفصيل.
والشيخ حاضر النكتة خفيف الظل دائم الابتسام فلا تجلس معه حتى تفيد علماً وأدباً وطُرفاً فما أجمل تلك الأيام التي عاشها في جدة.
وإنني في هذه المقالة أدعو معالي الشيخ أحمد صلاح جمجوم أن يسعى لدي صحيفة المدينة المنورة لنشر مقالاته ( بسم الله ) في كتاب أو أكثر، وهناك أكثر من شخص مستعد للعمل على تنسيقها وترتيبها في موضوعات. والأمر الآخر أن يسعى إلى عودته إلى جدة أو المدينة المنورة ليستفيد منه أبناء هذه البلاد التي أعطاها زهرة شبابه وعمره وقدم الكثير.
وأدعو كذلك من عرف الشيخ وتعامل معه أن يكتب عن تجربته مع الشيخ وما تعلمه منه، فإن الوفاء خلق إسلامي أصيل علمناه سيد الخلق في وفائه للسيدة خديجة رضي الله عنها أولاً ووفائه لأصحابه جميعاً.
ملحوظة
التحق بالجريدة محرر صغير وعمل مع الشيخ إبراهيم سرسيق، ولم يعجبه أن يكون مرؤوساً فحاك المؤامرات والدسائس لرئيسه حتى نُقل الشيخ ليعمل في ارشيف الجريدة، ولما قابلته قال لي إنها الغيرة المهنية. ومرت الأعوام وقد عاش فيها المحرر الصغير متربعاً على عرش السلطة وفجأة دار بيني وبينه حديث فسألته لماذا ترك مقر الحريدة قال إنهم نقلوه إلى أحد المكاتب الفرعية ليحل شخص آخر مكانه، وهنا تذكرت (كما تدين تدان) لقد فعلتها ونسيت ولكن الله ليس نسياً فهل نتعظ؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية