أهمية دراسة الاستشراق والمجالات العملية للمتخصصين فيه .(* )

س1: كيف كانت بدايتك مع الاستشراق وما الأسباب التي وجهتك لدراسته؟

ج: كنّا ندرس في السنة الثانوية الثالثة مادة التوحيد والتهذيب عام 1388هـ وكان كتاب المادة يحتوي على حديث بعض المستشرقين عن الإسلام ومزاياه. وكأنها محاولة من المؤلف لإعداد الطلاب للابتعاث فيكون قد تزود ببعض المعلومات عن الإسلام ومحاسنه وبخاصة من أقوال غير المسلمين. وحصـلت على بعثة للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن تلك الحصيلة من كتاب التوحيد والتهذيب كانت ضعيفة جداً أمام الصدمة الحضارية العنيفة التي تصيب الطالب العربي المسلم حـين يصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة إلى انتشار الطلاب من البلاد العربيـة الأخرى التي ابتليت بالقومية والبعثية والاشتراكية وكان هؤلاء أقوى في باطلهم من الطلاب من البلاد المتمسكة بإسلامها كالمملكة العربية السعودية.

      وعدت إلى المملكة لأدرس التاريخ الإسلامي وقد أمضيت بعض الوقت في القراءة الواسعة فقرأت للندوي، والمودودي، والعقاد، وطه حسين، ونجيب محفوظ، وسيد قطب، ويوسف القرضـاوي، ومحمد سعيد رمضان البوطي، ونجيب الكيـلاني، ومحمد قطب، ومحمد محمد حسين وغيرهم وقد تعرفت بعض الشيء على الاستشراق. وازدادت معرفتي بالاستشراق حينما التحقت بقسم التاريخ الإسلامي ودرست كتابات حديثة في التاريخ الإسلامي وبخاصة في كتابات حسن إبراهيم حسن أو بعض أساتذتنا الذين درسوا في الغرب وتأثروا بأساتذتهم. وأذكر أنني كتبت عشر صفحات أنتقد كتـاب الدكتور حسن إبراهيم حسن التاريخ الإسلامي السياسي والاجتمـاعي والاقتصادي وتبنيه كتابات المستشرقين وآرائهم. لكني في كل هذا الوقت لم أتوصل إلى معرفة عمق النشاطات الاستشراقية واتساعها وتغلغلها في فكر كثير من أبناء العرب المسلمين الذين درسوا في الخارج.

    وشاء الله أن أكمل دراسة الماجستير في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة وهنا  تأكد لي تأثير الاستشراق حتى إن أحد أساتذتي قال إن البحث الذي لا يضم مراجع أجنبية فهو بحـث ناقص، وكان هذا الأستاذ يرى أن الدين لا علاقة له بدراسة التاريخ. ولمّا علمت بوجود قسم متخصص في الاستشراق وكنت أرغب في التفرغ للحصول على الدكتوراه وكنت أتطلع لسكنى المدينة المنورة فتقدمت إلى هذا القسم وحصلت على القبول وبدأت في القراءة لاختيار موضوع بحث الدكتوراه ووجدت بعض الصعوبات مما أعطاني الفرصة للكتابة والتأليف ريثما أحصل على الموافقة على خطتي لبحث الدكتوراه.

س2: الاستشراق كتخصص علمي في جامعاتنا ما تقييمك له، وما مستقبله؟

      تدرس مادة الاستشراق ضمن مواد الدراسات الإسلامية في ساعتين أو وحدتين دراسيتين في أكثر من جامعة منها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة الملك عبد العزيز بجدة وبكلية التربيـة بالمدينة المنورة. لكن جامعة الإمام خطت خطوة متقدمة فافتتحت قسماً متخصصاً لدراسة الاستشراق ومدارسه ومناهجه وأعلامه ودراسة التنصير. ويتضمن هذا دراسة جذور الحضارة الغربية وفكر الغرب وفلسفته.

       وقد قرأت مؤخراً عن عدة مؤتمرات تناولت موضوع الاستشراق وتناول بعضها التوجه لدراسة الغرب ومعرفته معرفة علمية مبنية على الحقائق وكانت ندوة أصيلة بالمغرب من الندوات التي نادت بتأسيس معهد للدراسات الأمريكية. وقد أعلن فضيلة رئيس جامعة الأزهر عن عزم الأزهر إنشاء مركز للدراسات الاستشراقية ومتابعة كتابات المستشرقين عن الإسلام والمسلمين. والمؤمل أن تبدأ دراسة الاستشراق في المرحلة الجامعية كتخصص فرعي مع الدراسات الإسلامية أو الدراسات الاجتماعية مع الاهتمام بدراسة اللغات الأجنبية ومن ثم يستطيع الطالب إتمام دراسة الاستشراق في مرحلة الدراسات العليا.

س3: لكلية الدعوة بالمدينة المنورة تجربة رائدة في افتتاح قسم للدراسات العليا في الاستشراق، ما واقع هذا القسم وهل يؤدي رسالته على الوجه المطلوب.

 

ج: أولاً إن شهادتي في هذا القسم مجروحة لأنني أحد المنتسبين إليه وحصلت منه على أول درجة دكتـوراه يمنحها القسم. لا شك أن القسم أدى جزءاً كبيراً من رسالته حيث تخرج فيه عدد كبير من الباحثين في مجال الاستشراق وقام القسم بابتعاث عدد من المحاضرين للدراسة في الغرب وبخاصة بريطانيا وأمريكا وواصل هؤلاء دراساتهم في هذا المجال الحيوي. كما أن عدداً من الخريجين قاموا بالدراسة في الجامعات البريطانية وحصلوا على الدكتوراه بعد حصولهم على الماجستير من القسم. والقسم في حاجة ماسة إلى أعداد من الطلاب الذين يتقنون اللغات الأجنبية حتى يتمكنوا من معرفة الاستشراق معرفة عميقة.

س4: الدارسون في قسم الاستشراق سواء من حصل منهم على الماجستير أو الدكتوراه لم نر لهم نشاط أو مساهمة علمية وخاصة في مجال الصحافة ما سبب ذلك؟

 ج4: إن عدد الذين درسوا في هذا القسم كبير ومن الصعب أن نطلق مثل هذا التعميم بأنه ليس لهـم نشاط علمي فقد يكون ثمة نشاط ولكن لا نعلمه. أما بخصوص النشاط الصحافي فينبغي على الذي يمارس النشاط الصحافي أن يكون لديه الاستعداد لهذا النشاط. فكتابة المقالة الصحافية تختلف كثيراً عن كتابة البحث العلمي أو المقالة العلمية.

        ولما كنت أعرف أن الحديث عن النفس ثقيل فلن أطيل على القارئ الكريم في ذلك فأنا من المهتمين بالكتابة الصحافية منذ اكثر من ثلاثين سنة حيث التحقت بجريدة المدينة المنورة مدة أسبـوعين عام1393 مترجماً وكتبت أول مقالة لي في تلك الأسبوعين. ثم انطلقت للكتابة في مجلة المجتمع الكويتية وكانت بعنوان "مشاهدات عائد من أمريكا". وواصلت الكتابة الصحفية، ولكن لم أحترف الكتابة الصحافية إلاّ منذ عدة سنوات. ولذلك فليس كل أكاديمي قادر على الكتابة الصحافية بالإضافة إلى أنها عملية متعبة تحتاج إلى قدرات خاصة.

س5: للاستشراق بصماته الواضحة في الفكر والأدب العربي المعاصر، فهل أخذ ذلك الموضوع حقه من الدراسة والبحث وما مدى خطورته؟

ج:ما زلت أذكر كتاب الدكتور محمد محمد حسين بعنوان حصوننا مهدده من داخلها أو في وكر الهدامين وكتابه الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي الحديث وكتابه الإسلام والحضارة الغربية وكتاب مصطفى الخالدي وعمر فروخ الاستعمار والتبشير في البلاد العربية وكتب الشيخ محمود شاكر وبخاصة كتابه عن المتنبي ومقدمته التي عنونها ونشرت منفصلة رسالة في الطريق إلى ثقافتنا وكتب الشيخ عوض القرني عن الحداثة في ميزان الإسلام وكتب الدكتور عدنان النحوي عن الحداثة والأدب الإسلامي، وكتب الشيخ أنور الجندي الكثيرة في هذا المجال وكتب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وغيرهم كثير.

        وهكذا فالإنتاج الفكري حول أثر الاستشراق في الفكر والأدب ليس قليلاً، ولكن النشاط الفكري والأدبي للمتأثرين بالاستشراق قوي ومنظم ويحتاج إلى متابعة ورصد ولا بد من الحوار والنقاش حول هذه القضايا، ولكن أولئك المتأثرين بالاستشراق والتيارات الفكرية الغربية لا يسمحون بهذا النقاش فهم إذا ما امتلكوا منبراً من المنابر جعلوه خاصاً بهم ولم يسمحوا لغيرهم مع أنهم ينادون دائماً بضرورة الحوار والانفتاح على الآخر، ولكنهم ربما يقصدون الآخر الغربي. وتشهد بذلك ندواتهم ومؤتمراتهم وغير ذلك من النشاطات.

س6: ما وسائل المستشرقين للتأثير في الفكر الإسلامي وما أساليبهم في صياغة فكر إسلامي موافق للتيار الغربي؟

ج: مثل هذا السؤال يحتاج إلى رسالة دكتوراه للإجابة عليه ولكن علينا أن نرجع إلى بداية البعثات العلمية منذ عهد محمد علي فكما قال الشيخ محمود شاكر إن الاستشراق كان له يد في هذه البعثات وحاول من خلالها أن يجتال عدداً من أبناء هذه الأمة ممن عرفوا بالذكاء والفطنة فيصنعهم على عينه فكانت البعثة المصرية في فرنسا يتم تعليمها تحت إشراف المستشرق جونار، وكانت البعثات من المغرب يشرف عليها مستشرقون آخرون. وقد طالب هؤلاء المشرفون أن يمكث طلاب البعثة وقتاً أطول من مدة البعثة "حتى يتشبعوا بعظمة فرنسا" كما ذكر ذلك الشيخ محمد المنوني رحمه الله في كتابه نهضة المغرب في العصر الحديث

    ولم يكتف المستشرقون بذلك فإن دولهم التي كانت تحتل معظم الدول الإسلامية مكنت لهؤلاء الذين درسوا في الغرب وتشبعوا بفكر الغرب وثقافته وفلسفته ومكنت لهم من منابر التوجيه. وارجع إن شئت إلى كتاب محمد محمد حسين الإسلام والحضارة الغربية لترى ما قاله عن كرومر في مصر وأثر مدرسة فيكتوريا التي درس فيها طلاب من معظم البلاد العربية. وكان للأمريكيين مدارسهم في المنطقة التي تحول بعضها إلى الجامعة الأمريكية في القاهرة واسطنبول وبيروت. ومن المعروف أن الغرب عموماً يحتفي بالمفكرين العرب والمسلمين المتأثرين بالغرب وعلمانية فتفتح له الجامعات الغربية والمؤتمرات والندوات، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى.

س7: ما رأيك في النقد الإسلامي للاستشراق وتوجهات ذلك النقد؟

ج: النقد الإسلامي للاستشراق بدأ منذ فترة بعيدة وبخاصة في عهد الاحتلال الأجنبي للبلاد العربية الإسلامية وبخاصة بعد ظهور الحركات الإسلامية المعاصرة. فهذه الحركات حينما ظهرت كان هـمهاً مقاومة الاحتلال الأجنبي الذي حاول طمس الهوية العربية الإسلامية وتجهيل الشعوب المحتـلة ونشر الفقر والمرض فيها. بالذي يراجع تلك الصحف منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية يجد نشاطات وافرة في نقد الاستشراق. وأذكر في هذه المناسبة ما كتبته الصحف الجزائرية الإصلاحية في الفترة ما بين الحربين العالميتين حيث كانت ترد على المستشرقين وافتراءاتهم وتعاونهم مع سلطات الاحتلال الأجنبي، ويمكن الرجوع إلى مجلة الرسالة على سبيل المثال لمعرفة أن نقد الإستشراق بدأ منذ عهد بعيد.

       ولا بد أن نذكر الجهود الرائدة للشيخ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى في نقد الاستشراق في كتابه السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي الذي اهتم فيه بنقد الكتابات الاستشراقية في مجال الحديث الشريف والفقه. ويذكر للشيخ السباعي ريادته في زيارة معاقل الاستشراق في الجامعات الأوروبية ومناقشة المستشرقين في كتاباتهم حول الإسلام. ولكن خطوات السباعي لم تجد من يواصلها بطريقة منهجية حتى عهد قريب وظهور كتاب مثل الدكتور قاسم السامرائي والدكتور محمود حمدي زقزوق وغيرهما ممن عرف الاستشراق عن قرب وعاش في بلاد الغرب. ويدخل في مجال نقد الاستشراق الرسائل العلمية التي أنجزت في قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة فهذه الرسائل تحتاج إلى الاهتمام بها ونشرها أو نشر المتميز منها، وهي جهود مباركة في نقد الاستشراق.

س8: ما ذا عن تجربة إدوارد سعيد؟

ج: لاشك أن لتجربة إدوارد سعيد مكانتها وأهميتها في نقد الاستشراق، فهو انتقدهم بلغتهم وبلغة إنجليزية عالية مما أزعج كثير منهم إزعاجاً شديداً، وقد ركزّ سعيد في نقده على جانب واحد وهو الارتباط بين الاستشراق وفكرة الهيمنة والسيطرة والتشويه. والاستشراق أوسع من ذلك بكثير ولعل إدوارد سعيد كما ذكر لم يقصد التأريخ للاستشراق وإنما أراد تقديم النموذج على نظرية فلسفية في المعرفة وتطبيقها على الاستشراق. وهنا لا بد أن نذكر أنه وجد من المسلمين من كتب عن الاستشراق باللغة الإنجليزية، ولكنه لم يحظ بالانتشار ومن هؤلاء عبد اللطيف الطيباوي في مقالتيه " النقد الأول والثاني للمستشرقين الناطقين باللغة الإنجليزية" وقد نشرتا أولاً في مجلة المركز الثقافي الإسلامي في لندن ثم ترجمهما الدكتور قاسم السامرائي ونشرتا في كتاب عن إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والدكتور إسماعيل راجي الفاروقي، والأعظمي وغيرهم.

س 9: ساهم الاستشراق في رسم صورة الإسلام والعرب في الغرب كما يؤكد ذلك الدكتور محمود حمدي زقزوق فهل هناك محاولات إسلامية لتغيير تلك الصورة؟

ج: نعم هناك محاولات كثيرة فهذه المعاهد والمراكز الإسلامية مثل "معهد العلوم الإسلامية والعربية" التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في أمريكا، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، والمؤسسة المتحدة للبحوث والدراسات في الولايات المتحدة وكذلك رابطة الشباب العربي المسـلم وجمعية مسلمي أمريكا الشمالية وغيرها من المراكز والجمعيات والمساجد في أوروبا وأمريـكا تقوم بجهود مباركة لتقديم صورة صحيحة للإسلام والمسلمين. ولكن مازال كثير من العمل في انتظار المسلمين حيث إن الجامعات الغربية عموماً تستقطب للتدريس فيها والبحـث النماذج المتغربة والعلمانية ونحن بحاجة لعقد اتفاقات مع هذه الجامعات لتتاح الفرصة لأصحاب الاتجاه الإسلامي الصحيح أن يكون لهم وجود في هذه الجامعات.

    أما في مجال الإعلام فإن الغرب يسيطر على ثمانين بالمائة من هذه الوسائل المسموعة والمرئية والمقـروءة، ولا بد أن نبدأ في العمل ليكون لنا موقع في هذه الوسائل. فالوعي الإسلامي الصحيح للمسلـمين في الغرب أو في الشرق الذين يتعرضون لهذه الوسائل أن يكتبوا إليها وينتقدوا ما تقدمه فلا بد من الضغط على الإعلام الغربي بالوسائل التي يعرفها الغرب لتغيير الصورة. وهناك من الجهات التي تقوم ببعض الجهد مثل اللجنة الأمريكية العربية لمكافحة التمييز، وكذلك المجلس الإسلامي الأمريكي وغيرها من الهيئات العاملة في هذا الميدان. ولكن لندرك أن الطريق ما زال طويلاً حتى نصل إلى تغيير هذه الصورة، وأن ندرك أننا يجب أن نسعى إلى تغيير صورتنا أمام أنفسنا فنعود إلى الإسلام العودة الحقيقية حتى لا يتخذها الآخرون حجة لتشويه صورة الإسلام.

    

س10: بعض الأكاديميين العرب الدارسين في الجامعات الغربية يقلدون النعامة أمام الاستشراق وآثاره فما ذا تقول لهم؟

ج: هذا من الأسئلة التي تحتاج إلى تفسير، ولكن انتشرت مقولة بأن الغزو الفكري وهم وليس حقيقة وأن الاستشراق لا تأثير له وأننا نضخم هذه الآثار. وفي محاضرة ألقيتها في النادي الأدبي الثقافي في مكة المكرمة تقدم أحدهم يقول: " أنت يا سيدي المناوئون للاستشراق ما ذا تفعلون من ازدياد حمى البث الفضائي التي تهدد العالم؟" هل المسألة أننا نناوئ الاستشراق وأنت تحب الاستشراق. إن المسألة أن الأمم مطالبة بالمحافظة على هويتها وذاتيتها وما يفعله الغرب اليوم بالوسائل الفضائية فعله أسلافه من قبل أكثر من ألفي سنة عندما خرج اليونانيون يحاولون أغرقة العالم من حولهم حتى إن فرنسا أخذت ما سمته" الفرنسة" عنهم، وفعل الإنجليز الشيء ذاته. فهؤلاء الذين لا يرون خطراً في الثقافات التي تحاول السيطرة إنما هم ممن أصابهم الإحباط وفقدوا الاعتزاز بالهوية العربية الإسلامية وبهرتهم المنتوجات الغربية والفلسفة الغربية والأدب الغربي وغير ذلك. ليس ضعف الأمة أو قوتها فيما تملكه من وسائل مادية - وإن كان على المسلمين أن يملكوها ويصنعوها- فالقوة الحقيقية هي في القوة الذاتية في الإبداع والابتكار.

س11: يحاول بعض المستشرقين التخلص من صورة الاستشراق القديمة المرتبطة بالاستعمار ومحاولة السيطرة على الشرق، والإيحاء بأن ذلك الدور قد انتهى فما صحة ذلك؟

 ج: هذه المحاولة تعود إلى الخمسينيات من هذا القرن واستمرت حتى استطاع الغربيون التخلص من هذه التسمية في المؤتمر الدولي للجمعية الدولية للمستشرقين وصوتوا على عدم استخدام هذا المصطلح. وللغربيين أن يتخذوا من الأسماء ما يناسبهم ولهم مبرراتهم في ذلك التي من بينها ما ارتبط بكلمة استشراق من معاني سلبية. ولكن من قال إن دور الاستشراق قد انتهى فإنه يخالف طبيعة الأشياء: أليس الغرب بحاجة إلى استمرار معرفة الشرق، ألا تستفيد الحكومات الغربية من الدراسات التي يعدها الباحثون الغربيون، بل هم يستفيدون من الدراسات والبحوث التي نعدها نحن عن أنفسنا حتى يعدوا الخطط المناسبة لمواجهة أي تأثير لدراساتنا؟ إن مالك بن نبي رحمه الله تحدث في الصراع الفكري عن بعض وسائل الغرب في هذا الصراع. إنهم يفتعلون بعض المعارك الفكرية أحياناً في الأمة الإسلامية ليشغلونا عن معارك أهم.  

س12: من معالم الاستشراق الحديث الاستشراق الإقليمي أو التخصصي وهو منهج المدرسة الأمريكية الحديثة فما الفرق بينه وبين الاستشراق التقليدي؟

ج: بدأت النشاطات الاستشراقية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية حيث تخلت بريطانيا عن نفوذها في المنطقة فوجدت أمريكا أنها بحاجة لمعرفة المنطقة معرفة دقيقة فنشأ فيها ما سمي"الدراسات الإقليمية" أو "دراسة المناطق" حيث يتخصص باحث أو أكثر في إقليم معين يعرفون كل ما يحتاجون إليه من معلومات عن ذلك الإقليم. والأمر ليس جديداً كما يظن البعض فإن البريطانيين في دليل الخليج ل "لويمر" تخصصوا في دراسة الخليج العربي فهذا الدليل يضم أربعة عشر مجلداً تناول هذه المنطقة من النواحي الجغرافية والتاريخية والسياسية والاقتصادية والفولكلور والاجتماع وغير ذلك من الجوانب.

   نعم بدأ الأمريكان بالتخصص في الدراسات الإقليمية، ولكن بريطانيا أرسلت لجنة عام 1961 برئاسة وليام هايتر لدراسة التجربة الأمريكية في دراسة الأقاليم. والآن أصبح التخصص أدق بكثير من هذه الدراسات ففي جامعة كاليفورنيا في بيركلي يوجد ثمانية عشر قسماً تدرس ما يخص العالم الإسلامي والعربي ويتم التنسيق بينها تحت مظلة مركز دراسات الشرق الأوسط.

    أما الاستشراق التقليدي فكان المستشرق يعرف اللغة العربية أو الفارسية أو التركية ثم يدرس الإسلام في جميع التخصصات من فقه وحديث وقرآن ولغة عربية وآدابها وغير ذلك. فهذا الأمر لم يعد منطقياً أمام توسع المعارف والتخصصات والحاجة إلى المعلومات الأكثر دقة عن البلاد الأخرى.

س13: ساهم الاستشراق اليهودي في قيام دولة إسرائيل، ولكن هل انتهى دوره بذلك أو له جهود متواصلة بعد ذلك؟

 ج: لا لم يتوقف الاستشراق اليهودي فالمستشرقون اليهود عملوا من داخل المؤسسات الاستشراقية بمكر ودهاء فلم يظهروا على أنهم يهود ومن الصعب معرفة الكثير منهم إلاّ بالتدقيق في أصولهم وديانتهم. وإسهامهم في تأسيس دولة يهود في فلسطين كان بدراسة المنطقة تاريخياً وجغرافياً واجتماعياً ليسهموا في السيطرة عليها ويعملوا خبراء عند الدول الغربية لتوجيه سياسات تلك الدول لمصلحتهم.

    والاستشراق اليهودي مازال قائماً فهناك مراكز البحوث اليهودية المنتشرة في إسرائيل ومنها على سبيل المثال "مركز موشي ديان لدراسة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" ولهذا المركز صلات قوية مع الجامعات الغربية في أمريكا وأوروبا ويقوم بإرسال الباحثين والعلماء إلى وزارات الخارجية الأوروبية والأمريكية لتقديم المحاضرات والاستشارات لتلك الجهات. ويشارك الباحثون اليهود من هذه المراكز في المؤتمرات الدولية حول الإسلام والعالم الإسلامي فمثلاً مثلّ إسرائيل أكثر من باحث في المؤتمر العالمي في هولندا "الإسلام والقرن الواحد والعشرين" وكان من بين الأوروبيين من هو يهودي. وللمراكز الاستشراقية اليهودية دوريات ومجلات تقوم بتوزيعها في العالم مؤسسات أوروبية حتى يصل فكرهم إلى جميع أنحاء العالم.

 

 س14: يرى بعض المفكرين العرب مثل الدكتور حسن حنفي في كتابه مدخل إلى علم الاستغراب أن دراسة الفكر الغربي والفلسفة الغربية أفضل وسيلة لمواجهة الاستشراق، فما رأيك؟

ج: قبل أن يتحدث حسن حنفي بألف وأربعمائة عام ويزيد تناول القرآن الكريم عقائد اليهود والنصارى والأمم الأخرى وبخاصة المشركين من العرب بالتفصيل والنقد ومجادلتهم. وقد اورد القرآن الكريم أيضاً أقوالهم في الإسلام وقد أحصيت ذات مرة عدد الآيات التي تبدأ ب "قالوا" و"يقولون" فوجدتها كثيرة جداً، أليس في هذا توجيه لنا أن نعرف أولاً البيئة التي نتوجه إليها بالـدعوة فالأمة الإسلامية هي الأمة الشهيدة على الأمم وكيف تتحقق الشهادة بدون المعرفة. ألا ترى أن القرآن الكريم تحدث عن بعض العادات الاجتماعية للمشركين مثل كراهيتهم للإناث {وإذا بُشِّر أحدُهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به أ يمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} فمعرفة الغرب والفلسفة الغربية والفكر الغربي أمر ضروري ن وقد سبق ابن حزم في كتابه الفصل بين الملل والنحل، وهناك في كتاب أسامة بن منقذ الاعتبار لمحات رائعة تدلنا على عمق المعرفة بالغرب. وإنني أتوقف دائماً عند وصف عمرو ابن العـاص رضي الله عنه للروم بقوله الذي ورد في صحيح مسلم ( إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، و أوشكهم كرة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك." ويعلق الدكتور القرضـاوي:" ويعجب المرء أن تصدر هذه الشهادة للروم من قائد عسكري وسياسي مسلم مثل " عمرو بن العاص" الذي خاض أكثر من معركة مع الروم في فلسطين ومصر وغيرها، ولكن الإسلام الذي علّمهم أن يكونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم وألاّ يجرمنّهم شنآن قوم على ألاّ يعدلوا."

       والأمر الآخر الذي أشار إليه حسن حنفي وهو مهم في المواجهة بيننا وبين الغرب وهو أن ننتقل من الذات المدروسة إلى ذات دارسة، فلماذا هم الذين يبحثون في أمورنا ويشركونا أحياناً في إعداد دراسات لمصلحتهم كما يفعلون بطلاب الدراسات العليا الذين يوجهونهم لدراسة موضوعات معينة يصعب عليهم أن يصلوا إليها بأنفسهم، بل علمت أن بعض هؤلاء الأساتذة يفرض على طالبه أن يصحبه إلى بلاده ليطمئن على دقة الدراسة التي يقوم بها تلميذه.

     وأذكر هنا أن إدوارد سعيد سخر من بعض العرب-والصحيح أكثرهم- الذي يأتي إلى الغرب ليدرس قضايا تخص العرب والمسلمين فذكر مثلاً صادق جلال العظم الذي استضافته جامعة برنستون ثلاث سنوات لتدريس الفكر السياسي العربي المعاصر. وقد قال لمجموعة من اللبنـانيين لماذا تأتون إلى أمريكا لتدرسوا تاريخ لبنان، لماذا لا يكون لكم اهتمام بالقضايا التي تخـص المجتمع الأمريكي ويكون لكم رأي في هذه القضايا كما يخوض الغربيون في القضايا التي تهم العالم الإسلامي والعربي.

س15: ما رأيك في التوسع في دراسة الاستشراق والفكر الغربي على جميع مستويات التعليم؟

ج: مادام أن فكر الغرب وثقافته قد دخلا إلى عالمنا العربي الإسلامي من خلال الإعلام ومن خلال المناهج الدراسية كدراسة علم الاجتماع وغيره من المواد الدراسية ومن خلال وسائل الإعلام كأفلام الكرتون وغيره فلماذا لا نعرف هذا الغرب؟ وحتى لو يكن ذلك من خلال مواد علمية خاصة، ولكن يجب تقديم دورات للمعلمين في المراحل المختلفة لعرض الإسلام وعرض الغرب وكما قيل وبضدها تتميز الأشياء فكما يعرض القرآن الكريم عقائد المشركين وصفات اليهود والنصارى والمنافقين فإذاً علينا أن نعرف الغرب بطريقة ما. ولكن كيف يتم ذلك هذا ما ينبغي أن تتم دراسته. وينبغي التركيز على الجانب الإيجابي فيما ينبغي على المسلمين أن يقوموا به لمعرفة هذا الدين وجعله الحاكم على سلوكنا وأخلاقنا وحياتنا الاجتماعية، والفكرية، والسياسية، والأخلاقية.

 س16: هل لكم دكتور مازن أن تحدثونا عن مشروعاتكم العلمية القادمة:

ج: شرعت منذ مدة بجمع مادة علمية عن الباحثين الغربيين في الدراسات العربية الإسلامية وذلك لإعداد موسوعة عن هؤلاء، فمما هو معروف أن موسوعة العقيقي صدرت قبل أكثر من ثلاثين سنـة، وهناك موسوعة المستشرقين للدكتور عبد الرحمن بدوي ولكنها لا تضم إلاّ عدداً محدوداً من المستشرقين. ولعله مما يؤخذ على هاتين الموسوعتين إعجاب كلٍّ من الكاتبين بالمستشرقين والتركـيز على الجوانب الإيجابية. وهناك كتب أخرى تتناول الدراسات الاستشراقية في أوروبا مثل كتاب ميشال جحا ورودي بارت.

        ومن أهداف هذا المشروع التعريف بالمراكز الاستشراقية أو مراكز الدراسات العربية والإسـلامية في الغرب ويسعى الباحث للحصول على منح للقيام بزيارات ميدانية لأكبر عدد منها للاطلاع مباشرة على جهودها ونشاطاتها. ولما كان قد ظهر عدد كبير من الباحثين الغربيين في الإسلاميات ويحتاج الباحث أن يتعرف إليهم وإلى جهودهم. وسوف تسعى الموسوعة إلى تقديم بعض النقد والتقويم لهذه الجهود.  كما أن من المتوقع أن تضم هذه الموسوعة كذلك ترجمات للباحثين من العرب المسلمين المهتمين بالدراسات الاستشراقية وكذلك بدراسة الغرب.

    ومن مشروعاتي القريبة إعداد بعض محاضراتي التي ألقيتها في النوادي الأدبية في مكة المكرمة والدمام وأبها وبعض مشاركاتي في المؤتمرات الدولية في كتاب أو أكثر. ففي النادي الأدبي في الدمام كانت محاضرتي بعنوان "الجديد في عالم الاستشراق" وفي مكة المكرمة "من قضايا الدراسات الإسلامية في الغرب" وقد ألقيت في نادي أبها الأدبي محاضرة بعنوان "المعرفة بالآخر :ظواهر اجتماعية من الغرب"

     ووجدت أخيراً أن لدي عدداً كبيراً من المقالات الصحفية التي يمكن أن تكون أقرب إلى المقالات العلمية في مجالات الاستشراق ودراسة الغرب وذلك لحرصي في الغالب على توثيق المعلومات في هذه المقالات. وأرجو أن أجد فرصة لنشرها في كتاب أو أكثر.

    ولدي مشروع دراسة كتابات إدوارد سعيد في مجال الصلة بين الإسلام والغرب، وغير ذلك من المشروعات. وبودي أن يزداد عدد طلاب قسم الاستشراق وأجد منهم من يود المشاركة في هذه النشاطات، فمن المعروف في الجامعات الغربية أن التلاميذ أو طلاب الدراسات العليا يقومون بالمشاركة مع الأستاذ في إعداد البحوث وقلّما يكون جهد الباحث فردياً .

س17: ما هي المجالات التي يمكن أن يعمل فيها خريجو قسم الاستشراق، وما هي الجهات التي تعتقد أنها يمكن أن تفيد من هذا القسم وخريجيه؟

 ج:كنت أقرأ في بعض النشرات الصادرة من مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة نيويورك وجامعة هارفارد فوجدت أنهم يهتمون بالناحية العملية وقد أدخلوا بعض الدراسات ضمن دراسات قسم الشرق الأوسط لتكون مناسبة للخريجين ليعملوا في بعض الجهات، فجامعة نيويورك مثلاً أضافت إلى دراسة الشرق الأدنى دراسة الصحافة فيكون الطالب قادراً بعد تخرجه على العمل في مجال الإعلام الخارجي كمراسل في الشرق الأوسط. وقد أضافت جامعة هارفارد دراسـة مواد في علم الاجتماع وعلم الإنسان ليستطيع المتخرج العمل في بعض الجهات التي تحتاج هذه الكفاءة. ونحن حين أنشأنا قسم الاستشراق لا بد أنه كان في ذهن الأساتذة الأفاضل وعلى رأسهم معالي الدكتور عبد الله التركي -وزير الأوقاف و الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد- ما يمكن لخريجي هذا القسم أن يعملوه وما الجهات التي يمكن أن تفيد من هؤلاء الخريجين. وإن كنـت قد التحقت بالقسم بعد نشأته بعدة سنوات، ولكنّي علمت أن القسم كان يفكر في التنسيق مع معهد الدراسات الدبلوماسية وغيره من الجهات.

       وأود أن أضيف بأن أقسام دراسات الشرق الأوسط في الغرب قد وضع في مخططاتها أن تقدم خريجيها إلى وزارات الخارجية في الدول الغربية ووزارات الاقتصاد والتجارة والثقافة والإعلام لأن هذه الجهات بحاجة إلى من يعرف العالم الإسلامي. كما أن الشركات العالمية أو المتعددة الجنسيات تحتاج إلى الخبراء في الشرق الأوسط. ونحن في العالم الإسلامي بحاجة في هذه الجهات إلى من يعـرف الغرب معرفة وثيقة ولا بد أن نطور مناهج هذا القسم وننشئ الأقسام العلمية التي تساعد على تكوين كوادر قادرة على فهم الغرب فهماً علمياً دقيقاً مع التمكن من العلوم الشرعية لأن علاقتنا بالغرب يجب أن تكون خاضعة للمعايير الإسلامية.

         ولعل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تنظر في هذا القسم الذي يعرفه معالي الدكتور التركي معرفة وثيقة وتنظر في إمكانية الإفادة من الخريجين وبخاصة أن الخريجين بحاجة إلى إتقان اللغات الأوروبية ليتمكنوا من التعمق في معرفة الغرب. واعتقد أيضاً أن خريج قسم الاستشراق يمـكنه أن يقوم بتدريس مادة الثقافة الإسلامية في الثانوية أو في الجامعات وذلك لأن الهجمة الغربية الثقـافية تحتاج إلى من يكون على اطلاع بالفكر الغربي والصراع الثقافي الحضاري فهو بالتالي معد لهذا العمل بإذن الله، والله الموفق.

* أعد هذه الأسئلة الأستاذ عبد الرزاق المحمدي - أحد المتخصصين في الاستشراق، لنشرها في ملحق الأربعاء بجريدة المدينة المنورة. ونشرت فيما بعد

تعليقات

  1. I found your blog and it was really useful as well as informative thanks for sharing such an article with us. We also provide services related to شهادة CE فيالمملكةالعربيةالسعودية

    ردحذف
  2. جميل استفت من هذه المقالة الرائعة

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية