التخطي إلى المحتوى الرئيسي

زعيم رواد نقد الاستشراق طُرّاً


رواد نقد الاستشراق زعيمهم مصطفى السباعي(*)


        ما زال نقد الاستشراق من الموضوعات المثيرة للجدل. ومن الكتابات  التي اطلعت عليها في هذا المجال ما كتبته موريس أبو ناضر في جريدة   الحياة العدد رقم 11501 الصادر يوم 14 آب (أغسطس) 1994م. واستعرض مجموعة من الآراء التي تناقلت الاستشراق إما بالدفاع عنه كفرع معرفي غير خاضع للإيديوجيات أو السياسية أو الدين أو باعتباره فرعا معرفيا غارقا في الأيديولوجية والالتزام بالنظرة الأوربية الاستعلائية أو بالعقيدة النصرانية. وذكر أبو ناضر مجموعة من الباحثين والعلماء المسلمين وغير المسلمين الذين تناولوا الاستشراق بالنقد أو الدفاع. ومن هؤلاء محمد البهي وأنور عبد الملك وإدوارد سعيد وهشام جعيط وبرنارد لويس والآن روسييون وغيرهم.

        وكان عرض أبو ناضر جيدا لولا أن المساحة المتاحة وطبيعة الموضوع اضطرتاه إلى اختزال كثير من الأفكار والمرور ببعض مقولات المستشرقين مرور الكرام، وكذلك إهمال جانب مهم من النقد الموجه للاستشراق، وهو الأثر الحقيقي الذي نجح الاستشراق في تحقيقه في فكر بعض أبناء المسلمين الذين تمثلوا مقولات المستشرقين وآراءهم وأصبحوا يدافعون عنها كأنها من بنات أفكارهم، وأنها الحق الذي لا يمكن التسامح مع رأي آخر مضاد له، بل كان تشجيع الاستشراق لبعض تلاميذهم سببا في أن سار هؤلاء التلاميذ خطوات ابعد في الجرأة على مسلمات الأمة الإسلامية وثوابتها. ولعل من وسائل التشجيع هذه: نشر أفكار التلاميذ وإعطاؤهم مناصب مهمة في مراكز البحوث وأقسام الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية

        وأحب أن أتوقف قليلا عند بعض المقولات التي أوردها أبو ناضر نقلا عن برنارد لويس الذي زعم أن نقد الاستشراق بدأ بعد الحرب العالمية الثانية. وأن هذا النقد ارتبط بظهور الطبعة الثانية من دائرة المعارف الإسلامية على لسان شخص يدعى  "إمام المسلمين الألمان للباكستان الغربية"، لكن ضجة هذا الهجوم لم تدم طويلا، ولم تحدث صدى واسعا في بقية الأجزاء الأخرى في العلم الإسلامي.

        كتب برنارد لويس هذه العبارة الغامضة في مقالته التي كان يرد فيها على كتاب إدوارد سعيد-بعد أربعة أعوام على صدور الكتاب-وتلاحظ هنا محاولة لويس التقليل من شأن هذا العالم المسلم الباكستاني، وزيادة في الاحتقار ربط قوميته بالألمان ولعله قصد أنه مثقف باللغة الألمانية، فهل كان لثقافته الألمانية أثر في النقد، ثم أن ترك اسمه مجهولا وكذلك ما قاله إنما يقصد منه التقليل من شأنه وشأن نقد الاستشراق. كما أن لويس يريد أن يوحي بأن المسلمين ناموا منذ العام 1945 حتى 1978 حين صدر كتاب إدوارد سعيد.

        والحقيقة أن نقد الاستشراق بدأ قبل الحرب العالمية الثانية في صحافة الحركات الإسلامية وفي كتابات زعماء الإصلاح. وتناولت هذه الصحافة كثيرا من مفتريات المستشرقين وآرائهم ويخاصة أن التعاون كان وثيقا بين الاستشراق والاستعمار وكان التمييز بين المستشرق والمستعمر أمرا صعبا. ومن الأمثلة على هذا النقد والمواجهة: أرادت السلطات الاستعمارية في الجزائر إصدار مجلة عدلية للأحكام الشرعية وأوكلت هذا الأمر لأستاذ القانون الشريعة في جامعة الجزائر  (موران) للإشراف على ذلك، فما كان من العلماء المسلمين إلا التصدي لهذه المجلة حتى صرفت السلطات الاستعمارية النظر عنها.

        وإذا أردنا حقا معرفة بداية الاستشراق وفعلينا الرجوع إلى رسالة الدكتوراه التي تقدم بها أحمد سمايلوفتش بعنوان:  فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر العام 1974 ورجع فيها إلى كثير من المراجع التي تؤكد أن نقد الاستشراق لم يبدأ من العلم الباكستاني الذي أغفل لويس اسمه عمدا بل قبل ذلك بكثير. فهذا حسين الهراوي يصدر كتابه  المستشرقون والإسلام العام 1936)) وأصدر محمد فريد وجدي كتابه  نقد كتاب الشعر الجاهلي عام 1926، ولا بد من الرجوع إلى الدوريات العربية - وان كانت قليلة - فنجدها تناول الاستشراق ومنها ما كتبه أحمد أمين في مجلة الرسالة عن دائرة المعارف الإسلامية في طبيعتها الأولى العام 1933، وكتب علي العناني مقالة بعنوان  "المستشرقون والآداب العربيةفي مجلة  الهلال عام 1932م، وكتب كوركيس عواد أربع مقالات العام 1945م ينتقد دائرة المعارف الإسلامية، وكتب محمد روحي فيصل ينتقد أغراض الاستشراق في مجلة  الرسالة العام 1935م.

        ولئن كان لويس حدد بداية نقد الاستشراق بطريقته الساخرة والبعيدة عن المنهج العلمي، فإن أبو ناضر على رغم اهتمامه الواضح بالاستشراق ومعرفته العميقة به لم يكن مصيبا عندما قال إن كتاب إدوارد سعيد  الاستشراق وهو أول كتاب تحليلي نقدي، وربما الوحيد حتى الآن في مجال الدراسات الاستشراقية، لأن ما سواه من الكتب ليست سوى مؤلفات وصفية تعريفية أو معجمية. وذكر من هذه الكتب ما وضعه ميشال جحا ونجيب العقيقي وعبد الرحمن بدوي. وأغفل أبو ناضر بهذا التعميم الجارف كثيرا من الكتابات التحليلية النقدية في أنحاء العالم الإسلامي، وقد يكون له عذره بسبب ضعف التبادل الثقافي بين أنحاء العالم الإسلامي وإن كان مثل هذا العذر لا يقبل من الباحثين المتخصصين.

مناظرات هندية


        أولى الكتابات التحليلية النقدية لكتابات المستشرقين في شبه القارة الهندية حيث كان الاحتكاك حكرا بالثقافة الغربية، ومن أبرز العلماء اليهود الشيخ رحمة الله الكيرانوي الذي ناظر القسيس فندر، وكذلك شبلي النعماني والشيخ أبو الأعلى المودودي، وأبو الحسن الندوي وغيرهم، كما وضع علماء أتراك كتابات تحليلية نقدية للاستشراق، وكذلك ظهرت كتابات تحليلية نقدية باللغة الإنكليزية ومن ذلك ما كتبه الدكتور عبد اللطيف طيباوي في مقالته: المستشرقون الناطقون باللغة الإنكليزية، اللتين نشرتهما جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بترجمة الدكتور قاسم السامرائي.

        وإنني أعجب كيف غاب عن الدكتور أبو ناضر قيام جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بإنشاء قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة قبل أكثر من عشرة أعوام، وفي هذا المقسم أنجز العديد من رسائل الماجستير

وهي دراسات تحليلية نقدية لكتابات المستشرقين، وقد أصدر القسم أيضا العدد الأول من كتابه الدوري دراسات حضارية واستشراقية ومجموعة من الدراسات التحليلية والنقدية.

        ولا بد أن أذكر هنا أن (المنطقة العربية للتربية والثقافة والعلوم) ومكتب التربية العربي لدول الخليج تعاونا على إصدار كتاب في جزأين بعنوان: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية عام 1985م  (1405هـ). ورعى مجمع المصنفين في الهند ندوة علمية عن الإسلام والاستشراق  عام 1984م والقائمة تطول، لكن المجال ليس مناسبا لتعداد هذه الكتابات التي على رغم أهميتها يبقى كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق) علامة بارزة في الكتابات النقدية للاستشراق.    

        وإن كان من الأمور الصعبة الحديث عن النفس إلا أنها الحقيقة العلمية التي ينبغي ذكرها وهي أن قسم الاستشراق في كلية الدعوة منح أول درجة دكتوراه لكاتب هذه السطور وكان البحث (دراسة تحليلية نقدية لكتابات المستشرق برلنارد لويس في دراسة الجوانب الفكرية في التاريخ الإسلامي)).

        وكشفت هذه الدراسة التحليلية النقدية المغالطة الكبرى التي يصر عليها لويس-وأوردها أبو ناضر من دون مناقشة-وهي أن ((رجال الاستشراق الحقيقيين هم في معظمهم أساتذة جامعات مستقلون عن المؤسسات الإمبراطورية الكبرى من كهنوتية أو تجارية، وانتقدوها بقوة في بعض الأحيان لأن هاجسهم الاستشراقي كان وما زال قائما على التبحر التحليلي والنقدي والرغبة في المعرفة والفهم..، فلويس بدأ حياته الاستشراقية الحقيقية في أحضان الحكومة البريطانية حيث أعيرت خدماته من الجيش حيث كان يؤدي الخدمة العسكرية إلى وزارة الخارجية، وبعد سنوات من نهاية الحرب وبالذات في العام 1954م طلبت وزارة الخارجية البريطانية من لويس القيام بجولة لزيارة أكثر من عشرين جامعة أمريكية والحديث للإذاعة والتلفاز الأمريكي. ولئن كانت تقارير مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية لم تحدد طبيعة هذه الجولة، فإنها لا يمكن أن تخرج عن الترويج لموقف الحكومة البريطانية السياسي من الأحداث في العلم العربي الإسلامي وبخاصة قضية فلسطين، وكانت الخارجية تريد لموقفها أن يتم الترويج له بصورة علمية أكاديمية.

        واستمر لويس في ارتباطه السياسي والصهيوني بالتحديد وبخاصة عندما قدم استشارة للجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي مرات عدة ومنها محاضرة في تلك اللجنة في  8 أذار (مارس) 1974م. ونظرا إلى اعتزاز إسرائيل بهذه الشهادة قامت بنشرها بعد شهر أو أقل من ذلك حيث صدرت في نشرة خاصة صادرة عن وزارة الخارجية الإسرائيلية في نيسان  (إبريل) 1974م.     

        وليس لويس بدعا من المستشرقين فإن كثيرا من هؤلاء ما زال يقدم الاستشارات لحكومته (شهادات المتخصصين في شؤون العالم الإسلامي حول الأصولية في حزيران وتموز وآب 1985م للكونغرس الأمريكي). كما يقوم هؤلاء بالتدريج لموقف حكوماتهم من خلال وسائل الإعلام المختلفة.

        وأخيرا أذكر كلمة موجزة بخصوص فهم الذات والآخر، فإن أبرز ما يميز الإسلام عن غيره من الأديان أنه ليس معقدا بحيث يصعب على من لا ينتمي إليه أن يفهمه لو أراد حقا أن يفهم، وليس المسلم الذي يحجر على الآخرين دراسة الإسلام والكتابة عنهما داموا يحترمون مقدساته ويدركون مساماته، ولكن عندما يفشل الغربيون في فهم الإسلام لا بد من البحث الدقيق في خلفياتهم الثقافية والعقدية لمعرفة أسباب الفشل.

        وفي رأيي المتواضع ليست المسألة مسألة رفض الآخرين أو قبولهم ليدرسوا الإسلام عقيدة وشريعة وتاريخيا وحضارة فهذا من حق أي إنسان ويجب أن نشجع أي محاولة جادة لفهم الإسلام مع التسليم للأمة التي يراد دراستها بثوابتها وما تعتقده يقينا واحترام خصوصياتها والابتعاد عن الإسقاطات والاستعلاء والإسفاف.





* الحياة العدد 11550- 2 أكتوبر –1994م، 27/4/1415هـ


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الطبعة: الرابعة. الناشر: دار المعارف بالقاهرة (تاريخ بدون). عدد صفحات الكتاب: 219 صفحة من القطع المتوسط. إعداد: مازن صلاح المطبقاني في 6 ذو القعدة 1407هـ 2 يوليه 1987م بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة : يتحدث فيها المؤلف عن معنى التاريخ، وهل هو علم أم فن، ثم يوضح أهمية دراسة التاريخ وبعض صفات المؤرخ وملامح منهج البحث التاريخي. معنى التاريخ: يرى بعض الكتاب أن التاريخ يشمل على المعلومات التي يمكن معرفتها عن نشأة الكون بما يحويه من أجرام وكواكب ومنها الأرض، وما جرى على سطحها من حوادث الإنسان. ومثال على هذا ما فعله ويلز في كتابه "موجز تاريخ العالم". وهناك رأي آخر وهو أن التاريخ يقتصر على بحث واستقصاء حوادث الماضي، أي كل ما يتعلق بالإنسان منذ بدأ يترك آثاره على الصخر والأرض.       وكلمة تاريخ أو تأريخ وتوريخ تعنى في اللغة العربية الإعلام بالوقت، وقد يدل تاريخ الشيء على غايته ودقته الذي ينتهي إليه زمنه، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة. وهو فن يبحث عن وقائع الزمن من ناحية التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان، ومسائله أحواله الم...

وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد.. وما أشبه الليلة بالبارحة

                                      بسم الله الرحمن الرحيم                                  ما أصدق بعض الشعر الجاهلي فهذا الشاعر يصف حال بعض القبائل العربية في الغزو والكر والفر وعشقها للقتال حيث يقول البيت:   وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلاّ أخانا. فهم سيقومون بالغزو لا محالة حتى لو كانت الغزوة ضد الأخ القريب. ومنذ أن نزل الاحتلال الأجنبي في ديار المسلمين حتى تحول البعض منّا إلى هذه الصورة البائسة. فتقسمت البلاد وتفسخت إلى أحزاب وفئات متناحرة فأصبح الأخ القريب أشد على أخيه من العدو. بل إن العدو كان يجلس أحياناً ويتفرج على القتال المستحر بين الاخوة وأبناء العمومة وهو في أمان مطمئن إلى أن الحرب التي كانت يجب أن توجه إليه أصبحت بين أبن...

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية

                             يردد الناس دائما الأثر المشهور :(من تعلّمَ لغةَ قوم أمن مكرهم أو أمن شرَّهُم) ويجعلونها مبرراً للدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية أو اللغة الإنجليزية بصفة خاصة. فهل هم على حق في هذه الدعوة؟ نبدأ أولاً بالحديث عن هذا الأثر هل هو حديث صحيح أو لا أصل له؟ فإن كان لا أصل له فهل يعني هذا أن الإسلام لا يشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟ وإن كان صحيحاً فهل الإسلام يحث ويشجع على دراسة اللغات الأجنبية وإتقانها؟         لنعرف موقف الإسلام من اللغات الأخرى لا بد أن ندرك أن الإسلام دين عالمي جاء لهداية البشرية جمعاء وهذا ما نصت عليه الآيات الكريمة {وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً } (سبأ آية 28) وقوله تعالى { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } (الأنبياء آية 107) وجاء في الحديث الشريف (أوتيت خمساً لم يؤتهن نبي من قبلي، وذكر منها وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). فهل على العالم كـله أن يعرف اللغة العربية؟ وهل يمكن أن نطالب كلَّ...