لقاء صحيفة المستقلة أجرى اللقاء فتحي بلحاج العدد (139) في 26 شعبان 1417هـ -6يناير 1997م



يشتغل الدكتور مازن صلاح مطبقاني أستاذاً مساعداً بقسم الاستشراق بكلية الدعوة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في المدينة المنورة، وهو أحد الباحثين المتميزين في معالجتهم للقضايا الفكرية والثقافية المطروحة للنقاش. يتميز بفكر ثاقب ومعالجة موضوعية جلبت إليه الانتباه في الندوة الدولية التي عقدت مؤخراً في تطوان حول علاقة الاستشراق بالدراسات الإسلامية. التقته المستقلة وكان لها معه هذا الحوار
من واقع اشتغالك بقضايا الاستشراق، كيف تنظر إلى حركة الاستشراق في المرحلة الحالية؟
        الاستشراق في المرحلة الحالية نشيط جداً ومتعدد الاختصاصات. وهو يعكس حرص الغرب على معرفة كل ما يدور في العالم الإسلامي ومعرفة أدق التفاصيل في حياة الأمة العربية الإسلامية من اللغة والآداب والعلوم الاجتماعية والعمران وحتى الفلكلور واللهجات العامية والقضايا الاجتماعية.
        لقد كان الاستشراق في السابق يعتمد فقط على الباحثين الغربيين ولكن الأمر الآن يختلف، حيث وجد من أبناء المسلمين من يستطيع أن يقدم خدمات قد لا يستطيع المستشرقون الغربيون الوصول إليها، سواء كانت معلومات أو تحليلات للقضايا الحساسة بالنسبة للعالم الإسلامي وتجلى ذلك غالباً عند إرادة أبناء المسلمين الحصول على درجات علمية من الغرب، وكان أن تم ذلك بإشراف وتوجيه أساتذة غربيين سواء في الموضوعات أو في الناهج التي يستفيد منها الغرب أولاً وأخيراً.
        ومما قاله الدكتور طه جابر العلواني إنه في أمريكا بصفة خاصة ليس هناك رسالة علمية، إلّا ويُعدّ عنها ملخص يحال إلى الجهات الرسمية. فإذا ما تبين أن هناك حاجة إليها جيء بالرسالة كاملة.
        فالاستشراق في وضعه الحالي نشط ومتحرك، رغم ما يقال أحياناً عن ضعف الإمكانيات لكن المطلع على النشاطات التي تعرفها بعض الجامعات الأمريكية وقليل من الجامعات الأوروبية يجد أنهم لا زالوا ينفقون بسخاء، ويعقدون المؤتمرات والندوات ويصدرون الكتب والمجلات وغير ذلك. كما يستضيفون الأساتذة الزائرين.
الموقف المتحفظ لدى الباحثين والمفكرين العرب والمسلمين من الاستشراق هل لا زال له محل، وهل لا زالت الشبهة تلاحق الاستشراق؟
        لا ينبغي أن نتحفظ عن التعامل مع الاستشراق والاتصال به، واقتحام معاقله والاطلاع على نشاطاته من الداخل ومحاورة رموزه وعلمائه وباحثيه، وإثبات ما أخطؤوا فيه والتأكيد على الجوانب الإيجابية فيما وصلوا إليه، فلا ينبغي بنظري التحفظ في التعامل مع الاستشراق بل ينبغي البحث عن كل الوسائل التي توصلنا إلى الاستفادة والتعامل الإيجابي مع الموضوع وأصحابه.
اتجهت حركة الاستشراق في نشاطها الغالب (نحو العلوم والدراسات الإسلامية وكذلك طريقة عيش المجتمعات العربية والإسلامية، لماذا ذلك بالضبط؟
        الغرب يهدف إلى أن تستمر سيطرته وهيمنته على العالم والمعرفة وسيلة من وسائل استمرار هذه السيطرة والهيمنة وتوجيه التيارات الفكرية في العالم الإسلامي ولم يهتم الاستشراق فقط بحياة المجتمعات الإسلامية والعلوم الإسلامية ولكن اهتم كذلك بإنتاج المسلمين قديماً وحديثاً. ولا زالت هناك دراسات حول إسهامات المسلمين في علوم الطب والفيزياء والرياضيات.
كتبت عن الاستشراق الأمريكي. ما ذا تعني به؟ وهل لك أن تحدد لنا خطوطه الكبرى؟
الذي دعاني إلى البحث في الاستشراق الأمريكي هو أن رسالتي للدكتوراه كانت حول المستشرق برنارد لويس، وهو في الأصل بريطاني، انتقل إلى أمريكا عام 1974م، وهو قبل أن ينتقل إلى أمريكا ويترك بريطانيا كلياً كانت له نشاطات في الولايات المتحدة كأستاذ زائر بجامعة لوس أنجلوس وبرنستون ونيويورك، كما أنه قدّم استشارات إلى الحكومة الأمريكية. ثم إن الاستشراق الأمريكي اليوم قائم بذاته، لأن أمريكا بمثابة قارّة وهناك مئات مراكز البحوث والأقسام العلمية. فالاستشراق الأمريكي أكمل مشوار الاستشراق الأوروبي قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها قليلاً حينما تخلت بريطانيا عن مستعمراتها وعن مكانة السيطرة في العالم الإسلامي أو في الشرق الأوسط وحلت أمريكا محلها. فجاء الأمريكان بطريقتهم العلمية البراغماتية وحرصوا على أن يطوّروا مفاهيم الدراسات العربية والإسلامية فأوجدوا ما يسمى بدراسة الأقاليم (تخصص شخص في منطقة معينة).
        وعندما تذهب إلى المكتبة تجد عدداً من الكتب حول المملكة العربية السعودية أو عن عُمان أو عن قطر.
        ثم وجدوا أن هذا التخصص قد يكون واسعاً فضيّقوا منه، بحيث أصبح هناك من تقتصر دراسته على العادات والتقاليد أو عن مدينة أو قرية.
        فالاستشراق الأمريكي يتمتع بحيوية ونشاط وإمكانات هائلة. ففي جامعة برنستون، خلال شهر، زار قسم دراسات الشرق الأوسط ثلاثة أساتذة زائرين وهناك أيضاً تعاون بين الجامعات الأمريكية ومراكز البحوث، إنهم عمليون ويتفقون على البحث العلمي.
بمقابل حركية الاستشراق التي تحدثت عنه تبدو حركة الفكر الإسلامي والاجتهادات والبحث الإسلامي ضعيفة وفي أكثر الأحيان جامدة. لماذا ذلك؟
        هذا نقد جميل نوجهه لأنفسنا، فدائماً نحن الباحثين نوجه اللوم إلى الجهات المسؤولة والمؤسسات لأنها لا تنفق على البحث العلمي، وأن الإنسان لا يجد مصادره متوفرة وسهلة، كما لا يجد الإمكانات للسفر واللقاء بغيره من الباحثين، لكن ينبغي أن يوجد من الرواد من يغامر وإذا عدنا إلى تاريخ المستشرقين والحكمة ضالّة المؤمن فنجد أن بعض المستشرقين عاش فقيراً ومات مريضاً ومهموماً ، فمنهم من بذل سنوات طويلة في تحقيق كتاب أو في إعداد معجم للغة العربية أو اللغات الأوروبية، فإذن ينبغي على العلماء المسلمين إذا أرادو أن يتحملوا مسؤولياتهم وهم مطالبون بذلك – أن يكون منهم من يقدم التضحيات وليس عيباً أن يعيش الإنسان حياة الكفاف من أجل رسالته في البحث العلمي والثقافة والفكر.
بحكم قربك من مجال البحث هذا، هل تلمس اتجاها لدى الباحثين والمجتهدين في العالم العربي والإسلامي نحو التعمق في دراسة الذات أولاً، ثم دراسة الآخر ثانياً؟
من الصعب الحكم على الحركة العلمية في العالم الإسلامي ككل، إنما الأمة الإسلامية بخير وإلى خير وهذه من الدروس التي نتعلمها من السيرة النبوية، ولا شك أن الاتجاه موجود، والذي يقارن أوضاع الأمة الإسلامية الآن بما كانت عليه قبل عشرين سنة، من حيث التوجه إلى معرفة الإسلام أكثر، سيجد أن الأمر أفضل يتطور ويتطور برغم أن الضغوط تزداد. ولا يمكن أن تقوم للإسلام قائمة ودعوة ودولة ووجود وكيان قوي إلّا بوجود مثل هذه الابتلاءات، وهذه الظروف الصعبة. وفي القرآن الكريم إشارة لذلك (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبل ...) فالقضية واضحة، والبحث العلمي، والتوجه إلى معرفة الذات وإلى نقد الذات موجود، ونسأل الله أن يستمر هذا البحث.
هل تعتقد أن الرؤية العربية والإسلامية تتجاوز ما كتبه إدوارد سعيد حول الاستشراق؟
يبدو لي أن قضية إدوارد سعيد أعطيت أكثر من حجمها، فنحن لا ننكر جهود الرجل وعاطفته فضحه للاستشراق، لكن إذا قلنا إن إدوارد سعيد علامة بارزة فإننا بذلك نكون قد أغفلنا جهود عدد كبير من العلماء واسمح لي بأن أقول بأن الذي لا يدرك الماضي يضطر بأن يكرر الأخطاء. فالعالم العربي وقع تحت الاحتلال، وفي أثناء الاحتلال ظهرت جمعيات علمية إصلاحية إسلامية أُطلق عليها حركة الإصلاح كما في المغرب وفي تونس وفي الجزائر، وهؤلاء العلماء واجهوا الفكر الغربي وكان لهم معه صراعات كبيرة ولكننا أهملناها في طيات الصحف والمجلات وكأننا لا نريد أن نتحدث عنها، فليس إدوارد سعيد أول من ناقش الاستشراق وفضحه. فالدكتور مصطفى السباعي رحمه الله أعدّه رائداً تجاوز مرحلته بعشرات السنين فقد كتب كتابه (السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي) وناقش نقاشاً عميقاً موضوعياً رائعاً كتابات جولدزيهر في الحديث
        وبالإضافة إلى ذلك فقد زار عدداً كبيراً من الجامعات الأوروبية والروسية وحاور المستشرقين، وناقشهم في الرسائل العلمية التي يشرفون عليها والمواقف التي يتخذونها من الإسلام فهو قبل إدوارد سعيد ثم عندنا حسين الهراوي في مجلة الأزهر ومجلة الرسالة، وغيرها.
ربما لأن إدوارد سعيد عاش داخل هذا الغرب، وكان جزءاً منه (في ثقافته وفكره)؟
العلماء الجزائريون لم يعيشوا داخل فرنسا فإن فرنسا جاءت إليهم، وجامعة الجزائر في وقت من الأوقات كانت جامعة فرنسية، بل إنها أقدم جامعة فرنسية في شمال أفريقيا، وكانت تمنح شهادات تعادل شهادات جامعات فرنسا. والعدد الكبير من الفرنسيين جعل ممن يعيش في الجزائر فرنسياً، فالشيخ عبد الحميد بن باديس لم يعرف عنه أنه عارض الفرنسية، ولكن ثبت من عمق فهمه للسياسة والثقافة الفرنسية ومن بعض المعلومات أنه كان يعرفها ويقرأ بها (أي اللغة الفرنسية)، وكان يطلع بها على (الطان) وعلى غيرها من الصحف الفرنسية الكبرى، فإدوارد سعيد لم يكن رائداً وهو أخذ عليه أنه قال للمستشرقين أخطأتم في كذا وكذا وينبغي أن تفعلوا كذا وكذا كأنما أرادهم أن يغيروا الخط الذي يثير العداء ضدهم، ولا مانع أن يستمر. ولكن مع ذلك نشر للرجل دفاعه. كما أن هناك أشياء جميلة في كتاباته، ولكنه ليس الأول ولا الرائد في هذا المجال. ونحن نغمط حق علمائنا إذا جعلناه أول من كتب.
دعا المفكر المصري حسن حنفي منذ سنوات إلى ما أسماه بعلم الاستغراب. هل تعتقد أننا بحاجة إلى تلك الدعوة؟
        إن المعرفة ببيئة الدعوة وبيئة الآخر قضية مهمة جداً. علم الاستغراب يعني أننا أمة دعوة، أمة مكلّفة بأن ننقل هذا الإسلام إلى غيرنا حتى تعرف الآخر وتنتقد وتوجهه إلى رسالتك، فلا بد أن تكون على علم عميق وواثق وواسع بهذا الآخر ، فهذه الدعوة دعوة جيدة، إذا أحسن التخطيط لها ووضعت الأسس السليمة لها فالذي يدرس الغرب ليس أي شخص يعرف اللغات الغربية، ودرس العلوم الحديثة، بل لا بد أن يكون له أساس في العلوم الشرعية الإسلامية لأن هذا هو المعيار والميزان، وشخصياً وفي هذا الإطار أعددت بحثاً بعنوان (المعرفة بالآخر: ظواهر اجتماعية في الغرب) حاولت فيه أن أطلع على التقارير الرسمية الحكومية في بريطانيا، فنحن بحاجة إلى إنشاء كليات للدراسات الأوروبية، إذ كيف سننقل دعوتنا إلى الآخرين ونحن لا نعرفهم
        كذلك فإن المسلمين بحاجة إلى أن ينقلوا الإسلام بسلوكهم، وإلّا كيف انتقل الإسلام إلى جنوب شرق آسيا ولم يكن ذلك إلّا بسلوك مجموعة من التجار والدعاة الذين ذهبوا إلى هناك وأوضحوا للناس رقي الإسلام وعظمته بسلوكهم وتعاملهم وأخلاقهم وتفانيهم في خدمة البشرية.
هل تعتقد أن العلاقة المتوترة التي يروج لها بعض الغربيين يمكن أن تؤثر على علاقة المعرفة المتبادلة؟
        لا بد من الخوف لأن طبيعة الغرب هي طبيعة التعالي ونظري التعصب لنفس وللذات ونظرية التفوق الغرب تجد مكاناً في تفكيره، من ناحية أخرى للغرب مطامع إذ مرت عليه قرون وهو يعيش في بحبوبة وترف من العيش بسبب ما استطاع أن يستولي عليه من خيرات الأمم الأخرى، فإذا عاد المسلمون إلى إسلامهم وأصروا على أن يكونوا مستقلين في قرارهم السياسي وفي حياتهم الاجتماعية وفي فكرهم وفي ثقافتهم فإن هذا يعني تهديداً للهيمنة وللسيطرة الغربية. من الذي يملك معظم القنوات الفضائية في العالم الآن؟ من الذي يملك وكالات الأنباء في العالم؟ إذا أردنا أن يكون للمسلمين وكالة أنباء تنتقل إلى كل بؤرة وتنقل الصورة والخبر بمعايير إسلامية في الصدق والكذب ومصلحة الأمة الإسلامية فعند ذلك لن نجد صحفنا مليئة برموز الوكالات الأجنبية وغيرها. فهذه الوكالات تشكل عقولنا.
        فالغرب يخشى من عودة الإسلام قوياً على الرغم من أنه يزعم أحيانا احترام الإسلام فإذا كان فعلاً يحترم الإسلام فهي يستطيع لتنازل عن ما يأخذه من ثروات الأمة الإسلامية وهل يستطيعون أن يتنازلوا عن أسواق العالم الإسلامي؟ فإذا كان شمال العالم المكون من أوروبا وأمريكا الذي يكوّن عشرين في المائة ن سكان الكرة الأرضية يستهلك ثمانين بالمائة من خيراتها، فإذن هناك فجوة كبيرة وظلم كبير واقع على معظم شعوب الكرة الأرضية ولا يمكن أن ينصف العالم ويعيد نصاب الحق والعدل إلّا الإسلام.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية