الجزائر بركة وأي بركة



        أحببت الجزائر من اليوم الأول الذي سمعت باسمها في ثورة ضد الاحتلال الفرنسي حتى إني ما زلت أذكر أنهم طلبوا في المدرسة الابتدائية تبرعاً من الطلاب للثورة الجزائرية، ولم يكن معي مصروفاً فذهبت إلى متجر كان يتعامل معه والدي (حسين شعث) فتسلفت أو استدنت مبلغاً لأعود إلى المدرسة فأشترك في التبرع به. وظلت الجزائر في الذاكرة حين حققت الاستقلال أو استعادة الاستقلال كما يقولون هناك، ولم تغب الجزائر عن الأحداث في عهد هواري بومدين الذي سجن رفيق دربه أحمد بن بلا أكثر من ثلاثين سنة، أو مشروع التعريب الضخم الذي بدأه ولكن مازال لم يؤت ثماره لأسباب كثيرة أتمنى أن تزول ويعود الجزائريون إلى اللغة العربية فكم شعرت بالانزعاج وأنا أرى أساتذة كبار وشباباً يتحدثون بالفرنسية وكأنها لغتهم الأم.
        نعم أحببت الجزائر لأنها كانت بركة في حياتي العلمية فقد كانت تجربتي الأولى في البحث العلمي وقد تعلمت منها الصبر والتحمل والصمود والطموح على الرغم من الصعاب. وصارت هذه المعاناة حباً تمثلت فيه بيت الشاعر
     أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى    فصادف قلبا خاليا فتمكنا
ففي أثناء بحثي في تاريخ الجزائر وبخاصة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية في عهد رئيسها الأول الشيخ عبد الحميد بن باديس، وصلت إلى الجزائر في شوال 1403هـ وكانت أياماً عصيبة حين لم أكن أجد حجزاً في فندق الأوراسي فأضطر إلى فنادق أقل مستوى تنقطع المياه فيها أو لا يكون فيها ما يتوقعه الإنسان في فندق محترم. وبالإضافة إلى هذه الصعوبة فقد كانت هناك أزمة مزمنة في عدد سيارات الأجرة فيقول الجزائري الذي يريد أن ينتظر دوره في الركوب تعالي نُصلَب. وفي غياب المواصلات كان لا بد من السير على الأقدام حتى إني أحصيت صعود ألف درجة في يوم واحد.
        ومن طرائف تلك المرحلة أنني دعيت مع صديق للغداء فكانت الشقّة في الطابق التاسع، والبناية قديمة بنيت قبل أكثر من خمسين سنة وفيها مصعد أثري توقف عن العمل منذ سنوات طويلة. فاضطررنا للصعود مشياً ولكن فوجئنا أن الغذاء معكرونة (بدون لحم) فما أن نزلنا حتى كنّا قد هضمنا الطعام. وعدم إصلاح المصاعد في الجزائر ظاهرة حيث يتفق السكان على تركيب صحن فضائي ولا يتفقون على إصلاح المصعد.
        والبحث في تاريخ الجزائر وبخاصة جمعية العلماء كان بركة وأي بركة فهذه الجمعية كانت بركة على الجزائر نفسها حتى إن الشيخ محمد الحافظ رحمه الله أحد قضاة المدينة المنورة قال إني لأخالها أكثر بركة من المطر. أما إنها كانت بركة علي، فحين كنت أبحث في الناحية الوطنية كنت أقرأ المقالات المختلفة في العلوم الشرعية في التفسير والقرآن والفقه فأتعلم ما فاتني تعلمه في الأيام الخوالي. ومن البركة أنني حضرت ملتقى الفكر الإسلامي السابع عشر الذي كان يعقد في قسنطينة وكان حول الاجتهاد. وسبب حضوري هذا المؤتمر كأس ماء في مكتب الخطوط السعودية حيث دخلت مكتب الخطوط وكنت حينها موظف في الإدارة العامة في جدة فطلبت كأس ماء من الموظفة فرآني أستاذ مصري فقال ما دمت تعرفهم فهل لك أن تساعدني في الحصول على حجز من أجل الحج؟ فقلت له لست موظفاً هنا ولكن سأحاول. فسألني عن سبب قدومي إلى الجزائر فعرف أني أبحث في تاريخ الجمعية، فقال غداً تنطلق طائرة خاصة للمشاركة في ملتقى الفكر الإسلامي فتعال معي إلى وزارة الشؤون الدينية لتحصل على دعوة لحضور المؤتمر، وذهبنا بالفعل وعرضت عليهم موضوعي فأعطوني دعوة وأخبروني بموعد الطائرة في اليوم التالي ولكن أخبروني أنه ليس لي مكان في فنادق المدينة وإنما عليّ أن أنزل في سكن طلاب مدرسة الإدارة. فقبلت.
        وفي الطائرة كان هناك عدد من أعضاء الجمعية كبار السن وسمعتهم يتحدثون عن الجمعية فطلبت منهم أن أشترك معهم في الحديث وأن أتعرف إليهم. وعرفت عدداً منهم أجريت معهم لقاءات فيما بعد.
        أما في قسنطينة فكان المؤتمر حول الاجتهاد وكان يحضره من السعودية مدير جامعة الإمام عبد الله التركي ومعه عدد من مساعديه، وهو في العادة يحضر كثيراً من المؤتمرات في تخصصه في مجال الفقه أو غيره حتى لو كان المؤتمر حول الإعلام أو التاريخ فهو لا بد يفهم في الموضوع أو هناك من يكتب له (ليس هو بالذات ولكن غيره من المدراء لا يكتبون وإنما يقرؤون ما كتب غيرهم) وفي هذا المؤتمر تعرفت إلى الشاعر الجزائري المشهور الأخضر السائحي وإلى محمد شيوخ وإلى عبد القادر رباني (برهومي) وأمضيت أياماً ممتعة في قسنطينة مع بعض المشقة حيث كانت غرف الطلاب صغيرة وليس فيها تجهيزات الفنادق كما أن الماء ينقطع بعض الوقت فنضطر إلى حمل الماء من مكان إلى آخر. ولكنها كانت أياماً ممتعة وقد امتدت صلتي بعدد من الأشخاص سنوات وسنوات.
        وكان من بركات الجمعية أن جانباً من بحثي هو الصلة بين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وحركة الإخوان المسلمين فسعيت إلى لقاء عدد من الإخوان المسلمين ومنهم محمد فتحي شعير الذي أعد رسالة ماجستير حول صحافة الإخوان المسلمين وسافرت إلى الرياض لأقابله ولكن لم أجد بغيتي كما قابلت أحد رجال الإخوان من الرعيل الثاني في جدة وقد عاصر الشيخ حسن البنا رحمه الله وتتلمذ على يديه فاتصلت به واتفقت على لقائه ولم أجد عنده ما يشفي الغليل من صلة بين الجمعية والإخوان.
  وبعد أن كتبت قدراً من الرسالة إذ بالمشرف يوجهني إلى ما يأتي:
1-        لا تكثر الهجوم على غيرك فلا يبقى رأي سليم إلاّ رأيك.
2-        إذا هاجمت أو انتقدت شخصاً فكن ليناً ولا تصرح باسمه في صلب الرسالة بل قل هناك من قال كذا وكذا وفي الهامش أو الحاشية قل انظر فلان في كتاب أو مقالة أو سوى ذلك.
       وكان بحثي يتطلب السفر إلى فرنسا للاطلاع على مكتبة الوثائق الوطنية لما وراء البحر Archives Nationale D'Otre Mere وكانت رحلة الخطوط السعودية رقم 061 يوم 12 جمادى الآخر 1404هـ المتجهة إلى روما ثم باريس. ففي المطار جاء شاب إنجليزي ليأخذ أموال الصندوق من أحد الأكشاك أو بوفيه المطار فتعجبت لماذا إنجليزي هو المحاسب أليس في أبناء بلدي من يستطيع أن يقوم بهذا العمل؟ ثم رأيت عدداً من النساء يرتدين العباءة اللاعباءة ويضعن كل أنواع الزينة فحزنت على الحجاب المزيف. كما ركب الطائرة شخص يحمل عوداً فكأنه ذاهب إلى روما أو باريس لإحياء الليالي الملاح.
        وفي تلك الأيام الخوالي وكنت خالي البال تقريباً كان الملل يهاجمني في السفر فأنشغل بالقنوات السمعية والبصرية في الرحلة فأدوّن بعض الأبيات الشعرية التي تخطر لي أو أسجل مع قارئ القرآن ما يقرأ ومما دونت قوله تعالى (كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا )
     وأما الشعر فمن الأبيات التي دونتها
أنا الرجل الذي تعرفونه خشاش كرأس الحية المتوقد
ترى الرجل الطرير فتزدريه   وفي أثوابه أسد هصور.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية