أيام في إكس إن بروفانس



April 4, 2011 at 8:23pm
 قضيت أياماً في هذه المدينة لا أحفظ عددها ولكنها لا تقل عن عشرة أيام إن لم يكن أسبوعين. حتى إنني كتبت بطاقات بريدية و-كانت شائعة ورائجة في تلك الأيام- إلى عدد من الأهل والأصدقاء وكان منهم الأولاد وعبد الإله بخاري وأحمد ألطف وعبد الله النجار وأحمد باهمام وعبد الرحمن خواجة وعبد الكريم مطبقاني وغدير والوالد رحمه الله.
استيقظت باكراً ذات صباح فأدرت مؤشر الإذاعة فإذ بعض الإذاعات العربية، ولكنها كانت ضعيفة كحالنا في العالم العربي في إعلامنا الخارجي أما إعلامنا الداخلي فما أقواه وما أفسده في أغلبيته الغالبة. فكانت إحدى الإذاعات تقدم دروساً في التفسير فسررت لذلك، أما إذاعة أخرى فكان همها تقديم الأغاني حتى إنها أعلنت عن الأغنيات التي سوف تذيعها طيلة الأسبوع التالي وكأن العرب هنا لا يهمهم إلاّ الأغاني.
بحثت عن مساعدة للاطلاع على وثائق الأرشيف حول جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فلقيت باحثاً فرنسياً في مركز دراسات مجتمعات البحر المتوسط وكان قد أقام في الجزائر سبع سنوات وكان يتقن اللغة العربية وإذ بهذا البحث هو فرانسوا بوغارت الذي كان باحثاً شبه مغمور في تلك الأيام وهو اليوم من  أبرز الباحثين في دراسات العالم الإسلامي وله مواقف مشهودة ضد من يريد أن يشوه الإسلام والحركات الإسلامية حتى إنه يقف في الطرف المقابل لجيل كيبل Jill Kippel بل تسمى مجموعته بقبيلة بوغارت وقبيلة كيبل ويكيد هذا الأخير لبوغارت كيداً عظيماً والمعروف أن الأول يسير في ركاب الحكومات الفرنسية ووقف في صف من أراد منع الحجاب في فرنسا. وجيل كيبل أراد أن يزور المملكة ذات يوم وكنت قد أصبحت محاضراً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فكان اسمي من بين الأسماء التي رغب في مقابلتهم وقد وافق الديوان الملكي على ذلك،  واشترطوا أن لا يكون في لقائي به أية التزامات مادية. وعجيب كان ينبغي أن يهتموا بشيء آخر هو أن لا أقدم له معلومات معينة أو أكون حذراً في لقائه ولكنهم لم يتشرطوا شيئاً من ذلك. ولم تتم المقابلة وحدث أن جاء إلى مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية فلقيته ولم يهتم بي وكأنه لم يطلب لقائي ذات يوم، وربما لأنه رآني بلحية وأتحدث معتزاً بالإسلام وهذا صنف من الناس لا يحبهم جيل كيبل – وهم لا يحبونه-. 
وفي أثناء وجودي في بروفانس دارت أحاديث مع بعض الأخوة المغاربة والجزائريين حول الدولة الإسلامية وسمعت كلاماً كثيراً في قضية الملك والخلافة، وكأنهم يريدون أن يحكموا على الخلافة ناسين أن العلماء المسلمين من أمثال الماوردي والجويني وابن خلدون وابن تيمية وغيرهم في القديم وكتب ضياء الدين الريس والمودودي وغيرهما في الحديث في هذه القضية. ولكن المعاصرين الذين يخوضون في هذه القضايا يتهجمون أو ينتقدون عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو الصحابي الجليل مجهز جيش العسرة ومن اشترى بئر رومه وجامع القرآن الكريم، والمبشر بالجنة في أكثر من موضع منها حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصدّيق وشهيدان) وقال فيه صلى الله عليه وسلم (ما على عثمان ما فعل بعد هذا)
ويتطاولون على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه غير مقدرين صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم والفتوحات التي تمت على يديه. ولو كان الأمر يتعلق بأحد زعماء العصر الحاضر لجبنوا وسكتوا وخرسوا.
عدت إلى الأرشيف الوطني لما وراء البحار يوم الثلاثاء الثامن عشر من جمادى الآخرة، العشرين من مارس 1984م حيث أمضيت ست ساعات وجمعت ما يقارب المائتين والخمسين صفحة من الوثائق عدا الأوراق التي حصلت عليها سابقاً وقد كانت قليلة لأنني كنت أبحث عمن يساعدني ولما توكلت على الله واستعنت به وجدتني أستطيع أن أصل إلى الوثائق حيث إن الكلمات الفرنسية التي تدل على الوثائق المطلوبة لم تكن صعبة فمنها على سبيل المثال: تقارير الأمن وتقارير الشرطة والحالة السياسية والاجتماعية في الجزائر. وكان البحث ميسوراً فهم يعطونك العلبة كاملة بل يعطونك أكثر من علبة واحدة في وقت واحد وكنت أطلب ثلاثة علب في وقت واحد وأبحث فيها عن الأوراق التي تهمني ثم أقوم بتصوير ما شئت، بينما عانيت في الأرشيف الوطني الجزائري في قسنطينة تحت إدارة عبد الكريم بجاجة حيث لا يعطونك من العلبة إلاّ ورقة ورقة. بل لم يكن مسموحاً لي أن أبحث حتى أقابل المدير الذي يجري معي استجواباً واستفساراً طويلاً بينما في فرنسا يقوم أقل موظف في الأرشيف بمساعدتك ما دمت تملك الأوراق الثبوتية اللازمة. وكم كان جميلاً أنه كان لدي المال لأصور ما شئت حيث كنت موظفاً في الخطوط السعودية وراتبي جيد، ولما تحولت إلى العمل الجامعي صابتني الفاقة لشح الرواتب وشح المخصصات للبحث العلمي حتى إن ما أعطي لي لمدة شهر للبحث في مدينة برنستون الأمريكية وهي من المدن المرفهة وفي لندن لا يكفي مدة أسبوع، وكان هذا عام 1408هـ (1988م) ولو كنت صاحب واسطة لمنحوني انتداباً بمبالغ طائلة. قاتل الله الجهل والعصبية والعنصرية والتخلف.
قابلت بعض العرب في بروفانس وتوقعت أن أدعى إلى عشاء أو غداء في منزل أحدهما فهما مقيمان في هذه البلاد مدة طويلة، ولكنهما فيما يبدو فقدا تلك الخصال العربية من الكرم بينما عندما تحدثت مع فرنسي (مدير معهد الطيران) دعاني إلى منزله لتناول العشاء.
لاحظت أن مدينة بروفانس تنتشر فيها مكائن الفليبرز (ربما كانت رائجة في بلاد كثيرة حتى بلادنا لولا أن الأجهزة تدخلت فمنعت الترخيص لها) حتى في الأماكن القريبة من الجامعة. كما لاحظت أنه ليس في المدينة كلاب ضالة، ولعل الضلال خاص بالبشر هنا. 
بعد أن مكثت في بروفانس عدة أيام كان من المقرر أن أسافر إلى الجزائر عن طريق باريس بعد أن أمضي ليلة في مدينة نيس (لن أرى منها إلاّ الفندق والمطار) وكان السفر من بروفانس إلى نيس  بالحافلة التي تمر بمكاتب لتدفع مكوس معينة وهذه من بدع الدول الرأسمالية حيث إن الشركات التي بنت الطريق للحكومة تستغل الطريق سنوات عديدة وربما إلى ما لا نهاية.
 وفي باريس علمت أن المكتبة الوطنية لها فرع تجاري يبيع الصحف الجزائرية القديمة فقررت شراء تلك الصحف وحين أخبرت أحد الإخوة الجزائريين في إكس سخر مني وقال هل تظن أن الصحف مثل الطماطم تباع في السوق فعجبت له وهو المقيم في فرنسا ما يقارب ثماني سنوات ولا يعرف أن الفرنسيين يبيعون كل ما سرقوه من بلادنا بعد أن يقوموا ببعض البلطجة مثل حذف بعض الأعداد، ولكن ذلك كان أفضل مما وجدت في الجزائر نفسها. واشتريت المجلات التي أردت ونقدتهم الثمن ووصلتني في البريد المسجل خلال أربعة أيام وسبحان من ييسر الأمور حيث لم تتعطل لا في جمارك ولا إعلام كالعادة في المواد الثقافية والفكرية في تلك الأزمان وإلى عهد قريب.
أسافر إلى الجزائر لأقضي فيها ثلاثة أيام. وهنا أقول من ظن أن البحث العلمي عملية سهلة فالحقيقة أنه لم يكن كذلك بالنسبة لي كما أن السفر من بلد إلى بلد كان شاقاً مهما كانت التسهيلات ويكفي أن نتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح البخاري ومسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: {السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فَليُعجل إلى أهله}

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية