ماذا تفعل هناك يا ولدي؟

                                                  
كثر الحديث في الأشهر الماضية عن القوانين الجديدة التي أزمعت فرنسا على إصدارها أو أصدرتها للحد من هجرة الأجانب إليها وبخاصة أبناء المغرب العربي؟ ففرنسا التي شجعت الهجرة يوماً ما أو فرضـتها على أبناء المغرب العربي وبخاصة في أثناء الحرب العالمية (الأوروبية) الأولى والثانية حينما احتاجت خدماتهم إمّا مجندين في صفوف قواتها لحمايتها أو للعمل في مصانعها ومراكز الإنتاج الحربي والمـدني ، كما شجعت فرنسا ما سمي بالحركات القوميـة في العالم العربي في إبان الانتفاضة على الحكم العثماني حتى اتخذها كثير منهم وطناً له وذلك لأن الإغـراءات كثيرة للعيش في الغرب في  ذلك الحين -وهي أكثر الآن- وهاهي فرنسا تضيق اليوم بهم ذرعاً فهم يقاسمونها كما تزعم  لقمة العيش، ويحتلون الوظائف التي يرون أن أهل البلاد أحق بها.
        ومن هذه القوانين الحد من السماح لمن حصل على الجنسية الفرنسية أن يستقدم من شاء من أقـاربه لزيـارته وبخاصة إذا كانت الزيارة لأقارب المهاجرين. وبالتالي أصبح من الصعب على كثير من الذين أقاموا في فرنسـا أن يروا والديهم وأهليهم. ففاض الكيل بأديب مغربي يعيش في فرنسا منذ مدة طويـلة وقال إنه من الصعب عليه أن يعمل مخبراً لدى السلطات الفرنسية لو جاءت أمه إلى فرنسا لزيارته فإنها ستضيق بتلك المعاملة ولن تملك نفسها من السؤال:" ما الذي تفعله هناك يا ولدي؟"
       أما تفاصيل الخبر فأوردته مجلة المجلة (9-15مارس 1997م) حيث تحدثت عن الحملة التي بدأها عدد من السينمائيين ضد قانون الهجرة الفرنسي الجديد والتي تحولت فيما بعد إلى حملة احتجاج شعبيـة واسـعة شارك فيها ممثلون عن مختلف الفئات الاجتماعية والمهنية الفرنسية. وأشار الخبر إلى أن من الذين شاركوا في الحملة الأديب الفرنكفوني المغربي الطاهر بن جلون المقيم في فرنسا منذ مدة طـويلة ويحمل جنسية مزدوجة مغربية فرنسية، والحائز على جوائز أدبية فرنسية مثل جائزة الجونكور الأدبية " المرموقة" ويشغل منصب نائب رئيس المنظمة الفرنكفونية التي يتولى رئاستها جاك شيراك نفسه.
        وجاء في تصريحات ابن جلون أن نظام الهجرة الجديد يجعل من الفرنكفونية مجرد وسيلة للهيمنة السياسية والاقتصادية على البلدان الناطقة بالفرنسية بدلاً من أن تكون أداه إشعاع ثقافي." وهذا التصريح يحتاج إلى نقاش طويل؛ فمتى كانت الفرنكفونية غير ذلك؟ إنما هي فعلاً وسيلة للهيمنة السياسية والاقتصـادية. وإن كان ابن جلون لا يعرف ذلك فيقال له (إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم) فهل الـذي يفرض لغته على شعب من الشعوب ويجعلها تنسى أو تتناسى لغتها الأصلية يريد لها خيراً؟ ومع ذلك لم تصبح الفرنسية لغة الغالبية إنما هي لغة الفئة المتنفذة الحاكمة، وقد عرف الفرنسيون كيف يسيطرون عليها ويجعلونها تسير في ركابهم. 
ففي كتاب الدكتور عبد العلي الودغيري الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب الذي يتضمن مجموعة من النصوص المترجمة عن الفرنسيـة لمفكرين فرنسيين تناولوا قضية فرض اللغة الفرنسية على الشعوب الإفريقية أكدوا أنها لم تفرض إلاّ لاستمرار الهيمنة الفرنسية السياسية والاقتصادية على تلك البلاد. ومن هؤلاء كل من لوي جان كالفي و وليام بونتي وموريس لوجلي وبول مارتي وجود فروي ديمونبين. ويـذكر الدكتور الودغيري أن هؤلاء حددوا أهداف السياسة الفرنكفونية بأنها إنما تقوم على "فرنسة السكان بمختلف أجناسهم والقضاء عـلى اللغة العربية باعتبارها المنافس القوي للغتهم: فهي لغة حضارة عريقة وتراث إنساني غني وغزير وأضخم بكثير من تراث الفرنسية نفسها… وهدفه من وراء ذلك أن يبسط هيمنته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتؤدي به إلى فرض التبعية المطلقة على شعوب منطقة الشمال الأفريقي".
أما الوسائل التي اتخذتها فرنسا في سبيل تحقيق هذه الأهداف فأهمها نشر المدارس الفرنسية في جميع ومن أخطر الوسائل التي اتخذها الاستعمار الفرنسي التفريق بين سكان المغرب العربي البربـر والعرب ومحـاولة فرض اللغـة الفرنسية على البربر بصفة خاصة. ويخلص الدكتور الودغيري في مقدمته إلى القـول بأن "سياسة الفرنسة التي أصبحت تسمّى فيما بعد ب " الفرنكفونية " هي سياسة قديمة ومتجذرة، وقد انتعشت الفرنكفونية من جديد على أيدي بعض الزعماء الأفارقة -ويا للأسف- فإذا هي تبدو في لباس جديد، وتتخذ شعارات أخرى."
وقد تناول كالفي نشأة فكرة الفرنكفونية على يد بورقيبة وسنجور عام 1964 حيت تلقفت -كما يقول كالفي- فرنسا الفكرة وأنشأت "اللجنة العليا للدفاع عن اللغة الفرنسية ونشرها" عام 1966 التي تحولت بعد ذلك إلى "وكالة التعاون الثقافي والتقني (1970).
        ونعود إلى السؤال الذي طرحه ابن جلون على لسان أمه "وما الذي تفعله هناك يا ولدي؟" نعم ما الذي يفعـله من ترك بلده وهجرها مهما كانت ظروفه صعبة إلى بلد يجد فيها الراحة الجسدية والنفسية وبحبوحة العيش، ويجد فيها الاستقرار. وقد تحدثت إلى بعض المبتعثين من البلاد الإسلامية فأطنبوا في الحديث عن الإمكانات المتوفرة لهم في البحث العلمي، وليس هذا فحسب بل إنهم يجدون الحياة عموماً أكثر يسراً وسهولة من الحياة في بلادهم.

        فيا أيها الهاربون إلى الغرب لتعطوا الغرب عصارة فكركم وخبراتكم وتزعمون أنكم تؤدون رسالة في دعـوة تلك الأقوام أرجو أن يكون لكم محاسبة للنفس فهل ما تفعلونه يفوق في قيمته وأهميته ما يمكن أن تقدموه لبلادكم. إن النفس البشرية مطبوعة على حب الراحة والطمأنينة ويصعب عليها أن تواجه المشكلات والمعضلات وتهرب منها. ولكن أقول لمن أخّر بعثته سنوات وهو ليس في حاجة إلى ذلك إن بلادكم أولى بكم، إنكم ذهبتم إلى بلاد الغرب بأموال أمتكم وليس بأموالكم الخاصة - وحتى لو كانت بأموالكم فمن أين حصلتم عليهـا؟ - إن لبلدكم عليكم حقاً وعليكم أن تكونوا أوفياء لبلادكم. فما الذي تفعله هناك يا ولدي؟ ارجع إلى بلادك وقابل المسؤولين واكتب لهم عما شاهدت ورأيت حتى يمكن أن تفيد بلادك من وجودك في الغربة.             

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية