خمس من الشبهات والرد عليها

الباب الثالث :
الشبهات المثارة حول السنة النبوية وتفنيدها
                                                                       
الشبهة الأولى:
       من الشبهات التي ادعاها بعض غلاة المستشرقين من قديم، وأقام بناءها على وهم فاسد هي أن الحديث بقي مائتي سنة غير مكتوب ، ثم بعد هذه المدة الطويلة قرر المحدثون جمع الحديث  وقد ردد عدد من المستشرقين هذه الشبهة منهم جولدزيهر  وشبرنجر ، ودوزي ، فقد عقد " جولدزيهر " فصلاً خاصاً حول تدوين الحديث في كتابه " دراسات إسلامية " وشكك في صحة وجود صحف كثيرة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم- ، ورأى " شبرنجر " في كتابه " الحديث عند العرب " أن الشروع في التدوين وقع في القرن الهجري الثاني ، وأن السنة انتقلت بطريق المشافهة فقط ، أما " دوزي " فهو ينكر نسبة هذه " التركة المجهولة " - بزعمه - من الأحاديث إلى الرسول صلى الله عليه و سلم .
وقد أراد المستشرقون من وراء هذه المزاعم إضعاف الثقة باستظهار السنة وحفظها في الصدور ، والتشكيك في صحة الحديث واتهامه بالاختلاق والوضع على ألسنة المدونين ، وأنهم لم يجمعوا من الأحاديث إلا ما يوافق أهواءهم  ، وصاروا يأخذون عمن سمعوا الأحاديث ، فصار هؤلاء يقول الواحد منهم : سمعت فلاناً يقول سمعت فلاناً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبما أن الفتنة أدت إلى ظهور الانقسامات والفرق السياسية ، فقد قامت بعض الفرق بوضع أحاديث مزورة حتى تثبت أنها على الحق ، وقد قام علماء السنة بدراسة أقسام الحديث ونوعوه إلى أقسام كثيرة جداً ، وعلى هذا يصعب الحكم بأن هذا الحديث صحيح ، أو هذا الحديث موضوع .

ويمكن الرد هذه الشبهة من عدة وجوه:
1- أن تدوين الحديث قد بدأ منذ العهد الأول في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وشمل قسماً كبيراً من الحديث، وما يجده المطالع للكتب المؤلفة في رواة الحديث من نصوص تاريخية مبثوثة في تراجم هؤلاء الرواة، تثبت كتابتهم للحديث بصورة واسعة جداً، تدل على انتشار التدوين وكثرته البالغة.  

2 - أن تصنيف الحديث على الأبواب في المصنفات والجوامع مرحلة متطورة متقدمة جداً في كتابة الحديث، وقد تم ذلك قبل سنة 200 للهجرة بكثير، فتم في أوائل القرن الثاني، بين سنة 120 ـ 130 هـ، بدليل الواقع الذي بين لنا ذلك، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المائة الثانية، مثل جامع معمر بن راشد (154)، وجامع سفيان الثوري (161)، وهشام بن حسان (148)، وابن جريج (150)، وغيرها كثير.     

3 - أن علماء الحديث وضعوا شروطاً لقبول الحديث ، تكفل نقله عبر الأجيال بأمانة وضبط ، حتى يُؤدَّى كما سُمِع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهناك شروط اشترطوها في الراوي تضمن فيه غاية الصدق والعدالة والأمانة ،مع الإدراك التام لتصرفاته وتحمل المسئولية ، كما أنها تضمن فيه قوة الحفظ والضبط بصدره أو بكتابه أو بهما معاً ، مما يمكنه من استحضار الحديث وأدائه كما سمعه ، ويتضح ذلك من الشروط التي اشترطها المحدثون للصحيح والحسن والتي تكفل ثقة الرواة ، ثم سلامة تناقل الحديث بين حلقات الإسناد ، وسلامته من القوادح الظاهرة والخفية ، ودقة تطبيق المحدثين لهذه الشروط والقواعد في الحكم على الحديث بالضعف لمجرد فقد دليل على صحته ، من غير أن ينتظروا قيام دليل مضاد له .

4 - أن علماء الحديث لم يكتفوا بهذا ، بل وضعوا شروطاً في الرواية المكتوبة لم يتنبه لها أولئك المتطفلون ، فقد اشترط المحدثون في الرواية المكتوبة شروط الحديث الصحيح ، ولذلك نجد على مخطوطات الحديث تسلسل سند الكتاب من راوٍ إلى آخر حتى يبلغ مؤلفه ، ونجد عليها إثبات السماعات ، وخط المؤلف أو الشيخ المسمَع الذي يروي النسخة عن نسخة المؤلف أو عن فرعها ، فكان منهج المحدثين بذلك أقوى وأحكم وأعظم حيطة من أي منهج في تمحيص الروايات والمستندات المكتوبة .

5 - أن البحث عن الإسناد لم ينتظر مائتي سنة كما وقع في كلام الزاعم ، بل فتش الصحابة عن الإسناد منذ العهد الأول حين وقعت الفتنة سنة 35 هجرية لصيانة الحديث من الدس ، وضرب المسلمون للعالم المثل الفريد في التفتيش عن الأسانيد ، حيث رحلوا إلى شتى الآفاق بحثاً عنها واختباراً لرواة الحديث ، حتى اعتبرت الرحلة شرطاً أساسياً لتكوين المحدث .   

6 - أن المحدثين لم يغفلوا عما اقترفه الوضاعون وأهل البدع والمذاهب السياسية من الاختلاق في الحديث، بل بادروا لمحاربة ذلك باتباع الوسائل العلمية الكافلة لصيانة السنة، فوضعوا القيود والضوابط لرواية المبتدع وبيان أسباب الوضع وعلامات الحديث الموضوع.

7 - أن هذا التنوع الكثير للحديث ليس بسبب أحواله من حيث القبول أو الرد فقط، بل إنه يتناول إضافة إلى ذلك أبحاث رواته وأسانيده ومتونه، وهو دليل على عمق نظر المحدثين ودقة بحثهم، فإن مما يستدل به على دقة العلم وإحكام أهله له تقاسيمه وتنويعاته، بل لا يُعد علماً ما ليس فيه تقسيم أقسام وتنويع أنواع ؟!!.
فظهر بذلك تهافت هذه الشبهة وبعدها عن الموضوعية والمنهجية.

الشبهة الثانية:
من الشبهات التي رددها أذناب المستشرقين قولهم : " لو كانت السنة ضرورية لحفظها الله كما حفظ القرآن في قوله تعالى :{ إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون } ، ولأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها كما أمر بكتابة القرآن "  .
وقولهم في الحديث الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم : - ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ) ، : " لو كان هذا الحديث صحيحاً لما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة السنة ، ولأمر بتدوينها كما دون القرآن ، ولا يمكن أن يدع نصف ما أوحي إليه بين الناس بغير كتابة ، ولا يكون حينئذ قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة كاملة إلى أهلها ، ولماذا ترك الصحابة نصف الوحي ولم يدونوه ، فبإهمالهم له يصبحون جميعاً من الآثمين " (6) .

الرد على هذه الشبهة وتقيدها:
 إن الله عز وجل كما أراد لهذه الشريعة البقاء والحفظ ، أراد سبحانه أيضاً ألا يكلف عباده من حفظها إلا بما يطيقون ولا يلحقهم فيه مشقة شديدة ، فمن المعلوم أن العرب كانوا أمة أمية ، وكان يندر فيهم الكتبة ، وكانت أدوات الكتابة عزيزة ونادرة ، حتى إن القرآن كان يكتب على جريد النخل والعظام والجلود ، وقد عاش النبي - صلى الله عليه وسلم -بين أصحابه بعد البعثة ثلاثًا وعشرين سنة ، ولهذا كان التكليف بكتابة الحديث كله أمرا ًفي غاية الصعوبة والمشقة ، لأنه يشمل جميع أقواله وأفعاله وأحواله وتقريراته - صلى الله عليه وسلم -  ولِما يحتاجه هذا العمل من تفرغ عدد كبير من الصحابة له ، مع الأخذ في الاعتبار أن الصحابة كانوا محتاجين إلى السعي في مصالحهم ومعايشهم ، وأنهم لم يكونوا جميعا يحسنون الكتابة ، بل كان الكاتبون منهم أفراداً قلائل ، فكان تركيز هؤلاء الكتبة من الصحابة على كتابة القرآن دون غيره حتى يؤدوه لمن بعدهم تامًا مضبوطًا لا يُنْقص منه حرف .    
ومن أجل ذلك اقتصر التكليف على كتابة ما ينزل من القرآن شيئاً فشيئاً حتى جمع القرآن كله في الصحف.   
وكان الخوف من حدوث اللبس عند عامة المسلمين فيختلط القرآن بغيره - وخصوصاً في تلك الفترة المبكرة التي لم يكتمل فيها نزول الوحي - أحد الأسباب المهمة التي منعت من كتابة السنة.  
ثم إنه لم يحصل لحفاظ السنة في عهد الصحابة ما حصل لحفاظ القرآن، فقد استحرَّ القتل بحفاظ القرآن من الصحابة، أما السنة فإن الصحابة الذي رووا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا كثر، ولم يحصل أن استحر القتل فيهم قبل تلقي التابعين عنهم.
ومن الأسباب أيضاً أن السنة كانت متشعبة الوقائع والأحداث فلا يمكن جمعها كلها بيقين، ولو جمع الصحابة ما أمكنهم فلربما كان ذلك سبباً في رد من بعدهم ما فاتهم منها ظناً منهم أن ما جمع هو كل السنة.
ثم إن جمعها في الكتب قبل استحكام أمر القرآن كان عرضة لأن يُقبِل الناس على تلك الكتب، ويدعوا القرآن، فلذلك رأوا أن يكتفوا بنشرها عن طريق الرواية، وبعض الكتابات الخاصة.    
أضف إلى ذلك أن القرآن يختلف عن السنة من حيث أنه متعبد بتلاوته، معجز في نظمه ولا تجوز روايته بالمعنى، بل لا بد من الحفاظ على لفظه المنزل، فلو ترك للحوافظ فقط لما أمن أن يزاد فيه حرف أو ينقص منه، أو تبدل كلمة بأخرى، بينما السنة المقصود منها المعنى دون اللفظ، ولذا لم يتعبد الله الخلق بتلاوتها، ولم يتحداهم بنظمها، وتجوز روايتها بالمعنى، وفي روايتها بالمعنى تيسير على الأمة وتخفيف عنها في تحملها و
أدائها.      
وقد بلَّغ - صلى الله عليه وسلم - الدين كله وشهد الله له بهذا البلاغ فقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }  (7) ، ووجود السنة بين الأمة جنباً إلى جنب مع القرآن الكريم فيه أبلغ دلالة على تبليغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياها لأمته وبالتالي لم يضع نصف ما أوحاه الله إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما زعم الزاعمون - ، بل الجميع يعلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتمتعون بحوافظ قوية ، وقلوب واعية ، وذكاء مفرط ، مما أعانهم على حفظ السنة وتبليغها كما سمعوها ، مستجيبين في ذلك لحث نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لهم في الحديث الذي رواه الترمذي و غيره بقوله  ( نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فحفظها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع).
فتم ما أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - من حفظ السنة وتبليغها، ويكون بذلك - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ دين الله عز وجل كاملاً ولم ينقص منه شيئاً.



الشبهة الثالثة
ومن الشبهات التي يرددها المستشرقين وأذنابهم هو ما فهموه من قوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (8)، وقوله سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (9)
فقالوا: إن هذه الآيات وأمثالها تدل على أن الكتاب قد حوى كل شيء من أمور الدين، وكلَّ حُكم من أحكامه، وأنه بيَّن ذلك وفصَّله بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر، وإلا كان الكتاب مفرِّطاً فيه، ولما كان تبياناً لكل شيء، فيلزم الخُلْف في خبره سبحانه وتعالى.

الرد على هذه الشبهة وتفنيدها:
وجواباً على هذه الشبهة يقال : ليس المراد من الكتاب في قوله تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } (10) القرآن ، وإنما المراد به اللوح المحفوظ ، فإنه هو الذي حوى كل شيء ، واشتمل على جميع أحوال المخلوقات كبيرها وصغيرها ، جليلها ودقيقها ، ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، على التفصيل التام ، بدلالة سياق الآية نفسها حيث ذكر الله عز وجل هذه الجملة عقب قوله سبحانه : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } (11)أي مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها  كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم كل ذلك مسطور مكتوب في اللوح المحفوظ لا يخفى على الله منه شيء .
وعلى التسليم بأن المراد بالكتاب في هذا الآية القرآن ، كما هو في الآية الثانية وهي قوله سبحانه : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ }(12) فالمعنى أنه لم يفرِّط في شيء من أمور الدِّين وأحكامه ، وأنه بيَّنها جميعاً بياناً وافياً .
ولكن هذا البيان إما أن يكون بطريق النص مثل بيان أصول الدين وعقائده وقواعد الأحكام العامة ، فبيَّن الله في كتابه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وحِلِّ البيع والنكاح ، وحرمة الرِّبا والفواحش ، وحِلِّ أكل الطيبات وحُرْمة أكل الخبائث على جهة الإجمال والعموم ، وتَرَك بيان التفاصيل والجزئيات لرسوله صلى الله عليه وسلم .     

ولهذا لما قيل لمُطَرِّف بن عبد الله بن الشِخِّير : " لا تحدثونا إلا بالقرآن قال : والله ما نبغي بالقرآن بدلاً ولكن نريد من هو أعلم منا بالقرآن .
وروي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل يحمل تلك الشبهة : إنك امرؤ أحمق أتجد في كتاب الله الظهر أربعا لا يجهر فيها بالقراءة ، ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذا ، ثم قال أتجد هذا في كتاب الله مفسَّرا ، إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك "
وإما أن يكون بيان القرآن بطريق الإحالة على دليل من الأدلة الأخرى التي اعتبرها الشارع في كتابه أدلة وحُجَجاً على خلقه .
فكل حكم بينته السنَّة أو الإجماع أو القياس أو غير ذلك من الأدلة المعتبرة، فالقرآن مبَيِّن له حقيقة، لأنه أرشد إليه وأوجب العمل به، وبهذا المعنى تكون جميع أحكام الشريعة راجعة إلى القرآن.
فنحن عندما نتمسك بالسنة ونعمل بما جاء فيها إنما نعمل في الحقيقة بكتاب الله تعالى ، ولهذا لما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله " بلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت إليه وقالت : إنه بلغني عنك أنك لعنت كيت وكيت ، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه  أما قرأتِ { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(13) ؟! قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى عنه . 
وحُكِي أن الشافعي رحمه الله كان جالساً في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى، فقال رجل: ما تقول في المُحْرِم إذا قتل الزُّنْبُور؟ فقال لا شيء عليه؟ فقال: أين هذا في كتاب الله؟ فقال : قال الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ }  ، ثم ذكر إسناداً إلى النبي في الحديث الذي رواه الترمذي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) ، ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال " للمُحْرِم قتل الزُّنْبُور " فأجابه من كتاب الله قال الإمام الخطابي رحمه الله " أخبر سبحانه أنه لم يغادر شيئا من أمر الدين لم يتضمن بيانَه الكتابُ ، إلا أن البيان على ضربين : بيان جَلِيّ تناوله الذكر نصاً  وبيان خفِيّ اشتمل عليه معنى التلاوة ضمناً ، فما كان من هذا الضرب كان تفصيل بيانه موكولاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معنى قوله سبحانه : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }   ، فمن جمع بين الكتاب والسنة فقد استوفى وجهي البيان " , وبذلك يتبين ضلال هؤلاء وسوء فهمهم وتهافت شبهاتهم ، وأنه لا منافاة بين حجية السنة وبين كون القرآن تبياناً لكل شيء ، والحمد لله أولاً وآخراً .



الشبهة الرابعة:
ومن شبهاتهم أيضا تمسكهم بجملة أخبارٍ منسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تؤيد بحسب زعمهم - ما ذهبوا إليه من عدم الاحتجاج بالسنة، ووجوب عرض ما جاء فيها على كتاب الله.    
ومن هذه الأخبار ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا اليهود فحدّثوه فخطب الناس فقال: (إن الحديث سيفشو عنِّي، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عنِّي، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عنِّي)، فقالوا: إذا أثبتت السنة حكماً جديداً فإنها تكون غير موافقة للقرآن، وإن لم تثبت حكماً جديداً فإنها تكون لمجرد التأكيد فالحجة إذاً في القرآن وحده.
ومن هذه الأخبار التي استدلوا بها ما روِي أنه - صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا حُدِّثتم عنِّي حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه، قلته أم لم أقله فصدّقوا به، فإني أقول ما يُعرَف ولا يُنكَر، وإذا حُدِّثتم عنِّي حديثاً تنكرونه ولا تعرفونه فلا تصدِّقوا به، فإني لا أقول ما يُنكَر ولا يُعرَف)، فقالوا هذا يفيد وجوب عرض الحديث المنسوب إليه - صلى الله عليه وسلم - على المستحسن المعروف عند الناس من الكتاب أو العقل، فلا تكون السنة حجَّة حينئذ.     
ومن تلك الأخبار أيضاً ما رُوِي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني لا أحلُّ إلا ما أحلَّ الله في كتابه، ولا أحرِّم إلا ما حرَّم الله في كتابه)، وفي رواية: (لا يمسكنَّ الناس عليَّ بشيء، فإني لا أحلُّ لهم إلا ما أحلَّ الله ولا أحرَّم عليهم إلا ما حرَّم الله).
هذه هي خلاصة الشبه التي أوردوها، وهي شبه ضعيفة متهافتة لا تثبت أمام البحث والنظر الصحيح، وتدل على مبلغ جهلهم وسوء فهمهم.

الرد على هذه الشبهة وتفنيدها:
أما الحديث الأول: (إن الحديث سيفشو عني ....) فإن أحاديث العرض على كتاب الله كلها ضعيفة لا يصح التمسك بشيء منها كما ذكر أهل العلم ، فمنها ما هو منقطع ، ومنها ما بعض رواته غير ثقة أو مجهول ، ومنها ما جمع بين الأمرين ، وقد بَيَّن ذلك ابن حزم و البيهقي ، و السيوطي ، وقال الشافعي في الرسالة : " ما روَى هذا أحدٌ يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير ، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول ونحن لا نقبل هذه الرواية في شيء " ، بل نقل ابن عبد البر في جامعه عن عبد الرحمن بن مهدي قوله : " الزنادقة والخوارج وضعوا هذا الحديث " ، ثم قال : " وهذه الألفاظ لا تصح عنه - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه " .   
بل إن الحديث نفسه يعود على نفسه بالبطلان، فلو عرضناه على كتاب الله لوجدناه مخالفاً له، فلا يوجد في كتاب الله أن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل منه إلا ما وافق الكتاب، بل إننا نجد في القرآن إطلاق التأسي به - صلى الله عليه وسلم والأمر بطاعته، والتحذير من مخالفة أمره على كل حال، فرجع الحديث على نفسه بالبطلان.
ومما يدل على بطلانه كذلك معارضته الصريحة لقوله - صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه أبو داود: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه).

وعلى التسليم بصحة الخبر فليس المراد منه أن ما يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم نوعان : منه ما يوافق الكتاب فهذا يُعمل به ، ومنه ما يخالفه فهذا يُردُّ ، بل لا يمكن أن يقول بذلك مسلم ، لأن في ذلك اتهاماً للرسول عليه الصلاة والسلام بأنه يمكن أن يصدر عنه ما يخالف القرآن ، وكيف لمؤمن أن يقول ذلك وقد ائتمنه الله على وحيه ودينه وقال له : { قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي }(14)  .
فالرسول عليه الصلاة والسلام معصوم من أن يصدر عنه ما يخالف القرآن ، ولا يمكن أن يوجد خبر صحيح ثابت عنه مخالفٌ لما في القرآن .
فيكون معنى الحديث إذاً : " إذا رُوِي لكم حديث فاشتبه عليكم هل هو من قولي أو لا فاعرضوه على كتاب الله ، فإن خالفه فردُّوه فإنه ليس من قولي " ، وهذا هو نفسه الذي يقوله أهل العلم عندما يتكلمون على علامات الوضع في الحديث ، فإنهم يذكرون من تلك العلامات أن يكون الحديث مخالفاً لمحكمات الكتاب ، ولذلك قال " فما أتاكم يوافق القرآن : فهو عنِّي ، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عنِّي".
وعندما نقول : إن السنة الصحيحة لابدَّ وأن تكون موافقة للقرآن غير مخالفة له ، فلا يلزم أن تكون هذه الموافقة موافقة تفصيلية في كل شيء ، فقد تكون الموافقة على جهة الإجمال ، فحين تبين السنة حكماً أجمله القرآن ، أو توضِّح مُشْكِلاً ، أو تخصص عامَّاً ، أو تقييد مطلقاً ، أو غير ذلك من أوجه البيان ، فهذا البيان في الحقيقة موافق لما في القرآن ، غير مخالف له .    
بل حتى الأحكام الجديدة التي أثبتتها السنة ودلَّت عليها استقلالاً، هي أيضاً أحكام لا تخالف القرآن، لأن القرآن سكت عنها على جهة التفصيل، وإن كان قد أشار إليها وتعرض لها على جهة الإجمال حين قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (15).    
وأما الحديث الثاني: (إذا حُدِّثتم عنِّي حديثاً تعرفونه ولا تنكرونه ....)، فرواياته ضعيفة منقطعة كما قال البيهقي وابن حزم وغيرهما، فضلاً عما فيه من تجويز الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - وذلك في عبارة: (ما أتاكم من خبر فهو عنِّي قلته أم لم أقله)، وحاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمح بالكذب عليه وهو الذي تواتر عنه قوله في الصحيحين: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار).      
وقد رُوي هذا الحديث من طرق مقبولة ليس فيها لفظ ( قلته أم لم أقله ) منها رواية صحيحة أخرجها الإمام أحمد : ( إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه )
والمراد منه أن من أدلَّة صحة الحديث وثبوته أن يكون وفق ما جاءت به الشريعة من المحاسن ، وأن يكون قريباً من العقول السليمة والفطر المستقيمة ، فإن جاء على غير ذلك كان دليلاً على عدم صحته ، وهذا هو الذي يقوله علماء الحديث عند الكلام على العلامات التي يعرف بها الوضع وليس هذا مجال بسطها .
نعم قد تقصر عقولنا عن إدراك الحكمة والعلَّة ، فلا يكون ذلك سبباً في إبطال صحة الحديث وحجيته ، فمتى ما ثبت الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجب علينا قبوله وحسن الظن به ، والعمل بمقتضاه ، واتهام عقولنا ، قال ابن عبد البر : كان أبو إسحاق إبراهيم بن سيار يقول : " بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب من فم القربة ، فكنت أقول : إن لهذا الحديث لشأناً ، وما في الشرب من فم القربة حتى يجيء فيه هذا النهي ؟ فلما قيل لي: إن رجلاً شرب من فم القربة فوكعته حية فمات، وإن الحيات والأفاعي تدخل أفواه القرب علمت أن كل شيء لا أعلم تأويله من الحديث أن له مذهباً وإن جهلته ".
وأما الحديث الثالث: (إني لا أحلُّ إلا ما أحلَّ الله في كتابه ....)، فهو حديث منقطع في كلتا روايتيه كما قال الشافعي والبيهقي وابن حزم.
وعلى فرض صحته فليس فيه أيُّ دلالة على عدم حجية السنة بل المراد بقوله : ( في كتابه ) ما أوحى الله إليه - كما قال البيهقي - فإن ما أوحى الله إلى رسوله نوعان : أحدهما وحي يتلى ، والآخر وحي لا يتلى ، ففسَّرَ الكتاب هنا بما هو أعم من القرآن .
وقد ورد في السنة استعمال الكتاب في هذا المعنى في الحديث الذي رواه الإمام البخاري حيث قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم : (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، الوليدة والغنم ردٌّ ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها  فغدا إليها فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فرُجِمت ، فجعل - صلى الله عليه وسلم -حكم الرجم والتغريب في كتاب الله ، مما يدُلُّ على أن المراد عموم ما أوحي إليه .      
وحتى لو سلمنا أن المراد بالكتاب القرآن ، فإن ما أحلَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو حرمه ولم ينص عليه القرآن صراحة ، فهو حلال أو
حرام في القرآن لقول الله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(16) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرم الله ) رواه الترمذي وغيره .      
وأما رواية: (لا يمسكنَّ الناس عليَّ بشيء ...)، فقد قال فيها الشافعي إنها من رواية طاووس وهو حديث منقطع.      
وعلى افتراض ثبوتها فليس معناها تحريم التمسك بشيء مما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أو الاحتجاج به.

وإنما المراد أنه -صلى الله عليه وسلم - في موضع القدوة والأسوة، وأن الله عز وجل قد خصَّه بأشياء دون سائر الناس فأبيح له ما لم يبح لغيره، وحُرِّم عليه ما لم يُحرَّم على غيره، فكان المعنى: لا يتمسكن الناس بشيء من الأشياء التي خصني الله بها، وجعل حكمي فيها مخالفاً لحكمهم، ولا يقس أحدٌ نفسه عليَّ في شيء من ذلك، فإن الحاكم في ذلك كله هو الله تعالى، فهو الذي سوى بيني وبينهم في بعض الأحكام، وفرَّق بيني وبينهم في بعضها الآخر.
وبهذا يتبين أن الأحاديث التي استند إليها أصحاب هذه الشبهة منها ما لم يثبت عند أهل العلم، ومنها ما ثبت ولكن ليس فيه دليل على دعواهم، فلم يبق لهؤلاء الذين نابذوا السنة، وتأولوا القرآن على غير وجهه - من حجة إلا اتباع الهوى، وصدق الله إذ يقول: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. (17)

الشبهة الخامسة:
خلاصة هذه الشبهة قولهم: إن السنة لم تكن شرعاً عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون سنته مصدراً تشريعياً للدين وما قال شيئاً أو فعله بقصد التشريع ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أن يكون ثمة مصدر تشريعي سوى القرآن المجيد بل كان مصدر التشريع عند الرسول صلى الله عليه وسلم  هو القرآن وحده وكذلك فهم الصحابة رضوان الله عليهم وجاء عهد التابعين الذين بدأت فيه فتنة القول بالسنة وأنها مصدر من مصادر التشريع وكانت تلك قاصمة الظهر بالنسبة للدين حيث دخل فيه ما ليس منه واختلط بالوحي الصحيح الخالص الذي هو القرآن ما ليس من الوحي بل هو كلام البشر التي هي السنة النبوية
وهم يزعمون أن لهم أدلة على ذلك وهي:
       1.أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر أصحابه بكتابة القرآن الكريم وحضهم على ذلك ونهى أصحابه عن كتابة شيء من السنة قولاً كانت أو فعلا وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) (18)
       2. أن الصحابة رضوان عليهم عرفوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة ليست شرعاً فأهملوا كتابتها وحفظها رغم اهتمامهم الشديد بكتابة القرآن المجيد على كل ما يصلح أن يُكْتب عليه.
       3. أن كبار الصحابة رضوان الله عليهم ومنهم الخلفاء الراشدون كانوا يكرهون رواية الأحاديث ويحذرون منها وكان عمر رضي الله عنه يهدد رواة الحديث ويتوعدهم وقد حبس عمر بن الخطاب عدداً من الصحابة بسبب روايتهم للحديث تنفيذاً لوعيده وتهديده إياهم بعدم رواية الحديث.

الرد على الشبهة وتفنيدها :

يمكن أن نرد على هذه الشبهة في عدة نقاط:
1.أما قولهم بأن الرسول  صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث بينما حضَّ على كتابة القرآن وحفظه وكان له صلى الله عليه وسلم  كتبة القرآن فقول مبالغ فيه ويقوم على التدليس وذكر بعض الحق وإخفاء البعض وليس من شك في أن القرآن المجيد قد لقي من العناية بكتابته وحفظه ما لم يكن للسنة النبوية فهو مصدر الدين الأول وهو أعلى من السنة منزلة وقداسة وهو أحق بالعناية والاهتمام بكتابته وحفظه لذلك حظي القرآن من العناية بما لم تحظ به السنة وبخاصة تدوينها وكتابتها والأسباب التي جعلت الصحابة يهتمون بكتابة القرآن فوق اهتمامهم بكتابة السنة كثيرة. منها : أن القرآن الكريم محدود بحدود ما ينزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فكتابته والإحاطة به أيسر وهم على ذلك أقدر أما السنة النبوية من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله فكثيرة ومتشعبة تتضمن أقواله  عليه السلام  وأفعاله اليومية  وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة عاشها  صلى الله عليه وسلم  بينهم وهذا أمر يشق كتابته وتدوينه وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار ندرة أو قلة الكاتبين بين الصحابة  رضوان الله عليهم  ومنها : أن كتابة القرآن ضرورة يفرضها ويحتمها كون القرآن العظيم وحي الله  تعالى إلى النبي  صلى الله عليه وسلم  بلفظه ومعناه ولا تجوز روايته بالمعنى أما السنة فتجوز روايتها بالمعنى ويجوز في السنة أن يقول القائل : " أو كما قال " وما هو من قبيلها وليس ذلك جائزاً في القرآن ومنها : أن الكاتبين بين الصحابة رضوان الله عليهم كانوا قلة وليس في مقدورهم أن يكتبوا السنة والقرآن معاً وإذا كان ثمة اختيار بين أيهما يكتب الصحابة العارفون الكتابة فليكن المكتوب هو القرآن وذلك حتى يسلموه لمن بعدهم محرراً مضبوطاً تاماً لم يزد فيه ولم ينقص منه حرف.
وأما احتجاجهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة غير القرآن، وغير القرآن هو السنة فهو احتجاج باطل من وجوه. أولها:
 أن هذا الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني، ومـن كتب عني غير القرآن فليمحه). هذا الحديث معلول أعله أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله البخاري وغيره بالوقف على أبي سعيد ". ولو صرفنا نظراً عن هذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نهى عن الكتابة، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم الإذن بها بل الأمر بها في أحاديث أخر ولذلك قلنا إن استدلالهم فيه تدليس حيث ذكروا حديث النهي ولم يشيروا إلى أحاديث الإذن وهي كثيرة منها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم الفتح فقال “إن الله حبس عن مكة القتل –أو الفيل الشك من البخاري وسلط عليهم رسول الله والمؤمنون.. " ولما انتهى من خطبته جاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اكتبوا لأبي شاة) (19)
ومنها: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فقد كان يكتب ولا أكتب (20). ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو  رضي الله عنهما  أن بعض الصحابة حدثه فقال : إنك تكتب عن رسول الله كل ما يقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم - بشر يغضب فيقول ما لا يكون شرعاً، فرجع عبد الله إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فأخبره بما قيل له، فقال له الرسول  صلى الله عليه وسلم: (اكتب، فو الذي نفسي بيده ما يخرج من فمي إلا الحق) (21) وهذه الروايات في الصحيح وهناك غيرها ضعيف وهي كثيرة فإذا ما وازنا بين روايات المنع وروايات الإذن “ وجدنا أبا بكر الخطيب  رحمه الله  (ت463هـ ) قد جمع روايات المنع فلم يصح منها إلا حديث أبي سعيد الخدري  رضي الله عنه  السابق ذكره وقد بينا أن الإمام أبا عبد الله البخاري قد أعله بالوقف على أبي سعيد وكذلك فعل غيره (22) بينما أحاديث الإذن كثيرة والصحيح منها كثير روينا بعضه ومنها : إضافة إلى ما سبق أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته :( ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ) . (23)
وقد اجتهد العلماء في الجمع بين أحاديث الإذن وأحاديث المنع، فنتج عن ذلك آراء أهمها:
        أ. أن ذلك من منسوخ السنة بالسنة أي أن المنع جاء أولاً ثم نسخ بالإذن في الكتابة بعد ذلك وإلى ذلك ذهب جمهرة العلماء، ومنهم ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث وقد قالوا إن النهي جاء أولاً خشية التباس القرآن بالسنة فلما أمن الالتباس جاء الإذن.
       ب. أن النهي لم يكن مطلقاً، بل كان عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة أما في صحيفتين فمأذون به.
       ج. أن الإذن جاء لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون لأنفسهم، ويؤمن عليهم الخلط بين القرآن والسنة.
وهناك آراء غير ذلك لكن الذي يتضح من روايات المنع وروايات الإذن أن الإذن جاء آخراً فإن كان نسخ فهو الناسخ للمنع وهذا الذي رواه الجمهور.
وبهذا يسقط استدلالهم بحديث المنع الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه هذا الحديث الذي يعدونه حجر الزاوية في احتجاجهم بعدم تشريعية أو حجية السنة ويكثرون اللجاج به.
       2.أما قولهم إن الصحابة رضوان الله عليهم قد فهموا من النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة ليست شرعاً فانصرفوا عنها، ولم يهتموا بكتابتها أو الالتزام بها فهذا من الكذب والمكابرة والمطلع على المدونات في كتب السنة وتاريخ العلوم وما كتب العلماء في مواقف الأمة المسلمة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخاصة موقف الصحابة رضوان الله عليهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع بكذب هؤلاء ويعجب من مدى تبجحهم وافترائهم على الحق إلى حد قلب الأوضاع وعكس الأمور. فقد كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحرص الخلق على ملاحظة أقوال رسول الله – صلى الله عليه وسلم  وأفعاله وحفظها والعمل بها بل بلغ من حرصهم على تتبع كل صغيرة وكبيرة وحفظها ووعيها والعمل بها أن كانوا يتناوبون ملازمة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه  يحدث عنه البخاري بسنده المتصل إليه. يقول : " كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد  من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ينزل يوما وأنزل يوماً فإذا نـزلت جئته بخبر ذلك اليوم وإذا نزل فعل مثل ذلك"  وما كان ذلك إلا لحرصهم الشديد على معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعها والالتزام بها ...
وقد كان الصحابة يقطعون المسافات الطويلة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم الله في بعض ما يعرض لهم يروي البخاري عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه أن امرأة أخبرته أنها أرضعته هو وزوجه فركب من فوره من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن حكم الله فيمن تزوج امرأة لا يعلم أنها أخته من الرضاع ثم أخبرته بذلك من أرضعتهما؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (كيف وقد قيل؟) ففارق زوجه لوقته وتزوجت بغيره..
وكان الصحابة رضي الله عنهم حريصين على أن يسألوا أزواج النبي رضوان الله عليهن عن سيرته وسنته في بيته وكانت النساء يذهبن إلى بيوت أزواج النبي يسألنهن عما يعرض لهن وهذا معروف مشتهر غني عن ذكر شاهد أو مثال.
بل لقد بلغ من حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الالتزام بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يلتزمون ما يفعل ويتركون ما يترك دون أن يعرفوا لذلك حكمة، ودون أن يسألوا عن ذلك ثقة منهم بأن فعله صلى الله عليه وسلم وحي فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب ثم نبذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إني لن ألبسه أبداً) فنبذ الناس خواتيمهم ". (24)
وروى القاضي عياض في كتابه " الشفا " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعها عن يساره فلما رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم فلما قضى صلاته قال: (ما حملكم على إلقاء نعالكم)؟ قالوا: يا رسول الله رأيناك ألقيت نعليك، فقال: (إن جبريل أخبرني أن فيهمــا قذرا) (25)
وأورد ابن عبد البر في “جامع بيان العلم وفضله " عن ابن مسعود رضي الله عنه " أنه جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فسمعه يقول: (اجلسوا) فجلس بباب المسجد أي حيث سمع النبي يقول ذلك فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (تعال يا عبد الله بن مسعود)
إلى هذا الحد بلغ حرص الصحابة  رضوان الله عليهم  على معرفة سنة النبي  صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله والالتزام بها والاستجابة لأمره ونهيه من فورهم كما فعل عبد الله بن مسعود  ومن غير أن يدركوا حكمة الفعل كما في إلقائهم نعالهم في الصلاة ونبذهم خواتيم الذهب ولم يكن ذلك إلا استجابة لله  تعالى في أمره بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم والاقتداء به كما في قوله عز وجل :(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)  (26) ثم استجابة لرسوله صلى الله عليه وسلم في أمره الأمة باتباع سنته والالتزام بها كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( خذوا عني مناسككم ) (27) وقوله عليه الصلاة والسلام  : (صلوا كما رأيتموني أصلي)    (28). وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) (29) وقوله صلى الله عليه وسلم (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة.. ) (30)
هذا قليل من كثير مما يبين موقف الصحابة رضوان الله عليهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موقف يتسم بالحرص الشديد والاهتمام البالغ على معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظها والالتزام بها بل وتبليغها إلى من يسمعها استجابة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي ووعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع) (31)
ومن هذا يتبين مدى كذب أعداء السنة وأعداء الله ورسوله في ادعائهم الذي سلف ذكره.
3-وأما دعواهم بأن كبار الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يكرهون رواية الحديث وكان عمر رضي الله عنه يتهدد رواة السنة وأنه نفذ وعيده فحبس ثلاثة من الصحابة بسبب إكثارهم من رواية السنة فهذا كذب يضاف إلى ما سبق من دعاواهم الكاذبة وفيه جانب من التدليس الذي لا يخلو عنه كلامهم.
أما أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يكرهون رواية الحديث فهذا باطل والحق أنهم كانوا يخشون روايتها ويهابون من ذلك لعظم المسؤولية ووعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من يكذب عليه في قوله  عليه السلام ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) (32) ولقد كان الصحابة  رضوان الله عليهم بين أمرين هم حريصون على كل منهما أولهما : تبليغ دين الله إلى من يليهم من الأمة ثانيهما : التثبت والتحري الشديد لكل ما يبلغونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك كان الواحد منهم يمتقع وجهه، وتأخذه الرهبة وهو يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصواب إذن أن الصحابة كانوا يهابون رواية الحديث بسبب شدة خوفهم من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الخطأ فيما يروون وليس كما يزعم هؤلاء أن ذلك لأنهم كانوا يرون السنة غير شرعية أو أنها ليست مصدراً تشريعياً.

أما دعوى حبس عمر رضي الله عنه  ثلاثة من أصحابه هم : عبد الله بن مسعود، وأبو ذر، وأبو الدرداء رضي الله عنهم  فهذه رواية ملفقة كاذبة، جرت على الألسنة وقد ذكرها البعض كما تجري على الألسنة وتدون في كتب الموضوعات من الأحاديث والوقائع فليس كل ما تجري به الألسنة أو تتضمنه بعض الكتب صحيحاً وقد تولى تمحيص هذه الدعوى الكاذبة الإمام " ابن حزم "  رحمه الله  في كتابه : “ الإحكام “ فقال :(وروي عن عمر أنه حبس ابن مسعود، وأبا الدرداء وأبا ذر من أجل الحديث عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم وبعد أن طعن ابن حزم في الرواية بالانقطاع محصها شرعاً فقال : إن الخبر في نفسه ظاهر الكذب والتوليد لأنه لا يخلو : إما أن يكون عمر اتهم الصحابة وفي هذا ما فيه أو يكون نهى عن نفس الحديث وتبليغ السنة وألزمهم كتمانها وعدم تبليغها وهذا خروج عن الإسلام وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، وهذا قول لا يقول به مسلم ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين فلقد ظلمهم فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات أي الطريقين الخبيثين شاء " (33).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية