مجالات الدراسات الاستشراقية


   ليس من المبالغة القول بأن المستشرقين لم يدعوا جانباً معرفياً لدى المسلمين لم يقوموا بدراسته والكتابة فيه. ويؤكد هذا الإنتاج الضخم للمستشرقين منذ بداية اهتمامهم المنظم بالإسلام. ولو راجعنا الإصدارات الببليوغرافية لإنتاج المستشرقين لتبين لنا ضخامة الجهود التي يبذلونها في دراسة الإسلام والمسلمين. ولا يقتصر إنتاج المستشرقين على الكتب فلديهم المئات من الدوريات، والندوات والمؤتمرات.
القرآن الكريم
      وفي هذه العجالة نقدم استعراضا سريعا لبعض مجالات الاستشراق؛ فقد بدأ الاستشراق بالعلوم الشرعية التي تعد أساساً لدراسة الإسلام والحضارة الإسلامية. فقد بدأ المستشرقون في إصدار ترجمات لمعاني القرآن الكريم. وقد قدم الدكتور عباس ارحيلة مقالة نشرت في ملحق التراث بجريدة " المدينة المنورة" حول الترجمات اللاتينية منذ بداية القرن الحادي عشر الميلادي. وتوالى ظهور الترجمات إلى اللغات الأوروبية المختلفة كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية وغيرها. ولم يكتف المترجمون بترجمة النص القرآني بل أضافوا أيضا مقدمات أو فصولاً تحدثوا فيها عن القرآن الكريم ومن المقدمات المشهورة مقدمة المستشرق الإنجليزي سالSALE، وقد أساء فيها للقرآن الكرم أيما إساءة. ولعل من أحدث الترجمات صدوراً ترجمة المستشرق الفرنسي جاك بيرك Jacque Berque، وقامت الدكتورة بالتعليق عليها وإيضاح بعض ما فيها من أخطاء وتشويه متعمد.
العقيدة الإسلامية:
         ونالت العقيدة الإسلامية والفرق اهتماماً خاصاً، ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه مونتجمري وات بعنوان:" الجبر والاختيار في الإسلام المبكر ". وقد كان هذا البحث هو عنوان رسالته لنيل درجة الدكتوراه. ويمكننا أن نجد في مواد " الموسوعة الإسلامية" مواد كثيرة تتعلق بالعقيدة. وسيناقش في قسم الاستشراق قريبا إن شاء الله رسالة دكتوراه حول الأخطاء العقدية في دائرة المعارف الإسلامية للزميل حميد الناصر. كما اهتم عدد من المستشرقين بالفرق في التاريخ الإسلامي، ومن هؤلاء لويس ماسنيون Louis Massingion والمستشرق برنارد لويس. فقد اهتم الأول بالحلاج المتصوف المنحرف الذي أطلق عليه (شهيد الإسلام) وأنفق حياته في تحقيق كتاباته ونشرها. أما الثاني فقد كتب حول الإسماعيلية والحشاشين وغيرهم من الفرق المنحرفة. ومن المستشرقين الذين اهتموا بالتصوف المستشرق الإنجليزي آربريARBERY حيث كان ينصح طلابه في مرحلتي الماجستير والدكتوراه بدراسة قضايا تتعلق بالتصوف.
الحديث الشريف والسنّه:    
     وكان للحديث مكانا بارزاً في دراسات المستشرقين باعتباره المصدر الثاني للتشريع لدى المسلمين؛ فبحثوا في تدوين الحديث وسنده ومصطلح علم الحديث. وبرز من المستشرقين في هذا المجال المستشرق المجري اليهودي جولدزيهر Ignaz Goldzieher الذي أطلق عليه الشيخ الدكتور مصطفى السباعي في كتابه القيم (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) " شيخ المستشرقين". ومن المستشرقين الذين اهتموا بالحديث المستشرق روبسون James Robson، وقد قام الدكتور فتح محمد أبو الفتح البيانوني بإعداد رسالة دكتوراه حول كتابات هذا المستشرق في الحديث. وقد يقوم أحد مبتعثي قسم الاستشراق في بريطانيا بدراسة مادة الحديث والسنة في دائرة المعارف الإسلامية(الاستشراقية)، وهو الأخ طلال ملّوش.
الفقه الإسلامي   
    وللمستشرقين دراساتهم في الفقه الإسلامي من ناحية أحكام الشريعة الإسلامية ومصادرها وتطور الدراسات الفقهية عند المسلمين. ودراسة الفقه تعطي المستشرقين الفرصة لفهم أعمق للمجتمعات الإسلامية قديماً وحديثاً. فهم يدرسون الأحكام الإسلامية في العبادات والمعاملات في التشريعات الاجتماعية، وفي الفكر السياسي. وقد حاول المستشرقون من خلال هذه الدراسات التأثير في حياة الأمة الإسلامية بالزعم بعدم أصالة الفقه الإسلامي وأنه مأخوذ من التشريعات الرومانية والفارسية والهندية وغيرها. ثم زعموا تطور التشريعات الإسلامية ليصلوا من ذلك إلى أن يستمر المسلمون في تطوير التشريعات ليأخذوا من التشريعات الأوروبية الحديثة. ولا شك أن الاستشراق قد حقق نجاحاً في هذا المجال حيث أخذت كثير من الدول الإسلامية بالتشريعات والقوانين الأوروبية فهذه دولة تحكم بالقانون الفرنسي، وتلك بالإنجليزي، وثالثة بالسويسري ورابعة بالإيطالي...الخ. ومن أبرز المستشرقين الذين كتبوا في الفقه المستشرق جوزف شاخت Joseph Schacht والمستشرق الإنجليزي كولسون Coulson.
اللغة العربية وآدابها:   
    ومن ضمن اهتمامات المستشرقين أيضا دراسة اللغة العربية وآدابها، وبخاصة فقه اللغة الذي كان المدخل لكثير من المستشرقين للكتابة في مجالات كثيرة حيث يبدأ المستشرق مهتماً باللغة العربية وينطلق للكتابة في التاريخ والاجتماع. ومن الأمثلة على ذلك المستشرق هاملتون جب Hamilton Gibb وكذلك المستشرق ماسنيون والمستشرق سيلفستر دو ساسيSilvester De Sacy الذي أسس "مدرسة اللغات الشرقية الحية" في باريس عام 1795 وكانت "قبلة" المستشرقين في ذلك الزمن.
     ومن خلال اهتمام المستشرقين باللغة العربية وآدابها نادى بعضهم بالاهتمام باللهجات المحلية وما يسمى بالفولكلور حتى إنهم أقنعوا كثيراُ من الطلاب العرب والمسلمين لإعداد رسائل الماجستير والدكتوراه حول اللهجات المحلية والفولكلور. ودعا بعض المستشرقين أيضا إلى العامية ووضع قواعد خاصة بها بحجة صعوبة اللغة الفصحى أو أنها قديمة أو كلاسيكية غير صالحة في الوقت الحاضر.بل إن بعض المستشرقين نادوا بكتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية.
    ومن اهتمام المستشرقين باللغة العربية وآدابها أن جعلوا من بعض المنحرفين فكرياً رموزاً في الأدب العربي المعاصر واخترعوا لهم من الألقاب مثل (عميد الأدب العربي) و(أستاذ الجيل) وغير ذلك. وقد تسلم بعض هؤلاء مناصب حساسة مثل وزارات التعليم في العالم الإسلامي ليبثوا انحرافاتهم ويفرضوها على الناشئة.
     الدراسات الإقليمية:
     لم يتوقف اهتمام المستشرقين عند هذه العلوم فقد تطورت الدراسات الاستشراقية بظهور ما يسمى بدراسة المناطق أو دراسة الأقاليم. ودراسة المناطق أو الأقاليم تتطلب من الباحث الغربي أن يكون متخصصاً في منطقة معينة دون سواها؛ يتناولها من جميع الجوانب: التاريخية والاجتماعية والسياسية، والاقتصادية، والثقافية. ولما ازدادت كمية المعلومات والمعارف زيادة كبيرة لجأوا إلى التخصص أكثر فأكثر فأصبح بعضهم مختصاً بالشؤون السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية فقط لمنطقة معينة.ولئن كان المستشرق في السابق يزعم لنفسه الفهم في علوم مختلفة فإن المستشرق المعاصر(وإن كانت تسمية مستشرق قد ألغيت عام 1973 في آخر مؤتمر عام لهم)يتخصص أولا في مجال علمي معين كعلم الاجتماع أو التاريخ أو الأنثروبولوجي أو السياسة أو الاقتصاد ثم ينطلق لتطبيق تخصصه على بلد عربي أو إسلامي معين،ويلاحظ إهمال هؤلاء المختصون معرفة لغات الشعوب التي يدرسونها.
     وقد بدأت الدراسات الإقليمية في العصر الحاضر في الولايات المتحدة الأمريكية ثم انتقلت إلى الجامعات الأوروبية، وهذا ما صرح به تقرير اللجنة الحكومية البريطانية (لجنة هايتر) سنة 1961 حيث زارت عشر جامعات أمريكية وجامعتين كنديتين وأوصت في تقريرها بالاهتمام بالدراسات الإقليمية. وقد أخذت بذلك جامعة لندن وغيرها من الجامعات البريطانية.
    الصحوة الإسلامية"الأصولية"
          ومنذ أكثر من عشر سنوات وبالتحديد منذ " الثورة الإيرانية" ظهر اهتمام جديد أو ازداد هذا الاهتمام؛ وهو ما يعرف بدراسة الصحوة الإسلامية أو الحركات الإسلامية. وقد أطلق عليها في الأوساط الاستشراقية ب: التطرف الإسلامي، والأصولية، والحركات الإسلامية المسلحة. وقد أخذ هذا الموضوع حيزاً كبيراً من الاهتمام على المستوى الأكاديمي. ويقول الدكتور احمد عبد الحميد غراب في كتابه القيم (رؤية إسلامية للاستشراق) إن الجامعات الغربية تحاول -وتنجح أحيانا- بتوجيه بعض الشباب العربي المسلم بدراسة هذه الحركات ليكونوا بمنزلة العيون على بلادهم، لأنهم أقدر على الحصول على المعلومات عن هذه الحركات. وقد نالت هذه الحركات اهتماماً واسعا في وسائل الإعلام الغربية، وحاول هذا الإعلام تقديم صورة سيئة للإسلام والمسلمين من خلال التركيز على نماذج معينة من الصحوة. وقد يحتج بعض المستشرقين أن الإعلام الغربي لا يمثل الدراسات الأكاديمية، ولكن الحقيقة أن هناك اتصال مباشر ووثيق بين المجالين، وإن كان ما يقال في الأعلام لا يعتد به في الدراسات الجادة. 
    قد لا تكون هذه كل المجالات التي كتب فيها المستشرقون، ولكنها إجمالا أبرز هذه المجالات، وسوف نذكر خلال هذا الأسبوع أمثلة توضح هذه الاهتمامات بإذن الله سبحانه وتعالى.



تعليقات

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية