سلام نعم...تبادل علاقات اقتصادية وثقافية لا.


بقلم أحمد أبو الفتح رحمه الله
الشرق الأوسط العدد 5409 في 19/9/ 1993م)
قالت معاتبة: لماذا لا تكتب عن الاتفاق بين منظمة التحرير وإسرائيل؟ قالت هذا منذ بدأ العالم يعرف أن المنظمة وإسرائيل قد توصلتا إلى اتفاق سلام.
    قلت إني أكتب عن مآسي المسلمين في البوسنة والهرسك، فعادت بعد أيام تعاتبي وتلح: لماذا تصر على عدم الكتابة عن الاتفاق بين المنظمة وإسرائيل؟ فقلت إني أكتب عن المسلمين المعذبين في ديار الغربة نتيجة البحث عن الرزق بعد أن استحال الحصول عليه في دولهم.
          ثم قلت راجياً أن تنصرف عن سؤالها أن عشرات كبار الكتاب الذين يكتبون لالشرق الأوسط يعالجون يومياً هذا الموضوع مما يوفر الآراء المختلفة وهي كما قلت آراء لأكبر الكتاب ليس فقط من العرب بل من الدول الغربية أيضاً وفي ذلك الكفاية. وكي ننتهي من هذا النقاش قلت إن من رأيي أن نترك الحكم على الاتفاق للفلسطينيين أنفسهم فهم أصحاب القضية والأقدر على تقييم الاتفاق.
          وتصادف بعد بضعة أيام أن دعاني صديق لوجبة الغداء وتصادف وجود عدد من أصدقائه كلهم من رجال الأعمال فالداعي هو أيضاً رجل إعمال.
          كان من الطبيعي أن يتناول الحديث قضية السلام بين المنظمة وإسرائيل إذ كنّا جميعاً من البلاد العربية وكان يوم الدعوة التي وجهها لنا الصديق هو يوم الأحد الماضي أي اليوم السابق على احتفالات البيت الأبيض بتبادل التوقيع على الاعتراف المتبادل بين إسرائيل والمنظمة.
          ودار الحديث بين الحاضرين كل واحد يبدي رأيه وكانت الآراء تجمع على التأييد بل الترحيب بالاتفاق. ولمّا كانت غالبية رجال الأعمال يقيسون النجاح الذي يحققونه وفقاً لما يحصلون عليه من ربح مادي فقد انصرف الحديث إلى ما يمكن أن يحققه السلام من ربح مادي نتيجة التعامل مع الإنتاج الإسرائيلي وعندئذ قال أحد الحاضرين وهو أيضاً رجل أعمال بضرورة عدم التسرع في التعامل مع إسرائيل فالنفوس لا تزال مشحونة والغالبية العظمى من العرب وإن أيدوا الاتفاق إلّا أن هذا التأييد لا يمسح من القلوب آثار عشرات السنين من العداء والحروب والقتل والدمار.
وفوجئت عندئذ بأحد الحاضرين وكان متحمساً للسلام ولإقامة علاقات صافية ومنافع متبادلة بين العرب والإسرائيليين يسألني: هل إذا أردت أن تشتري عدداً من أكواب الشراب ووجدت ثمن أحد الأنواع جنيهاً للواحد ثم وجدت نوعاً آخر لا يقل جودة ولكنه من صنع إسرائيل وثمن هذا الكوب يقل بنسبة ثلاثين في المائة فأي الأكواب تشتري؟
          إذا كنت أنا المشتري فإني أشتري الأكواب الأغلى سعراً. ويبدوا أن ردي قد أذهله فقال: ألا تؤيد السلام؟ ولما لم أرد على سؤاله عاد وردده ألا تؤيد السلام"
          عندئذ رأيت أن أخرج عن صمتي حيال الاتفاق عندما كانت تطالبني بالكتابة عنه فقلت: نعم أؤيد السلام. وبسرعة قال الرجل إذن لماذا تشتري الأكواب الأغلى مع أنها ليست أفضل نوعاً من الأكواب المصنوعة في إسرائيل وثمنها أقل بنسبة مغرية"
          قلت أؤيد السلام ولكن أتحفظ بالنسبة لإقامة تبادل العلاقات التجارية والصناعية والزراعية والثقافية والسياحية بين العرب وإسرائيل.
           ولم يشأ الرجل أن يكتفي بما قلت إذ قرر فتح النقاش فبادر بقوله" التعامل مع إسرائيل سيفيد الدول العربية في مجالات لا حصر لها. وأخذ يشرح وجهة نظره التي تتلخص في أن إسرائيل متفوقة في الخبرة في مجالات مختلفة وأن التعامل العربي معها يتيح للدول العربية الاستفادة من هذه الخبرات.
          وأما هذا الشرح الطويل والماس المتدفق قلت: يا سيدي إن أهم وأكبر فائدة من اتفاق المنظمة وإسرائيل هو وقف حلم إسرائيل بإقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات ولكن.
          ولكن يا سيدي إن العالم بات يرفض سياسة توسع الدول عن طريق احتلال أرض غير أرضها وهذا يجعل حلم إسرائيل الكبرى عن طريق ضم الأرض الواقعة بين النيل والفرات لم يعد مقبولاً بل إن حكومة إسرائيل قد باتت مقتنعة بأن ما تسميه سامرية وجودية وهي الأسماء العبرية التي تطلقها على الضفة الغربية لم يعد التمسك بها كأرض إسرائيلية أمراً مقبولاً دولياً فالعالم يعيش فترة تحلل دول إلى دويلات فالاتحاد السوفيتي الضخم تحلل إلى أكثر من عشر دول وها هي تشيكوسلوفاكيا انقسمت إلى دولتين ويوغسلافيا تنقسم إلى خمس دول والاتحاد الوحيد الذي شهده العالم هو اتحاد ألمانيا الغربية والشرقية وهو رغم ثراء وقوة ألمانيا الغربية تسبب في المتاعب التي لا حصر لها للدولة المتحدة,
          كل هذا أدركه رابين ولكن هل كل ذلك ألغى من فكره ومن نفسه الطمع في إقامة دولة إسرائيل الكبرى، لا أعتقد ذلك.
          تعالوا نراجع كل التصريحات لرابين وبيريز وكل من يتحدث في إسرائيل عن السلام ليتضح التمسك بالسلام معنها إقامة العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل... هذا الإصرار الذي يضغط في كل تصريح إسرائيلي على إقامة علاقات كاملة هو الدافع الحقيقي الذي دفع رابين وحكومته وحزبه إلى عرض اتفاق غزة وأريحا.
          كل شكاوى إسرائيل من مصر أن مصر لم تقم علاقات كاملة تجارية وصناعية وإعلامية وثقافية معها وهي تلح في تحقيق ذلك.
          العالم اليوم الصراع فيه صراع اقتصادي والدول الكبرى تحاول فتح الأسواق أمام إنتاجها وفي نفس الوقت تحاول بعض هذه الدول حماية مجالات الضعف في إنتاجها مثل ما تفعل فرنسا بالنسبة لحماية الزراعة من الانفتاح الذي تريد أمريكا تحقيقه باتفاقية الجات.
          لا يمكن أن ننكر التفوق الإسرائيلي على الدول العربية في أكثر المجالات وإذا كان اليهود قد استطاعوا رغم قلة عددهم أن يتغلغلوا في أكبر دولة وهي أمريكا هذا التغلغل الجبار وأصبحوا عن طريق ذلك قوة تحسب السلطات الأمريكية لها ألف حساب فهم ليسوا مجرد قوة سياسية بل قوة مالية وقوة إعلامية وقوة ثقافية وقوة فنية.
          حلم رابين أن تستغل إسرائيل كل مجالات الخبرة والتفوق في تسريب نفوذها تحت ستار المساعدات للدول العربية وتقديم الخبرة بحيث تصل في يوم من الأيام إلى السيطرة الفنية والتجارية والزراعية والصناعية في الدول العربية  وهكذا تقوم إسرائيل الكبرى لا باتساع الأرض بل باتساع النفوذ والسيطرة على الاقتصاد والثقافة وعلى كل حال فإن حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات عن طريق ضم كل هذه المساحات الشاسعة من الأرض يقتضي توفر أعداد ضخمة جداً من اليهود ليقيموا على هذه الأرض أما السيطرة الاقتصادية فلا تحتاج لهذا العدد. بالإضافة إلى أن ضم كل هذه الأراضي يقتضي خوض إسرائيل حروباً بالغة الخطورة في زمن يكره العالم قيام الحروب بينما السيطرة الاقتصادية تتم بنعومة وزفلطة لا تستثير النفوس كالحروب فهي تتسرب تحت ستار فضفاض كادعاء تبادل الخبرات والتعاون من أجل الشعوب.
          وإذا أمعنا النظر في أمر أكواب الشرب الإسرائيلية الرخيصة التي سألتني عن أمر شرائها فإننا نجدنا في مواجهة نظرية اقتصادية معروفة باسم الإغراق للسوق، أي إغراق السوق ببضاعة منخفضة السعر لطرف المنافسة حتى إذا ما تم الغرض المنشود بدأ رفع السعر تدريجيا حيث تعود الناس على شراء تلك السلعة أو السلع
          وأذكر أن مالياً تجارياً يهودياً عندما قرر فتح متجر ضخم في مدينة جنيف التي بها متاجر ضخمة لجأ إلى نظرية الإغراق (Dumping)أعلن إعلانات في الصحف والإذاعات عن بيع دجاجة مطهية وكيس من البطاطس المحمر وزجاج نبيذ بثلاثة فرنكات ونصف فرنك وكانت إعلاناته متواصلة بحملات دعائية ذات جاذبية وكان من الطبيعي أن تلقى الإعلانات اهتماماً واسع النطاق لدى سكان المدينة إذ أن الثلاث فرنكات ونصف الفرنك لم تكن تكفي لشراء فرخة من أي متجر آخر فإذا بها تشتري وجبة كاملة من دجاج وبطاطس ونبيذ وتدفق الناس على المتجر الذي كان يعرض بضائع مختلفة بأسعار أقل من التكلفة ودلت نتائج السنة الأولى للمتجر على خسارة عدة ملايين من الفرنكات ولكنه بعد ذلك أصبح يحقق أكبر المبيعات بين المتاجر الكبيرة وأعظم الأرباح إذ رفع الأسعار تدريجياً بعد تعود الناس على متجره.
          هكذا انفتحت الأسواق للبضائع وللخبرات الإسرائيلية فإنها ستتخذ الأساليب الجذابة التي تعطي القناعة بأن الشعوب العربية قد حققت الفوائد من التعامل مع إسرائيل وتدريجاً بليونة وصبر ونفس طويل تقوى مصالح إسرائيل ويزداد تسربها إلى اقتصاد الدول العربية.
          سبق أن نشرت في "الشرق الأوسط" أكثر من مرة عن الأطلس الذي أعدته إسرائيل سنة 1965 أي قبل حرب 5 يونيه بسنتين وهذا الأطلس الإسرائيلي يوضح رؤية إسرائيل لما يجب أن تصل إليه في علاقاتها مع الدول العربية. والأطلس مكون من عدد من الصفحات في كل صفحة تتخصص في أمر من الأمور فهناك صفحة للتعليم والجامعات وصفحة لطرق الانتقال السريعة وصفحة للزراعة وصفحة للطائرات المدنية وصفحة للصحة وأخرى للصناعة وأخرى للتجارة. وهكذا كل نشاطات الحياة في الدول مرصودة في ذلك الأطلس بأرقام ودراسات.
          الأطلس يؤكد الإصرار الإسرائيلي على السيطرة إذ أن كل الصفحات تربط الدول العربية من المحيط إلى الخليج بإسرائيل فالرأس والمركز لأمور الدول العربية في هذه المجالات ينتهي في تل أبيب (لم تكن إسرائيل قد احتلت الجزء العربي من القدس) فالطرق السريعة تتلاقى في إسرائيل والثقافة والجامعات والتعليم المركز الرئيسي في تل أبيب...وهكذا... وهكذا...
          ها ما رسمته إسرائيل وطبعته ووزعته فهل فكرت دول عربية في رسم خطط تقي العروبة واستقلالها الاقتصادي والثقافي من أحلام الهيمنة الإسرائيلية؟!
          إني أؤيد السلام لأن الدول العربية لن تستطيع في الوقت الحاضر تحرير الأرض المحتلة ولأن الفلسطينيين قد طال عذابهم ولكني في نفس الوقت أعارض تبادل العلاقات التي تحدثت عنها لأن الدول العربية يجب أن تتجنب إغراءات هذه العلاقات كي لا تمكن إسرائيل أن تسرب سيطرتها عليها.
          كم كنت أتمنى أن تكون دولنا العربية قد وصلت علمياً وصناعياً وخبرة إلى المستوى الذي وصلت إليه كثير من الدول في شرق آسيا لأنها لو كانت كذلك لما خشيت من السيطرة الإسرائيلية...ولكن هذا غير قادم وثمن ذلك فادح.
         





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية