والدي رحمه الله ووداع إكستر ووداعات أخرى


كان لوالدي رحمه الله أثر في مسيرتي في الكتابة، فكانت نصيحته لي ذات يوم: اكتب ولا يهمك أن ينشر لك: في بريد القراء أو في أي صفحة من الصحيفة، سيأتي اليوم الذي تجد مقالك منشوراً في أهم صفحات الجريدة... لم يضع والدي شروطاً ومنها مثلاً عليك أن تطور نفسك، كأنه كان رحمه الله من شدة الثقة التي أعطاني إياها يدرك أن هذا ما سأفعله. وتذكرته يوم أن أرسلت مقالة إلى صحيفة المسلمون، وكان رئيس تحريرها حينذاك الدكتور عبد القادر طاش رحمه الله تعالى، وكانت مقالتي بعنوان (لماذا يخوفون الغرب بالإسلام؟) وكان هذا عام 1410هـ (هذه من أول المقالات في الصحافة العربية التي تناولت الخوف من الإسلام) ونشرت المقالة في صفحة الرأي مع مقالات كبار الكتاب من أنحاء العالم الإسلامي. وقال لي الدكتور عبد القادر إنه اعتقد هو والدكتور بكر بصفر المشرف على صفحة الرأي أن تلك المقالة كانت من أفضل المقالات في تلك الصفحة. وذكرا أن من مزايا المقالة أنها تقدم حقائق وفكر ورأي، وليست مجرد خواطر ودردشة كما يفعل كثير من الكتاب
ودعت والدي حين سافر إلى لندن، ثم ودعته بعد وفاته إلى رحمة الله وما زلت لا أعرف وداعاً أصعب منه

ولكن وداعاً آخر حدث في عام 1421هـ(2001م) أعادني إلى لحظات الوداع الصعبة، وهو ما سأحكيه هنا...
في عام 1421هـ كان قد صدر قرار وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية د. سليمان أبا الخيل (مدير الجامعة حالياً) بإحالتي إلى العمل الإداري ومنعي من التدريس في كلية الدعوة بالمدينة المنورة. وكانت أوضاعي الأسرية قد تدهورت ووصلت إلى حد الطلاق بعد زواج دام اثنتين وعشرين سنة
في تلك السنة كنت أنتظر إجراءات ترقيتي من أستاذ مساعد إلى أستاذ مشارك وكانت أوراقي متعثرة في أدراج عميد الكلية الدكتور علي بن دخيل الله الحازمي، فإذ بصديق يزورني ومعه الأخبار السارة: توقف عن النشاطات العلمية من مؤتمرات ومحاضرات وغير ذلك حتى يرضى عنك العميد ويرفع أوراق ترقيتك ويكتب تقريراً جيداً عنك-انظروا إلى المعايير العوجاء-وكنت حينها أنوي حضور مؤتمر مهم في إكستر في شهر مايو 2001م. ولكني خططت أن أسافر إلى إكستر عن طريق المغرب حيث أخطب فتاة مغربية في طريق سفري.
وها أنا أودع إكستر... لقد جمعت هذه المدينة وبين أسرتي أوقاتاً لا يمكن أن تتوفر في أي بلد آخر، فالأوقات التي قضيتها مع هاشم وأم هاشم ثم فاطمة في أربعة أشهر تعادل ما يقضيه الزوج عادة مع أسرته وفي بتيه في سنوات. فلا حياة اجتماعية في إكستر قابلت أناس قليلين ولكن لم تنعقد الصلات بيني وبيهم إلى الدرجة التي نلتقي فيها خارج إطار الجامعة، فأخرج أحياناً أسير في الشارع الذي أقيم فيه وأنظر إلى البيوت ومنها بيت جاري أو الجيران فأقول أليس هناك أحد يهمه أن يعرف من هذا الغريب المقيم بيننا؟ من هذا الذي يخرج يومياً هو وزوجه المحجبة وأطفاله؟ لا أحد يريد أن يعرفك، ومن الصعب أن تفرض نفسك على الآخرين.
     أودع إكستر بحزن شديد لأنني سأفتقد الخضرة التي أراها في كل مكان، ويفتقد هاشم الملاعب والحدائق القريبة والبعيدة. لقد أصبحت الملاعب جزءاً مهما من برنامجه اليومي ليصرف طاقته في المراجيح، أو الانزلاق على لعبة الانزلاق أو المشي على الحبل أو اللعبة بالكرة. فأين سأذهب بهاشم كل يوم في الرياض...
سأفتقد في إكستر الخدمات الطبية التي تستطيع أن تحصل على موعد مع الطبيب من خلال الاتصال الهاتفي-في أغلب الأحيان لا تستطيع أن تتحدث مع أحد في عيادات أعضاء هيئة التدريس هاتفياً-عليك أن تحضر بنفسك وتقود سيارتك أكثر من عشرين كيلومتراً ثم توقف السيارة وتمشي في حر الرياض اللاهب أكثر من ربع ساعة لتصل إلى الموظف وتطلب الموعد. ثم إن العيادات ليس فيها سوى الطبيب العام أما إن أردت طبيب نظر فعليك أن تنتظر عدة أشهر. وأتعجب كيف تهمل الجامعة عندنا علاج الأستاذ بهذا الشكل، فهو لو كان عاملاً في شركة متعاقدة مع مستشفى خاص يستطيع أن يرى أي طبيب متخصص خلال أيام. كدت أتوقف عن العمل لأن الأستاذ يحتاج نظره ليقرأ ويرى فكيف لا تعالجه الجامعة إلاّ بعد أربعة أو خمسة أشهر؟ أما لو أراد أن يرى طبيب قلب فمسكين قلب ذلك الأستاذ ليموت قبل أن يرى الطبيب..
سأفتقد في إكستر الاتصال بالإنترنت السريع المجاني – كنت محظوظاً أن أحد الجيران عنده اتصال بالإنترنت اللاسلكي ومفتوح ويعمل يومياً من السادسة صباحاً حتى العاشرة ليلاً-فعلي الآن أن أدفع فاتورة هاتف وانترنت بطيء والحمد لله على كل حال.
      وداعاً إكستر ولكني سأعود إن شاء الله لأسمع الأذان –حبذا لو تعاقدوا في الرياض مع مؤذنين حسني الأصوات – وستكون الفرصة للصلاة الجماعة في أغلب الصلوات، وسأعود إن شاء الله لأرى الزملاء والطلاب ومن يهمه أن يعرف عن الاستشراق
وداعاً إكستر ولكني سأعود لأرى مديني الحبيبة مدينة سيد الخلق المدينة المنورة وأزور الحبيب صلى الله عليه وسلم وأزور طيبة الطيبة وأتنسم عبيرها، وأزور والدتي الحبيبة التي غبت عنها مدة طويلة وأنا في أشد الشوق لرؤيتها لألثم يديها وقدميها وأتزود من دعائها ورضاها، وألتقي إخواني وأخواتي وأقاربي جميعاً.. 

فوداعاً إكستر فقد كانت أياماً أكثرها راحة واستجمام وقليل من النشاط العلمي، ولكنها كما يقولون استراحة المحارب فإلى لقاء

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلخيص كتاب منهج البحث التاريخي للدكتور د. حسن عثمان

الكلمات النورانية: وتحمل الكل

الإسلام وتعلم اللغات الأجنبية